جانب الوطن ..
جانب الوطن ..
وجانب الطائفة !
أ.د. حلمي محمد القاعود
[email protected]
كتب
" يوسف سيدهم " في جريدة الدستور ( الأحد 20/4/2008م ) مقالاً تحت عنوان " مسرح
اللا معقول في انتخابات المحليات !! " حلّل فيه بعض ما جرى في هذه الانتخابات ،
وانتهى إلى طرح بعض التساؤلات من قبيل " إننا إزاء نحو 52 ألف مقعد فليقل لنا الحزب
الوطني كيف تم شغل تلك المقاعد ، وإجمالي عدد من شغلوها على مستوى الجمهورية من
الحزب الوطني ومن الأقباط ومن السيدات ؟؟!! " ( علامات التعجب والاستفهام وضعها
يوسف سيدهم وليست من عندي ) .
ثم
ختم مقاله بالقول " تلك الحلقة الثانية من فصول مسرح اللامعقول في انتخابات
المحليات ، ويبدو أن الوسائل التي تم بها اختطاف هذه الانتخابات ستستمر في الكشف عن
نفسها ، ومن خلال شهادات المواطنين المصريين وتقارير المراقبين " وهذا المقال نشر
في اليوم نفسه بجريدة " وطني " التي يرأسها " يوسف سيدهم " ، وتنطق باسم الكنيسة
المصرية الأرثوذكسية .
في
ثنايا المقال إشارات إلى بعض ملامح عسف السلطة البوليسية الفاشية في استقبال أوراق
المرشحين للانتخابات المحلية ، وهذا العسف وصلت شهرته الآفاق ، وتحدث عنه الثقلان ،
حيث كانت السلطة تجند الموظفين وغيرهم للوقوف في الطوابير أمام اللجان المختصة
بقبول أوراق الترشيح لمنع المغضوب عليهم من الترشيح ، وفى الوقت ذاته لا تتحرك
الطوابير لسبب وآخر ، وعندما يصل المرشح المقصود منعه من الترشيح أو يقترب من
اللجنة المختصة ؛ يكون وقت التقديم قد انتهى . وكانت هناك وسائل أخرى لمنع أبناء
الجارية من المشاركة في الانتخابات ، منها تأخير استخراج صحيفة الحالة الجنائية حتى
ينتهي الموعد المحدد للتقديم ، ومنها الوسيلة الأخطر والأكثر إجراماً وهى اعتقال
المرشحين وإطلاقهم بعد انتهاء الانتخابات أو إبقاؤهم إلى أجل غير مسمى في السجون ،
ومنها افتعال مشكلات ومعارك بوساطة البلطجية مع طالبي الترشيح حتى يدخلوا في متاهات
لا يخرجون منها إلا بعض أن ينفض المولد !
بالطبع كان المقصود من هذا التعسف ، منع التيار الإسلامي بصفة عامة ، والإخوان بصفة
خاصة من الترشيح ، بالإضافة إلى بعض الناشطين المؤثرين من المستقلين . وامتد المنع
إلى المتمردين في الحزب الوطني ذاته مما أدى إلى استقالات تحدثت عنها الصحف في حينه
، وتضامن بعض نواب الوطني في مجلسي الشعب والشورى مع المحرومين وأعلنوا استقالتهم
من الحزب ، ولم يتم العدول عنها إلا بعد ترضيات قام بها أبناء الست ، للحفاظ على
هيبة الحزب أو السلطة .
لم
يكن المقصود بحال ، كما ذهب يوسف سيدهم في مقاله حرمان غير المسلمين أو النساء من
المشاركة السياسية في المحليات . وكنت أتمنى ألا يقصر التمثيل بالمنع على اثنين من
المنتمين إلى الكنيسة تم العسف معهما وعدم قبول ترشيحهما .. تحت حجة " التوازنات "
كما أخبرهما الضابط المسئول . ومع أن مقال يوسف سيدهم ؛ بدأ بداية جيدة تتحدث عن
الموضوع بوصفه قضية وطنية عامة تشمل أبناء الوطن جميعاً إلا أنه انتهى نهاية مؤسفة
بالحديث عن الطائفة والتمثيل من خلالها ، وكأنه لا يعلم أن السلطة البوليسية
الفاشية ، لا تبالي بالأشخاص من حيث الانتماء الديني ، ولكنها تركز على الانتماء
السياسي والاتجاه الفكري ، وقبل ذلك وبعده : الولاء والمعارضة !
وقد
يكون المقال أمراً هامشياً عابراً في سياق مئات المقالات التي تكتبها الصحف يوميّاً
، وتصدر عن مختلف الاتجاهات والتيارات ، ولكن الأمر مع يوسف يختلف ، لأنه ينطق باسم
الكنيسة ويفترض أنه يعبر عن توجه وطني عام ، ويدعو إلى ما يُسمى بالمواطنة ( وهل
هناك وطن إلا لأبناء الست ؟ ) .
والتعبير عن الكنيسة فيما أتصوّر أو فيما يُفترض ، يجب أن يعلو على الإحساس الطائفي
، وأن يُعالج الأمور في سياقها حرصاً على وحدة الوطن . إن منع أبناء الطائفة من
الترشيح لا يُقاس إلى ما جرى بالنسبة لبقية أبناء الوطن من غير الطائفة ، الذين تم
اعتقالهم واقتحام بيوتهم وترويع أسرهم والتشهير بهم على صفحات الصحف التي تتلقى
تعليمات من لاظوغلي وغيره . وكنت أنتظر من يوسف أن يسمو فوق الطائفية ، ليكون
معبّراً عن الوطن كله ، وعن قضية من أخطر قضايا الوطن ، وهى احتكار السياسة والثروة
والجاه والنفوذ . وهذا الاحتكار الذي يُعانى منه أغلب الشعب المصري البائس ،
تُستثنى منه الطائفة إلى حد بعيد ، حيث لا يُمكن اعتقال أحد أبنائها ولا اقتحام
بيته ، ولا ترويع أسرته ولا التشهير به في الصحف المأجورة . وهى سلوكيات نتمنى ألا
تقع لمخلوق على أرض مصر أيا كان معتقده أو انتماؤه أو مذهبه أو فكره .
كان
يُفترض فيما يكتبه يوسف أن يُعبّر عن الوطن بأسره ، وخاصة أنه يخرج بمقاله عن نطاق
جريدة الطائفة إلى جريدة عامة ، وأن يطرح المسألة في إطارها الصحيح ، ويدين السلوك
البوليسي الفاشي ، ويدعو إلى نظام ديمقراطي حرّ ، تكون فيه الفرصة لأفراد الشعب
جميعاً كي يتنافسوا على خدمة الوطن ودعم تماسكه وتقدمه .. بدلاً من النواح الطائفي
البغيض الذي لم يعد مقبولاً في ظل امتيازات لا تحظى بها الأغلبية المسحوقة تحت
بيادة البوليس ، فلا تستطيع التعبير عن رأيها ولا المشاركة في قضايا الوطن ، ولا
تتمتع بالمحاكمة العادلة أمام قاضيها الطبيعي .
وسأضرب مثالين ، لأشير إلى أن الطائفة محظوظة وتمتلك امتيازات فوق المعروف والمألوف
والسائد والمعتاد بالنسبة للأغلبية الساحقة ..
المثال الأول : أن صاحب هذا القلم –وهو من المسالمين الذين لا يحبون العنف ، ولا
يؤمن بمنهج الإرهابي كارلوس ، ولا السيارات المفخخة - لا يستطيع الآن أن ينشر
مقالاً في جريدة حزبية أو مستقلة فضلاً عن الجرائد الحكومية ، بل لا يستطيع أن ينشر
خبراً عن كتاب له في معظم الصحف التي تصدر في المحروسة ، بينما يوسف يُكرر نشر
مقاله مرتين في يوم الأحد ، ولو أراد نشره في عشرات الصحف لتحقق له ذلك .
المثال الثاني : يعيدنا إلى قانون الصحف الخاصة الذي صدر في أواخر عهد الرئيس
السادات – رحمه الله – والقاضي بإلغاء ترخيص الصحيفة عند وفاة صاحب الترخيص . وكان
المقصود بالقانون في حقيقة الأمر الصحف الإسلامية وحدها ، وقد تم تطبيقه بقسوة
وبشراسة على مجلتي " الاعتصام " و " الدعوة " ، وكانتا شهريتين ، وتوزعان أعداداً
غير كبيرة ، وبمجرد وفاة صاحبيهما : الشيخ " أحمد عيسى عاشور " و الشيخ " صالح
عشماوي " – عليهما رحمة الله – لم يسمح النظام بتوزيع العدد الذي تم طبعه يوم وفاة
كل من الرجلين منذ عشرين عاماً للأولى وثلاثين للثانية تقريبا ، ولم يسمح بقيام
الشركة التي أُريد تأسيسها فيما بعد لإصدار " الدعوة " مع اكتمال كل الأوراق
المطلوبة . ولكن حين مات والد يوسف سيدهم وهو الأستاذ " أنطون سيدهم " صاحب ترخيص
صحيفة " وطني " ؛ فإنها لم تتوقف أسبوعاً واحداً ، وتمت الموافقة على الشركة التي
تم إنشاؤها لإصدار الجريدة بسرعة الصاروخ ، ولم يحدث أن اختلقت لها السلطة مشكلة
واحدة ، كما فعلت – وتفعل - مع غيرها ؛ وعلى سبيل المثال فقد عصفت بحزب العمل من
أجل منع إصدار جريدة " الشعب " ، ولم تنفذ أربعة عشر حكماً نهائياً لإعادة الحزب
والجريدة . . أليست الطائفة محظوظة للغاية ؟!