حتماً إنه رجلٌ ثرثار
د.عبد الغني حمدو /باحث وأكاديمي سوري
لحيته طويلة غلب عليها البياض , ووجه مجعد تظهر كأنها أخاديد لأرض حرثت بمحراث قديم , تنبؤ ناظرها بهموم الأرض كلها حطت على ذلك الرجل الكبير
يخرج دخان النركيلة من بين شعرات لحيته كحريق في غابة ممتدة أمام عينيك من مكان بعيد في جو مشمس
وأمامه طاولة ويعكر صفو جلسته الحالمة تلك
يحيه رجل يعرفه , فيرد عليه التحية باقتضاب ويتململ من وجود هذا الضيف الثقيل
إنه يقطع عليه حلمه , إنه حتما سيزعجه
لكن العادات العربية تمنعه من طرده
وبدأ الضيف الكلام
وقال نهر العاصي في سورية , أراد أن يعاكس الأنهار كلها في الإتجاه
ولذلك سموه بنهر العاصي , ولكن عندما شعر بموقفه المعيب من إخوانه اعتدل عن العصيان واستقام
فبدلا من أن يتجه شرقا سار ليجري بين سورية وتركية
وأرادت اسرائيل منه خيرا فمنعتها تركية فغضب العاصي , ونادى بالصلح
تصور نهر العاصي وهو عاصي ينادي بالصلح ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟!!!!!!!!!
وازدادت الأخاديد في وجه الرجل الكبير عمقا , وبدأت ترتجف عندما حاول الدخول في الكلام , واستبدل الكلام بنفس عميق , مع قرقعة الفقاعات المائية بالزجاجة وكأنها تريد أن تفجر المكان برمته
ولم يمنع الرجل الآخر المتابعة صمت الرجل المتلقي
فتابع الكلام
نهر النيل أطول أنهار العالم يعيش في منفاه الأخير بعد أن وهبوه للكيان الغريب في فلسطين
نهر الأردن مرتعا لهم أين أصبحت أنهارنا ؟
كنا نسمع بترول العرب للعرب
كنا نسمع بلاد العرب أوطاني
كنا نسمع؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
والآن وقبل الآن منذ زمن طويل
لن تكون هناك شجرة تنبت بالثمر من جديد , لن تكون هناك وردة قادمة من مجدي العتيد , لن تكون بيدنا ورقة غير صور شتى من عمق ألحان البوب والستريبتيز
ضاعت معاقلنا ضاعت أحلامنا
حتى دجلة والفرات عصت دربها واتجهت للشرق البعيد
يكلم الرجل المهموم نفسه
لايمل أبدا هذا الرجل أبدا ؟
يصب جام غضبه على الأنهار
يبدو أنه مازال صغيرا يبدو أنه لايعرف
يبدو أنه لم يغتسل منذ زمن طويل , الماء مقطوعة حتما عن منزله وكانت الليلة الماضية ليلة الخميس
الحمد لله أنا لست متزوجا بعد
ويقطع عليه حديثه لنفسه وشروده هذا
رفوف غربان سود تمر فوق رأسه حجبت نور الشمس
فعلق الآخر على تلك الغربان وقال
ستجدين في كل زاوية مرتعا من بلدي , فقد اختفت النسور منها منذ زمن بعيد
لاتخافي فلن تجدين هنا عدوا
ولن تجد إلا الموتى
فنظر الرجل المسن نحوه نظرة خفية من وراء الدخان ليقول معلقا على كلامه
ولكن فضل الكلام لنفسه وقال:
لاتحلم يابني في غد قد حلمته من قبلك
فانظر لوجهي ينبؤك بأحلامي
فلن تر فيه إلا سوط جلاد , وظلام زنزانة , وهم وغم على فقدان أخ وصديق وقريب وبعيد
وأخذ ينظر لفقاقيع الزجاجة , وكأنه يرى ثرثرة الرجل المقابل فيها
ليقول في نفسه عن الرجل بعد أن غادره
جقا إنه رجل ثرثار