أربع ملاحظات حول تقرير ممارسة وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية للتعذيب
أربع ملاحظات حول
تقرير ممارسة وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية للتعذيب
د. عبد الحميد صيام
نشرت لجنة الاستخبارات التابعة لمجلس الشيوخ الأمريكي يوم الثلاثاء الماضي ملخصا صغيرا لا يتجاوز خمسمائة صفحة لتقرير مفصل تجاوز الستة آلاف صفحة، حول قيام وكالة الاستخبارات المركزية المعروفة بـ»السي آي أيه» بين عامي 2002 و2008 بممارسة أنواع عديدة من التعذيب. كما يوثق التقرير المواقع التي مورس فيها التعذيب والدول التي استقبلت المتهمين لانتزاع اعترافات منهم تحت التعذيب، وأسماء الأطباء والمحامين والخبراء الذين ساهموا فيها، والضباط الذين نفذوا عمليات التعذيب. التقرير بالفعل ملأ الدنيا وشغل الناس، لأنه يوثق انتهاكات وكالة الاستخبارات المركزية للقانون الأمريكي، الذي يحرم كافة أشكال التعذيب من جهة، ومن جهة أخرى، تعتبر هذه الممارسات انتهاكا لالتزام الولايات المتحدة بالاتفاقية الدولية لحظر التعذيب لعام 1984، التي دخلت حيز الإلزام بتاريخ 26 حزيران/ يونيو 1987. فقد وقعت الولايات المتحدة الاتفاقية عام 1988 وصادق الكونغرس رسميا عليها بتاريخ 21 تشرين الأول/أكتوبر عام 1994، وبالتالي أصبحت جزءا من القانون الأمريكي ولها قوة الإلزام. كما أن ممارسة التعذيب تعتبر انتهاكا لما يسمى «المبادئ والقيم الأمريكية» القائمة على احترام حقوق الإنسان ونزاهة القضاء وسيادة القانون، وعدم التمييز على أساس الدين أو اللون أو الجنس أو العرق، التي يفاخر الأمريكيون بأن قوتهم الناعمة الممثلة في هذه المبادئ قد تكون أقوى من الصواريخ العابرة للقارات والأساطيل وحاملات الطائرات. ولذا نود هنا أن نسجل بعض الملاحظات المرتبطة بالموضوع.
الملاحظة الأولى- تاريخ من الإجرام والانتهاكات
هذا التقرير هو غيض من فيض، فلوكالة الاستخبارات المركزية باع طويل في الإجرام وانتهاك سيادة الدول ودعم الطغاة وتدبير الانقلابات والخطف والقتل والإخفاء القسري. وهناك مئات الأمثلة ولكنني سأذكر القراء بأكبر تلك الجرائم.
- 1953 إيران- الإطاحة بمحمد مصدق القائد الإيراني المنتخب ذي الشعبية العارمة، عندما قرر أن يؤمم البترول الإيراني، قام الشاه محمد رضا بعزله، فهب الشعب الإيراني نصرة لمصدق، ما اضطر الشاه إلى أن يهرب من البلاد ويلجأ إلى روما. لكن الـ»سي آي أيه» دبرت الانقلاب المشهور بعد أيام، وأطاحت بمصدق وأعادت الشاه من منفاه ليبقى في الحكم 26 سنة أخرى، أذاق فيها الشعب الإيراني كل أنواع القهر والقتل، بمساعدة جهاز السافاك الذي كان حليفا أساسيا للموساد. أودع مصدق السجن ثلاث سنوات ثم بقي تحت الإقامة الجبرية إلى أن توفي عام 1967.
- 1973 تشيلي- الإطاحة بسلفادور أليندي (يلفظ أيندي) قائد تشيلي المنتخب بطريقة ديمقراطية عام 1970، لكن ميوله اليسارية وعزمه على تأميم البنوك والشركات الكبرى لمساعدة فقراء بلده لم يعجب الرئيس الأمريكي نيكسون، فأوعز للوكالة أن تطيح به عن طريق انقلاب عسكري بقيادة الجنرال أغسطو بينوشيه، الذي حكم البلاد 17 سنة بالحديد والنار، ففاضت السجون بآلاف المعتقلين وشرد عشرات الألوف وقتل الكثير من الكتاب والفنانين والمغنين، وعلى رأسهم أعظم شعراء أمريكا اللاتينية بابلو نيرودا وصديقه المغني فكتور هارا (على طريقة الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم).
- 1980 السلفادور. ناشد المطران أوسكار روميرو الرئيس الأمريكي جيمي كارتر بعدم دعم الحكومة الفاشية، التي تقتل شعبها. رفض كارتر الطلب. وبعد فترة قصيرة قتل المطران رمويرو وهو يؤدي مناسك الصلاة في الكنيسة، فانطلقت حرب أهلية مدمرة لمدة 12 سنة أتت على أكثر من 63000 إنسان. وكانت وكالة الاستخبارات المركزية تشرف على تدريب وتسليح فرق القتل والاغتيالات، التي أوغلت في دم السلفادوريين إلى أن سقطت الحكومة الفاشية على يد ثوار جبهة التحرير الوطنية بقيادة المناضل المنحدر من مدينة بيت لحم شفيق حنضل ورفاقه.
الملاحظة الثانية ـ دول التعذيب
يحتوي التقرير على أسماء أكثر من ربع دول العالم قامت بالتعاون مع وكالة الاستخبارات المركزية لاستقبال المتهمين وفتح مراكز الاعتقال، والقيام بمهمة التعذيب الحقيقي الذي لا يخضع لرقابة أو منظمات حقوق إنسان أو قانون أو أخلاق أو ضمير. لقد وعدت الولايات هذه الدول بأن يبقى التعاون سريا بينها وبين الـ»سي أي ايه»، لكن لسوء حظها أن الولايات المتحدة عندما يتحول الموضوع إلى قضية تجاذب داخلي ومنافسة بين الأحزاب وقضية «رأي عام» فلا احترام لتلك الدول التي لا تحترم نفسها وتريد أن تمارس النوم في سرير الولايات المتحدة ظانة أنها علاقة حب لتكتشف أنها علاقة السيد بالعبد. قد نفهم حماسة بعض الدول المعروفة بعلاقاتها الوثيقة مع الولايات المتحدة تاريخيا، مثل المغرب والأردن ومصر والسعودية والإمارت، ولكن من له أن يفسر لي تطوع دول الممانعة بتقديم هذه الخدمات للولايات المتحدة، التي تتم مهاجمتها في الظاهر بشكل يومي، مثل سوريا وليبيا والجزائر وإيران. وتصنف الدول إلى ثلاثة أقسام حسب نوع المساعدة: دول تحضن سجونا تابعة مباشرة لوكالة الاستخبارات (5 دول). ودول سمحت للولايات المتحدة باستجواب المتهمين وتعذيبهم فيها (13 دولة من بينها 6 دول عربية) وصنف ثالث قدم نوعا من الخدمات في عمليات التعذيب وساهم في تسهيل عمليات التعذيب في الخارج، وهي القائمة الأطول (46 دولة من بينها 10 دول عربية).
الملاحظة الثالثة- التعذيب في بلاد العرب
الشيء المضحك المبكي أن الدول العربية في غالبيتها الساحقة قد انضمت رسميا للاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب، لكن التعذيب الذي مارسته الـ»سي آي أيه» مع المتهمين يعتبر نزهة حقيقية وضحكة سمجة ونزهة ربيعية إذا ما قورن مع أصناف التعذيب التي تمارسها معظم دول النظام العربي «الواحد أو شبه الواحد». لقد تفننت الأنظمة الفاشية في إبداع فنون جديدة تستحق عليها براءة الاختراع، لأن أحدا لم يسبق له أن استعملها.
وأريد أن أعفي القارئ من قراءة بعض الفقرات من تقارير المقررين الخاصين لانتهاكات حقوق الإنسان في العديد من الدول العربية وأسوأها على الاطلاق العراق وسوريا، حيث ينتشر القول المشهور في البلدين «الداخل مفقود والخارج مولود». والتعذيب على طريقة الأنظمة العربية يتسم بالهمجية وانعدام أي خلق أو شفقة أو رحمة أو لحظة استيقاظ ضمير. والأدهى والأمر أن التعذيب ليس مقصورا على المقاتلين أو المعارضة المسلحة أو الإرهابيين، بل يشمل الأطفال والنساء والعجــــزة والمسنين وأقارب المطلوبين وجيرانهم وأساتذتهم وأصدقاءهم. كما أن من سمات التعذيب على طريقة الطغــاة العرب أن ينتهي إلى موت محقق أو عاهات دائمة أو ضرب من الجنون أو الهوس أو الانفصام.
الملاحظة الرابعة- الخشية من تسريب التقرير
لا نعتقد أن النظام العربي حتى مع فضح أسماء المتعاونين في عمليات التعذيب، سيتحرك بشكل جاد وحقيقي لتغيير مسلكيته والاستمرار في الارتماء في أحضان الولايات كعملاء لا أندادا. أما عن الجماهير فصورة الولايات المتحدة قبيحة من الأصل، وهذا التقرير إنما يعزز ما هم مقتنعون به أصلا، فقد شاهدوا ما كان جنود الاحتلال الأمريكي يعملون في العراق وشاهدوا سجناء أبو غريب وما قاموا به في أفغانستان وما قدموه لليمنيين وغيرهم. الصورة قبيحة أصلا بسبب موقف الولايات المتحدة من المجازر التي ترتكبها إسرائيل بحق العرب عامة والفلسطينيين خاصة، فتخرج الولايات المتحدة لتبرر لإسرائيل جرائمها تحت حجة «حقها في الدفاع عن النفس» ثم تقوم بتزويدها بالسلاح وتحميها من المساءلة الدولية وتستخدم الفيتو كل مرة تقترب أصابع القرار من إسرائيل حتى إنها استخدمته 44 مرة لصالح إسرائيل وإدانة العرب والفلسطينيين.
أما أن تستخدم هذه المادة لـ»داعش» وأخواته للتحريض على قتل الأمريكيين فلا نعتــــقد ذلك أيضا لأن «داعش» أنشئ لا ليؤذي الأمريكيين أو الإسرائيليين فهم أصلا من ساهم بإنشائه، بل ليقتل المسلمين ويدمر القرى والمدن والمعالم التاريخية ويخلق تصنيفا جديدا للشعوب قائم اعلى أساس طائفي، ثم ينشر الرعب، فيعدم من يخالفه وعندما تنتهي قوائم أعدائه الطويلة (فيما لو فرضنا أنه سينتصر) فلن ينقل معركته لإسرائيل. فليطمئن الغرب من هذه الناحية.
وأخيرا لنا أن نتعلم درسا من هذا التسريب، وهو أن الدولة القوية (أو العميقة على رأي الفلول) القائمة على المؤسسات لا تخشى من التسريب والتعرض للنقد حتى لو كان جارحا أحيانا، بل إن هذا العمل قد يكون فرصة تاريخية لتبييض الأسود وتجميل القبيح وتخليع الشوك باليد والنظر إلى المرآة من جديد، فالدول الديمقراطية الحقة لا تخشى من قول الحقيقة، حتى لو كانت مؤلمة. الخوف ليس من يضع أوراقه مكشوفة على الطاولة، بل الخوف كل الخوف من المنافقين والأفاكين الذين يدعون في العلن سياسة معينة تبدو متوازنة ووطنية ولكنهم في الخفاء يمارسون سياسة نقيضة تماما ليس لهم كقيادات فحسب بل وللمصالح العليا لبلادهم.