مونديال آخر:طالبان ضد الغزاة!
أ.د. حلمي محمد القاعود
لا أهتم بكرة القدم المحلية ولا العالمية ؛ وأراها في بلادنا نوعا من السبوبة التي تعود بالملايين على بعض الناس مقابل جهد ضئيل ومواهب خاصة في التسويق والسمسرة والفهلوة ، وفي الوقت ذاته تخدم الفساد والاستبداد ، وتطيل أمد التخلف الذي تعيشه البلاد ، ويعود بها قرونا إلى الوراء ، لأنها ليست في حالتها الطبيعية التي هي عليها في بلاد العالم الأخرى ، وللأسف فإن المجال لا يحتمل تفسير ذلك .
ومع ذلك فقد سعدت بفوز غانا على الولايات المتحدة في مونديال 2010م بجنوب إفريقية وإخراجها من الأدوار النهائية ، ولا أخفي أنني أتمنى هزيمة الولايات المتحدة في أي مجال، فقد قهرتنا هذه الدولة الظالمة القاتلة ، ويكفي أنها قتلت مليونا ونصف مليون عربي ومسلم في أفغانستان والعراق والصومال ، ورمّلت مثل هذا العدد من النساء ، ويتّمت ضعفه من الأطفال ، فضلا عن نهب الثروات ، وسرقة التراث ، وتخريب البنية التعليمية والثقافية في كل بلد عربي وإسلامي هيمنت عليه عسكريا ، أو سيطرت عليه سياسيا ..
ولكني سعيد من ناحية أخرى ، حيث تخوض الولايات المتحدة ، ومعها العالم الصليبي تحت اسم النيتو ، مباراة مونديال من نوع آخر ، مع فريق مسلم مجاهد اسمه طالبان ، وأنتظر بإذنه تعالى هزيمتها على أحر من الجمر . والمباراة هنا بدت لصالح الفريق الاستعماري الصليبي في شوطها الأول ، حيث أطاحت بحكومة طالبان ، ونصبت عملاءها ، وخدعت بعض الفرقاء الأفغان بالكلام عن الديمقراطية ومحاربة الإرهاب ، وبناء البلاد اقتصاديا وسياسيا ، وظنت الولايات المتحدة وأتباعها أنهم في طريقهم إلى كسب المباراة بالصواعق القاصمة في وقت قصير ، وزمن غير بعيد ، ولكن المباراة امتدت لأشواط إضافية ، وركلات جزاء لما تنته بعد ، لأن فريق طالبان لم يكن بالسهولة التي تصورها الصليبيون الاستعماريون . صحيح أنه فريق فقير ، لا يملك إلا أسلحة بدائية متواضعة ، ولكنه يدافع عن مرماه باقتدار عجيب ، معتمدا على سياسة الكر والفر ، وإرهاق الفريق الخصم بأساليب متنوعة برع فيها الأفغان مذ قهروا الغزاة الإنجليز في القرن الماضي ، وقهروا بعدهم الغزاة الروس الشيوعيين ، وهم لا يملكون إلا إيمانهم وصبرهم على المواجهة والمقاومة .والآن فإن الفائز يعرف نفسه جيد ا .
لقد جاءت الولايات المتحدة وأتباعها من المستعمرين الصليبين الغزاة ، وفيهم للأسف بعض المسلمين السذج ، لتخوض حربا ضروسا ضد شعبنا المسلم في أفغانستان بحجة مكافحة الإرهاب . والإرهاب عنوان خسيس أطلقته الولايات المتحدة وأتباعها للحرب على الإسلام والمسلمين ، والسيطرة على ثرواتهم ومقدراتهم دون حق ، ويسبق جنودها القتلة ، جنود آخرون يرتدون ثياب الكهنوت ، أو يحملون فكر الكهنوت ، لإخراج المسلمين من ملتهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة .. وقد حققوا بعض النجاحات بلا ريب ، بمساعدة من بعض الخونة الذين ينتمون إلى جلدتنا العربية أو الإسلامية .
لقد زعم الغزاة الصليبيون أن الحرب على أفغانستان تأتي تأديبا لمن يسمون بالإرهابيين والمتطرفين الذين فجروا برجي التجارة العالميين في نيويورك في 11 سبتمبر 2001م ، فذهبوا بطائراتهم وصواريخهم ليدمروا وطنا بأكمله ، ولم يصلوا بعد تسع سنوات إلى من اتهموهم بالتفجيرات ، ولكنهم وصلوا إلى كل سنتيمتر في أعماق أفغانستان ، بالتدمير والدم والسيطرة والهيمنة ، وحتى الآن لا يعرف العالم الفاعل الحقيقي الذي ارتكب الجريمة ، ولم يجر تحقيق دولي محايد حول الجريمة ومرتكبيها ، وإن كانت تكهنات كثيرة في الغرب الصليبي الاستعماري نفسه أشارت إلى أن العمل من تدبير جهات استخبارية في واشنطن وتل أبيب لتبرير هذا القتل الوحشي للشعب الأفغاني المسلم ، وتحقيق مآرب أخرى !
بيد أن المقاومة الأفغانية بقيادة طالبان فاجأت المنتخب الاستعماري الصليبي بقيادة الولايات المتحدة ، بأنها أكثر خبرة في الكر والفر ، والقدرة على المناورة ، وإنزال المزيد من الخسائر بأفراده ، بل توظيف ذكائها في تحقيق تمويل مقاتليها بأموال الأميركان أنفسهم ، وقالت التقارير الصحفية إن تحقيقا استمر ستة أشهر؛ توصل إلى أن الشركات التي تنقل الذخيرة والغذاء والوقود والماء للقواعد الأمريكية في أنحاء مختلفة من أفغانستان تدفع ملايين الدولارات أسبوعيا لشركات أمن محلية كي تؤمن لها المرور الآمن عبر المناطق الخطرة.
وبحسب التحقيق ، فإن هذه الأموال تصل بعد ذلك إلى زعماء محليين ، وبعض هذه الأموال يجد طريقه إلى حركة طالبان ؛ وهو ما يعني أن أموال دافعي الضرائب الأمريكيين تستخدم في تمويل طالبان بشكل غير مباشر!
بعد الصمود الأسطوري للمجاهدين الأفغان وزيادة الخسائر البشرية والمادية في الجانب الاستعماري الصليبي ، جاءت مؤخرا إقالة الجنرال ماكريستال أسطورة العسكرية الأميركية وصاحب خطة زيادة القوات الأميركية للقضاء على المجاهدين ؛ لتشكل ضربة مؤلمة للولايات المتحدة ، وتقدم دليلا على ضعف المعنويات والانهيارات النفسية في الجيش الاستعماري المقاتل في بلاد الأفغان ، فضلا عن هروب ذكي للجنرال نفسه دون أن يتحمل مسئولية الهزيمة !
لقد كانت الحقائق على الأرض تشير إلى عكس ما توقعه الأمريكيون ، وتصاعدت حدة الاتهامات المتبادلة بين أركان إدارة أوباما ، وخرج ماكريستال على الملأ ليفضح المستور في محاولة لتبرئة نفسه من مسئولية فشل إستراتيجية أوباما الجديدة في أفغانستان .
ولم يكن سلوك ما كريستال هو الأبرز في هذا الارتباك الأميركي ، ولم يكن هو "الجنرال التائه " ، كما سمّته مجلة «رولنج ستونز» ، في نظر أركان المؤسسة العسكرية والقوات الأميركية على الأرض ، فقد تحدى ماكريستال مقولة جو بايدن بأن في الإمكان تخفيض عدد القوات في أفغانستان والمضي بحرب محدودة ضد «طالبان» واصفاً ذلك بأنه عبارة عن تحويل أفغانستان إلى «كايوستان»، (chaostan)، أي بلاد الفوضى العارمة .
لقد تولى الجنرال منصب قائد القوات الخاصة في الجيش الأمريكي للفترة من عام 2003 وحتى 2008 ، وفي خلال تلك الفترة ، قام بتصفية عدد من "الأهداف البشرية المهمة" بالنسبة للأمريكيين في العراق وأفغانستان مثل أبي مصعب الزرقاوي زعيم تنظيم القاعدة في العراق الذي اغتيل في عام 2006 بضربة جوية أميركية .
ومع ذلك ، وبعد أن تحققت مطالبه في زيادة القوات الأميركية في أفغانستان ، فوجئ الأميركيون بتصاعد هجمات طالبان أضعاف ما كانت عليه العام الماضي 2009م ، بل إن شهر يونيو الحالي كان الأكثر دموية في عام2010 حيث لقي 75 جنديا من الناتو والقوات الأمريكية مصرعهم حتى 23 من هذا الشهر، وهو اليوم الذي قرر فيه الرئيس الأميركي باراك أوباما إقالة ماكريستال من منصبه وتعيين قائد القيادة المركزية الأمريكية ديفيد بترايوس بدلا منه .
لقد أشار تقرير للجيش الأمريكي إلى أن تزايد العمليات العسكرية في أفغانستان مؤخرا؛ تسبَّب في تدني معنويات قواته، وتزايد معدلات الانتحار، وجاءت النتائج خلاصة استطلاعين منفصلين نفِّذا في مطلع هذا العام، في حين أظهرت إحصائية جديدة تزايدًا في معدلات الانتحار بين صفوف الجيش الأمريكي.وقال كبير أطباء الجيش الأمريكي، الجنرال أريك شوميكر: "تتواصل معاناة الجنود في أفغانستان مع الإرهاق والإجهاد من جرَّاء تكرار النشر في ساحات القتال"، وأظهر التقرير الذي نشرته وكالة (CNN) الإخبارية أن الجنود الذين تكرر نشرهم 3 أو 4 مرات لأداء الخدمة في أيٍّ من العراق أو أفغانستان، تدنَّت معنوياتهم بشكل ملحوظ، كما ارتفعت نسبة معاناتهم من الأمراض النفسية عن سواهم ممن تمَّ نشرهم هناك مرة واحدة أو اثنين. ، كما تدنَّت الروح المعنوية بين وحدات الجيش الأمريكي في أفغانستان لقرابة النصف عن معدلات عامي 2007م و 2005م من نحو 10% حينئذ إلى 5.7% هذا العام.
على جانب الشريك البريطاني الذي يمثل أهم الشركاء مع الولايات المتحدة في الحرب الاستعمارية الصليبية ضد الأفغان ، فقد كشفت صحيفة "صنداي تايمز" البريطانية في 13/6/2010م ؛ أن حكومة ديفيد كاميرون قررت عزل رئيس أركان الجيش البريطاني المارشال جوك ستيراب في إطار سعيها لمعالجة الإخفاقات في مهمة قواتها بأفغانستان ، وفي 22 يونيو ، كشفت صحيفة "الجارديان" البريطانية أيضا أن المبعوث البريطاني الخاص لكل من باكستان وأفغانستان سير شيرارد كاوبر ؛ الذي دعا للحوار مع طالبان ، قرر تمديد إجازته في بريطانيا وعدم العودة للمنطقة مما يعني تركه المنصب .
وأضافت "الجارديان" أن الأخبار حول رحيله المفاجئ تزامن مع إعلان وزارة الدفاع البريطانية أن عدد الجنود البريطانيين القتلى في الحرب وصل إلى 300 ، فيما أعلن أن كلفة الحرب في أفغانستان والعراق بلغت عشرين مليار جنيه إسترليني ..
ومهما يكن من أمر الصراع بين الأفغان والغزاة ، فقد أعلن الأميركان عن اكتشاف موارد طبيعية معدنية ضخمة في أفغانستان بقيمة تريليون دولار وأكثر ، وهو خبر مهم جداً يكشف أطماع الأميركان الحقيقية في أرض الأفغان ، ويفسر إصرارهم على تحدي العالم لإيذاء الشعب الأفغاني المسلم دون ذنب جناه ، كما يكشف عن مستقبل العلاقات الأميركية – الروسية – الصينية التي تتصارع على النفط والمعادن القيّمة حول بحر قزوين ، مما يشير إلى أن الصراع سيأخذ أبعادا أخرى قد تعزز من مكانة المقاومة الأفغانية ، وقد تتلقى مساعدات عسكرية أفضل من الصين أو الروس ، لإحراج منافستهما الكبرى : الولايات المتحدة .
ولكن يبقى إيمان الأفغان بربهم ودينهم ، وإصرارهم على الجهاد والصبر في مجالدة الأعداء مدخلا أساسيا ، إلى تحقيق النصر على الولايات المتحدة في مونديال آخر ، أكثر شراسة ووحشية بما يملكه الغزاة المستعمرون الصليبيون من إمكانات فائقة وتقنيات عالية ، ولكن النصر لمن يصبرون ويصمدون ، والله ناصر جنده في كل الأحوال.