مدينة داود .. وفضيلة الجنرال
أ.د. حلمي محمد القاعود
[email protected]
في الأحوال البائسة التي تمر بها الأمة
الإسلامية ، يفترض أن يكون علماء الدين ، هم عين الأمة التي ترى بصفاء ووضوح ،
وترشد الناس إلى الطريق الصواب ،مهما كان الطريق صعبا وشاقا ومضنيا ، فالحفاظ على
الدين ، ووطن الإسلام ، وكرامة الإسلام ، مسألة لا تفاوض حولها ، ولا يجوز التفريط
فيها بحال .
فضيلة الجنرال الوزير لم تشغله قضية
مهمة في الوطن أو العالم الإسلامي ، فرأى أن زيارة القدس بتأشيرات نازية يهودية من
جانب ملايين المسلمين هو دعم للشعب الفلسطيني ، وتأكيد على هوية القدس العربية
الإسلامية ! واستشهد فضيلة الجنرال بصلح الحديبية ورغبة النبي – صلى الله عليه وسلم
– في أداء العمرة ، وقريش تسيطر على الكعبة ، والأصنام تحيطها من كل جانب ..
الاستشهاد الذي اعتمد عليه فضيلة
الجنرال باطل ، والقياس عليه قياس فاسد ، فقريش لم تكن قوة احتلال ، والكعبة لم تكن
قد تطهرت من الأصنام ، فقد كان وضعها التاريخي ناشئا قبل الإسلام ، وزيارة المسلمين
للعمرة ، جاءت من أجل التعبير عن الدين الجديد .
وينسى فضيلة الجنرال أن بلاد المسلمين
حين تقع في قبضة العدو ، فالجهاد ، الذي يعده بعض العلماء الركن السادس ، يصبح فرض
عين على جميع المسلمين ، لتخليصها من الأسر ، وردع العدوان ، ولكن حين يعلن قادة
الإسلام أن السلام خيار استراتيجي ، وأن ثقافة السلام يجب تدريسها للأطفال والشباب
دون أن يذكروا أن فلسطين محتلة ، وأن القدس تئن في الأسر ، فهذا أمر يوجب على علماء
الإسلام المفترضين أن يصححوه ، وأن يقولوا للقادة ، إن السلام يتحقق بعودة الأراضي
والمدن المغتصبة ، وأن مواجهة العدو مهما كان متوحشا ، ويملك من أدوات القهر والسحق
ما لا طاقة للمسلمين به واجب شرعي ، ولا تعني قوته ووحشيته الاستسلام له ، والرضا
بالأمر الواقع ، لأن المسلم أمامه نصران : الأول هزيمة العدو في الميدان ، الآخر
الشهادة والفوز برضا الله .. والدروس العملية الواقعية تؤكد صحة المنهج الإسلامي في
الجهاد دفاعا عن الدين وحوزة الإسلام .
إن دعوة وزير الأوقاف الفلسطيني السيد
الهباش إلى زيارة القدس لدعم القضية الفلسطينية ، ليست أمرا مقدسا ، لأنها في حقيقة
الأمر دعوة لتأييد سلطة رام المحدودة التي تنفذ أوامر الغاصب المحتل ، لذا كانت صحف
الغزاة من أسعد الناس بتكرار الدعوة على لسان فضيلة الجنرال من القاهرة ، وعدت ما
قاله فضيلته كسرا للحصار المضروب على كيان الغزو النازي اليهودي من قبل الأمة
الإسلامية !
الأمة الحقيقة تسلك الطريق السليم
لتحقيق أهدافها ، والعدو المجرم الآثم أعلن قبل ثمانين عاما أن منهجه هو الدم
والدموع ، واستطاع بفضله أن يهجّر أبناء الشعب الفلسطيني ، وان ينشئ كيانه العدواني
النازي .. ولا أريد هنا أن أتطرق إلى ما كانت تفعله المقاومة به ، وما تنزله من
خسائر تضعضع بنيانه وأركانه ، وقد استطاع بالخداع وضعف القيادات أن يحيّد المقاومة
، بل يجعلها أمرا مرفوضا لدى السلطة الفلسطينية المحدودة التي تأتمر بأمره في رام
الله .
في الوقت نفسه ؛ كان الشعب الأفغاني
البائس الفقير يقدم للدنيا مثالا رائعا في معنى المقاومة والجهاد ودحر العدوان ،
وكان قد تغلب على إمبراطوريتين من أقوى إمبراطوريات العالم في القرن العشرين ، هما
الإمبراطورية البريطانية ، والإمبراطورية الروسية ، وهو بسبيله الآن إلى النصر على
الإمبراطورية الأميركية بإذن الله . مع أن الفارق بين الأفغان وأعدائهم كبير للغاية
، ومستوى التسليح لدى الطرفين معروف للناس كافة !
لقد تمنيت من فضيلة الجنرال الوزير أن
يأخذ موقفا إسلاميا من إعلان الغزاة القتلة عن نيتهم وعزمهم وتخطيطهم وبداية
تنفيذهم لمدينة داود في القدس الشرقية ليتم ضم القدس الشرقية إلى القدس الغربية
بطريقة عملية وتلقائية على مرأى ومسمع من العالم الذي لا يتحرك ومن ضمنه – للأسف –
العالم الإسلامي والعربي !
نشرت صحيفة ها آرتس العبرية خطة بناء
مدينة الملك داود في قلب القدس الشرقية كما يلي : تنوى اللجنة اللوائية للتخطيط
والبناء في القدس طرح أوسع خارطة هيكلية جديدة لمدينة القدس لأول مرة منذ 50 عاما
منذ احتلال الجزء الشرقي من المدينة عام 1967، وذلك بهدف المصادقة عليها في الوقت
الذي يغادر فيه رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتانياهو إلى واشنطن للقاء الرئيس
الأمريكية باراك أوباما في شهر يوليو.
وقالت هاآرتس : إن الخارطة تشمل
بالإضافة إلى تسوية مبادئ التنظيم والبناء في القدس ، توسيع أحياء استيطانية في
القدس الشرقية، في حين أن مساحات واسعة معدة للبناء تقع تحت ملكية السكان
الفلسطينيين بشكل خاص.
وأضافت الصحيفة أن طرح هذه الخارطة
يعدّ المرحلة الأخيرة للمصادقة عليها، علما أن عشرات المهندسين المعماريين كانوا قد
عكفوا على إعداد المخطط الهيكلي في خلال السنوات الماضية، حيث تشتمل الخارطة
الهيكلية الجديدة على ما سمى بـمدينة "داوود" في حي السلوان، التي تعدّها الخارطة
"حديقة وطنية"، كما تسمح بالبناء السكنى في المنطقة نفسها، وذلك في أعقاب قيام
"جمعية إلعاد" الاستيطانية بشراء بيوت في القرية القريبة من أسوار البلدة العتيقة.
وأشارت الصحيفة إلى أن الغريب في هذا
المخطط أنه لم يحدث أي نوع من الاحتجاج لدى المجتمع الدولي أو حتى المنظمات
اليسارية (؟؟) ، إلا إنه من الممكن أن يثير جدلا سياسيا ولاسيما مع الولايات
المتحدة مثلما حدث في قضية البناء في منطقة "رمات شلومو" عندما طلبت واشنطن من
نتانياهو عدم إحداث أي تغيير على واقع المدينة حتى نهاية المفاوضات للوضع النهائي.
وقالت هاآرتس إن بلدية القدس المحتلة
أكدت موضوع الخارطة وإنها ستطرح على اللجنة اللوائية، وإن هناك مباحثات مهنية تجرى
في وزارة الداخلية الصهيونية من أجل المصادقة عليها !!
هكذا تعبر الصحيفة الصهيونية عن الخطة
الإجرامية اليهودية لتهويد القدس العتيقة ، وفضيلة الجنرال الوزير يطلب من ملايين
المسلمين أن يعترفوا بالكيان الصهيوني ، ويقبلوا بتأشيرة الغزو ، للذهاب إلى القدس
، وإنعاش الاقتصاد اليهودي الغازي ، بالشراء والإقامة ، وثمن التأشيرات ، والقبول
بالغزاة واقعا لا مفر منه !
والعجيب أن فضيلة الجنرال الوزير الذي
لم يخدم الإسلام إلا بمحاربة النقاب والختان وتغيير الخطاب الديني ، وفرض الأذان
الموحد ، وسحب مكبرات الصوت من المساجد الصغيرة ؛ يصر على الدخول في تحدٍ مع من
يعارض دعوته للقبول بزيارة القدس المحتلة من جانب ملايين المسلمين ؟
مولانا فضيلة الجنرال يتناسى الواجب
الإسلامي الذي يفرض على الأمة أن تجاهد ، ولا تتوقف عن المقاومة بكل الوسائل
الممكنة ، وأن تعدّ ما تستطيع من قوة لإرهاب العدو ومن يقفون خلفه ، ولكن فضيلته
فيما يبدو يوافق على الإذلال الذي يمارسه العدو ، ويقبل بخطة الحكومات العربية
للاستسلام التام ، وهو يعلم أن الأمم المتحدة والولايات المتحدة والمجتمع الدولي (
الصليبي) يؤيد الغزاة القتلة اليهود ، ويتبني وجهات نظرهم ( وآخرها موافقة واشنطن
على المفاوضات المباشرة بين السلطة والعدو دون وقف للاستيطان ، ودون وضع حد زمني
للمفاوضات ، فضلا عن عدم وجود أسس دولية أو حتى شيطانية للمفاوضات !) .
لا يوجد في العالم تفاوض بين قوة تحرير
وقوة احتلال في وضع غريب وشاذ مثل التفاوض بين الفسطيينيين والعرب من ناحية ، وقوة
الغزو النازي اليهودي من ناحية أخرى ، الأولى تتخلى عن سلاحها ، وتركع على قدميها
عند أقدام العدو ، والأخرى تتسلح حتى أسنانها بأقوى ما في الترسانة الاستعمارية
الصليبية من سلاح وتمارس الغطرسة في أبشع صورها ! هل يمكن أن ينتج هذا الوضع نتائج
تعيد الحد الأدنى من حقوق الشعب الفلسطيني ؟
فضيلة الجنرال الوزير ، لا تشغله قضايا
أخرى تهم الإسلام والمسلمين ، اللهم إلا القبول بالتأشيرة النازية اليهودية . لم
نسمع له صوتا في الهجمة الوحشية التترية الجديدة على العراق بقيادة الولايات
المتحدة والدول الاستعمارية الصليبية .
لم نسمع لفضيلة الجنرال الوزير رأيا في
الحصار النازي اليهودي على الشعب الفلسطيني في غزة ، ولا في العدوان الدموي الوحشي
المستمر على المدنيين العزل !
لم نسمع من فضيلة الجنرال الوزير رأيا
في إهلاك الحرث والنسل في بلاد الأفغان على يد المستعمرين الصليبيين المتوحشين ،
ولم نسمع رأيه في المقاومة الجهادية الباسلة للشعب الأفغاني المسلم !
هل سمع سيادة الجنرال الوزير عن الحرب
الضروس التي يشعلها المستعمرون الصليبيون مباشرة أو بالواسطة في الصومال العربي
المسلم لدرجة أن الأخ يقتل أخاه ؟
ليت فضيلة الجنرال يتحلى بفضيلة الصمت
، ويتفرغ لمهامه المقدسة جدا (؟) لتصفية المساجد من الأئمة والخطباء الذين لا
يروقون الجهات الأمنية – وبلاش مكافحة الفساد الذي يعشش في أركان وزارته لدرجة أن
فراشا بمكتب وكيل وزارته في كفر الشيخ دفع شيخا فاضلا على المعاش فسقط على الأرض
فاقدا للحياة !
مدينة داود وما سبقها وما سيتلوها كتاب
إدانة حي لعلماء السلطة الذين اشتروا الدنيا بالآخرة ، والله غالب على أمره !