عندما يعطينا القتلة دروساً في تربية الحمائم

عندما يعطينا القتلة دروساً في تربية الحمائم

نوال السباعي

[email protected]

حدثتني إحدى الباحثات في شؤون التعاون والتنمية بين ضفتي المتوسط من جامعة الأوتونوما بمدريد: أنها وأثناء عملها الميداني في البحث، اكتشفت من خلال زيارتها لبعض الدول العربية أن أكبر عملية تكريس للاستعمار يشهدها التاريخ الانساني إنما تجري اليوم تحت اسم «التنمية». فما بالنا إذا أضفنا إليها «التجارة الحرة مع إسرائيل»، والتي لن تكون حرة إلا من طرف «إسرائيل الشقيقة»؟ إن الهدف الرئيس من تلك الخطط «التنموية» إنما هو فتح أبواب الأسواق العربية أمام «إسرائيل» بالدرجة الأولى، والتي هي في أمس الحاجة إلى هذه الأسواق لتصريف صناعاتها ومنتجاتها في ظل عملية تطبيع عام تُحول شعوب المنطقة إلى عبيد مستهلكة، خاصة في ظل التعطل شبه التام للصناعات العربية، والتدمير المنظم للاستثمار في المنتجات الزراعية المحلية التي تعتبر الأساس في قيام المنطقة إنسانياً. وقد أصبحت منتجاتنا اليوم محصورة في كونها مجموعة من الصناعات اليدوية البدائية، التي يريدون لنا أن نفهم أنها يمكن استخدامها في تجارة متبادلة مع منتجات دولة كإسرائيل، القاعدة العسكرية الاستعمارية الغربية في بلادنا، والتي أقيمت لحفظ مصالح الغرب في المنطقة بشقيه الأميركي والأوروبي.

لكن أمرا آخر ينطوي تحت عنواني «التنمية» و «التجارة الحرة» وهو في غاية الأهمية، لا يمكن طرحه إلا من خلال مُسميين آخرين، هما «التطبيع» و «عملية السلام»، واللذين يُترجمان فورا في إطار المصلحة الوحيدة التي يمكن مراعاتها أو يجب مراعاتها في هذه الأطر مجتمعة، وهي مصلحة «الكيان الإسرائيلي الصديق» في المنطقة. وهذا الأمر يتلخص في توفير اليد العاملة شبه المجانية وشبه المستسلمة بالكامل لهذا الغزو الاقتصادي الملحق بالغزو الثقافي ومن قبله العسكري للمنطقة. فإسرائيل «الصديقة» ستقيم المصانع وتديرها بكوادرها المختصة، وأيدينا العاملة شبه المجانية هي التي تضغط على الأزرار وتراقب الآلات وتحمّل المنتجات وتكدس البضائع بانتظار تصديرها إلى الغرب، أو إلى السوق الاستهلاكية المستقبلية الخليجية بثلاثة آلاف ضعف ثمن التكلفة على الأقل! ودون أن يكون للعامل من المنطقة العربية أي حق ولا أي أمل في الاستهلاك. وما هو معلوم بالضرورة أن البترول الذي يشغل هذه المصانع عربي، وأن المواد الأولية التي تحتاجها هذه المصانع يجب أن تنتج في الأراضي العربية المهملة، والتي تحتاج إلى العقول الإسرائيلية «الرفيقة والشفيقة» لكي تساعدنا في إصلاح الأرض وإعادة الحياة إليها.

هذا الأمر عينه يجري اليوم في ثلاث مناطق رئيسة في العالم: أميركا اللاتينية، والمملكة المغربية، وفلسطين المحتلة. ففي أميركا اللاتينية والمغرب بدأت سياسات «التنمية» تأخذ مكانها بهيمنة إسبانية – وأهمها العقول الإسبانية اليهودية المرموقة تجاريا- رؤوفة رحيمة تريد مساعدة المواطن المغربي والأميركي اللاتيني، ولا شيء غير مساعدة هذا المواطن لكي لا يموت جوعا. أما في فلسطين المحتلة، فالأمر تعدى ذلك. فإسرائيل «المتألقة إنسانيا» تفتح معابرها للشغيلة من الفلسطينيين لكي لا يموت المواطن الفلسطيني جوعا، ولكن يجب عليه من أجل ذلك، وكشرط أساسي للسماح له بالعمل في مصانعها وبناء هياكلها العمرانية، أن يموت قهرا.

وكما أنه لا يمكن الحديث عن «التنمية» دون أن تقرن معها «التجارة الحرة»، فإنه لا يمكن الحديث عن «الديمقراطية» دون أن تقرن معها «حقوق الإنسان»، مضافا إليها بالطبع مصطلح «مكافحة الإرهاب»! لم نجد أغنية استخدمها «القتلة» في أنحاء العالم اليوم لدغدغة مشاعر العالم كالديمقراطية التي «صرعونا» بها آناء الليل وأطراف النهار.

مثل مئات الآلاف من أبناء المنطقة العربية، لا أفهم، ولم أفهم، ولن أفهم ماذا جاءت تفعل في الدوحة وزيرة الخارجية الإسرائيلية؟! مثل عشرات الملايين من المواطنين «العرب» المقهورين من أقصى الأرض إلى أقصى الأرض، لا أستطيع أن أفهم كيف يمكن أن تُستقبل وزيرة «الكيان الإسرائيلي العدو» الوالغة في دمائنا في واحدة من أهم العواصم العربية اليوم! بل وتملي علينا رؤيتها عن الديمقراطية والتنمية والتجارة الحرة، وكأن أحدا على وجه هذه المعمورة لا يعرف الرؤية الصهيونية الخاصة عن الديمقراطية والتنمية والتجارة الحرة وحقوق الإنسان والحيوان والجراثيم.

لم نسمع من هذه الوزيرة قبل أن يُسمح لها بدخول بلد عربي أي اعتذار عن الذبح والسحل والقتل والتعذيب والحصار الذي يأكل الأرواح والإيمان والأمل في أرضنا المقدسة المحتلة منذ 60 عاما، لم نسمع منها ولا من حكومتها كلمة واحدة تقدمها بين يدي زيارتها تنم عن أدنى قدر من الاحترام لهؤلاء «العرب» الذين جاءت تعطيهم درسا في كيفية التعامل مع شعوبهم لترويضها وتربيتها على ثقافة «السلام» و «التعايش» وضرورة العمل لتغيير الرأي العام «العربي» حتى يصبح مطواعاً لخطط الإدارة الأميركية-الصهيونية في المنطقة، والتي هي ومعها الغرب جميعه في أمس الحاجة إلى بترول «العرب» وعقولهم وأيديهم العاملة وشبابهم وشاباتهم وأرضهم وترابهم وشجرهم وهوائهم وبحارهم وأنهارهم ودمائهم وخلاياهم وتعاملهم وتفاهمهم معها حكاما ومحكومين.

لم نسمع من تلك «المخلوقة» حسا ولا همسا يتعلق بحقوق الإنسان والحيوان في فلسطين، يدل على انتمائها إلى الجنس البشري وليس مصاصي الدماء في تعاملها مع الملايين المسجونة في القطاع والضفة. لم نسمع منها ما يشير إلى أي وخز في الضمير أو حياء من التاريخ والإنسانية تجاه ما يجري من ذبح منظم للبشر في هذه الأرض التي احتلها اليهود بدعم وتغطية من بريطانيا العظمى ومن ورائها قوى الغرب مجتمعة، وما زال أهلها مرابطين دون الأمة كلها دفاعا عن وجود هذه الأمة.

من هذا الذي يمكنه أن يفهم هذه الأمور في ظل الوضع الفلسطيني الأليم الذي يعيشه كل من يتابع قناة الجزيرة من قطر؟ تجويع، وتركيع، وإذلال، وإبادة جماعية بطيئة، ومحرقة منصوبة آناء الليل وأطراف النهار لكل من تسول له نفسه التفكير مجرد التفكير بالكفاح في سبيل أرضه وحريته، والثبات مجرد الثبات على بعض ما بقي لهذه الأمة من كرامة إن كان قد بقي لهذه الأمة من كرامة.

لو أن وزير خارجية الدانمارك أو هولندا قاما بزيارة إلى أي دولة إسلامية أو عربية في هذا العالم لكان من الضروري أن لا يتجاوزا حدود البلد قبل أن يذكرهما المسؤولون فيه بالإساءات التي قام بها رسام واحد في بلادهما، أو نائب واحد في برلمانهما، فكيف بنا ووزيرة الكيان المعتدي الغاصب القاتل سافك دماء إخواننا وأهلنا في فلسطين تقيم بين ظهرانينا في عاصمة العروبة النابضة و «الجزيرة» الفيحاء التي يستظل بها «العرب» اليوم من لفح لهيب واقعهم المؤلم! بل ولقد أتتنا لتلقي علينا الخطب العصماء لترسيخ ثلاثة أمور، أولها: اعتبار «المعتدلين من العرب» وإسرائيل صفا واحدا في مواجهة هذا العدو الغاشم، والذي هو ودون أدنى مكان للشك «الأمة كلها» التي أصبحت في مفهوم الديمقراطية الغربية-الإسرائيلية ومكافحة الإرهاب ومشروعات التنمية عبارة عن مجموعات من الأصوليين والإرهابيين والمتعصبين! وثانيها: اعتماد «إسرائيل الشقيقة» لاعبا أساسيا في المنطقة من أجل عمليتي السلام والتنمية اللتين أسلفت في تفنيد بعض المفاهيم عنهما. وثالثها: الإعلان من الدوحة عن أن النشاطات النووية الإيرانية –وليست إسرائيل ونشاطاتها النووية وغير النووية- أصبحت هي العدو الأول والأخير لمحور الخير الجديد في منطقتنا المنكوبة المتمثل في «العرب المعتدلين»، و «إسرائيل الشقيقة» ومن لف لفيفهما من الطبقات المثقفة والمرتزقة. إنه من سخرية الأقدار أن نشهد القتلة يعطون العالم دروسا في تربية الحمائم!

في الواقع، لا أستطيع أن أفهم ولم أفهم ولن أفهم قط ماذا جاءت الوزيرة الإسرائيلية تفعل في الدوحة؟ لن أفهم، ومعي مئات الملايين من الذين لم يفهموا ولن يفهموا، كيف يمكن لهذه الوزيرة أن تطأ الأرض التي تبث منها قناة الجزيرة؟! وأعظم من هذا أن تسكت «الجزيرة» عن هذه الزيارة، بل وتسكت معها كل الأقلام والأصوات «العروبية» «القومية» «الثورية» التي تفح ليلا ونهارا بسباب وشتيمة الأنظمة الحاكمة في السعودية ومصر وموريتانيا والواق والواق، ولا نسمع صوتا واحدا يقول شيئا عن مثل هذا الحدث المهول الذي مرّ وكأن شيئا لم يحدث، في دولة عربية فتحت أبوابها لكل الأقلام ولكل الأصوات ولكل الآراء والتيارات والتوجهات ليقول كل ما يشتهي في أجواء من الحرية التي لم تعرفها من عواصم «العرب» إلا بيروت من قبل أن تدمر على رؤوس أهلها، ولكننا ورغم ذلك لم نسمع أحدا يقول شيئا!

لا أدري في واقع الأمر إن كنت على درجة من الغباء والحمق لم أستطع معهما فهم ملابسات هذه «الزيارة» في ظل الاستعمار الذي يهيمن على المنطقة العربية من أقصاها إلى أقصاها، أم أنني على درجة من السذاجة والبلاهة لم أستطع معهما فهم طبيعة الاستعمار الذي نرزح تحت نيره!

***

بعد الفراغ من كتابة هذا الموضوع نقلت قناة «الجزيرة مباشر» فعاليات المؤتمر الشعبي الأول لإعادة فتح مكتب مقاطعة إسرائيل في المنامة. فكل الشكر والتقدير للجزيرة مباشر، وكل الدعم غير المشروط لذلك المؤتمر.

• كاتبة عربية مقيمة بإسبانيا