عصيٌ مصرية في دواليب الاتفاق الفلسطيني

د.مصطفى يوسف اللداوي *

[email protected]

استبشر الفلسطينيون والمحبون لفلسطين خيراً، فاتفاق المصالحة الوطنية الفلسطينية أصبح قاب قوسين أو أدنى من التوقيع، وبات الفرقاء الفلسطينيون أقرب إلى بعضهم البعض من أي وقتٍ مضى، وبزغ بصيص نور في نفق الخلاف الفلسطيني المظلم، إذ اتفقت الأطراف الفلسطينية إثر زيارة الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى إلى قطاع غزة، على صيغةٍ وسطية ترضي جميع الأطراف، وتستجيب لكل التحفظات، وتحفظ مواقف كل القوى، وتضمن تحقيق المصالحة الوطنية الفلسطينية التي طال انتظارها، وتضمن خروج الأطراف الفلسطينية من النفق التفاوضي المظلم الذي دخلوه، ولم يستطيعوا الخروج منه، الأمر الذي أدى إلى جمودٍ فلسطيني كامل، انعكس معاناةً وضيقاً على مختلف شرائح الشعب الفلسطيني، وأدى إلى تشويه صورة الفلسطينيين أمام الرأي العام الدولي، وأمام مناصري القضية الفلسطينية.

وقد كفلت الصيغة التوافقية اقناع الأطراف غير الموقعة على الورقة المصرية لأن توقع عليها، بصيغتها الراهنة، دون أي تعديلٍ يجرى عليها، رغم تحفظات حركة حماس على بعض بنودها، واعتراضها على بعض الاشتراطات المقيدة، كما حافظت الصيغة الجديدة على كرامة مصر الدولة والإدارة، فلم تطلب منها إعادة فتح الورقة، ولا إعادة النقاش حولها، وإنما استجابت لها كل الأطراف المتحفظة عليها، وأبدت استعدادها للتوقيع عليها، قبل المباشرة في أي خطواتٍ تنفيذية لتطبيق الاتفاق، وهو ما أصرت عليه الحكومة المصرية، وما تعتبره شرطاً لاستئناف الحوار الوطني الفلسطيني برعايتها، وقد كان لها ما أرادت، فتحقق شرطها، وخضعت كل القوى الفلسطينية لإرداتها، واحترمت اجتهادها، ولم تعاند في مواقفها، وأعلنت أنها لا ترضي بغير مصر وسيطاً، ولا بغير القاهرة مكاناً لتوقيع الاتفاق، وأنها تعترف بأن مصر قدمت الكثير في الأونة الأخيرة، إذ فتحت معبر رفح الحدودي أمام المسافرين من الجانبين، وسمحت لقوافل الإغاثة العربية والدولية بالدخول إلى غزة عبر بوابة رفح، كما سهلت دخول العديد من وفود التضامن العربية والدولية، وأعلنت رفضها الاستجابة إلى الطلبات الإسرائيلية، المنادية بتشديد الحصار على قطاع غزة.

وتضمنت الصيغة المطروحة بعد التوقيع على الورقة المصرية بصيغتها الأصلية، وبعد أداء الشكر والامتنان الكبيرين لمصر، وللدور العظيم الذي بذلته في رأب الصدع الفلسطيني، وفي رعايتها الحوارات الفلسطينية، وصبرها على المراهقة السياسية الفلسطينية، تشكيل لجانٍ فلسطينية داخلية، تضم ممثلين عن الفلسطينيين فقط، تقدم الشكر أولاً لمصر، ثم تدرس على قاعدة الاتفاق والانطلاق تحفظات حركة حماس على الاتفاق، وتحاول أن تجد حلولاً مرضية لكل الأطراف، وأن تأخذ بالحسبان عند التطبيق كل الملاحظات، ولكن على أساسٍ من الاتفاق والقبول، وتضع الخطط العملية لتنفيذ بنود الاتفاق الفلسطيني، لجهة تشكيل حكومةٍ انتقالية، تجري انتخاباتٍ رئاسية وتشريعية، وتعمل على إنهاء ظاهرة الاعتقالات السياسية والأمنية، وتوقف المهاترات والتراشقات الإعلامية المتبادلة، وتضع الأسس لأجهزة أمنية فلسطينية غير فصائلية، تعمل على خدمة أبناء شعبها، ولا تخضع في عملها لإرادةٍ غير إرادة شعبها، ولا يكون لديها مرجعية غير مرجعيتها الوطنية.

الصيغة المقترحة صيغةٌ عملية، تبغي الاتفاق، وتحاول الخروج من الأزمة، وهي تقفز على العقبات، وتتجاوز الحواجز، وتبتدع الحلول، وأهم شئ أنها ترضي مصر، وتحفظ كرامتها، وتتيح للفلسطينيين أن يلتقوا معاً على أرضهم، وفي مدنهم، في الضفة الغربية وفي قطاع غزة، بمسؤوليةٍ وطنية وأخلاقية، على قاعدةٍ من التوافق والرضى والقبول، وهذا حقٌ للفلسطينيين، لأن يلتقوا وحدهم دون وسطاء، كأهل وكشركاءٍ في الوطن، فهم أدرى بشؤونهم، وأقدر على تجاوز خلافاتهم، ولكن الموقف المصري وضع عصياً كثيرة في دواليب الحوار الفلسطيني، واتهم أطرافاً بالتلاعب، وأنها تحتال على مصر وغيرها للوصول إلى غاياتها، رغم أن الأزمة المستحكمة بين الفرقاء الفلسطينيين، كانت في أمس الحاجة إلى نوعٍ من التحايل والالتفاف الحكيم، فالفلسطينيون وصلوا نتيجة الاشتراطات الدولية، والاعتراضات المقصودة لعددٍ من الدول على أي صيغة توافقية فلسطينية إلى طريقٍ مسدودة، إذ أن هناك فيتو دولي على أي إتفاق فلسطيني، وهناك شروطٌ دولية مجحفة بحق شعبنا الفلسطيني قبل أن تكون بحق فصيلٍ أو تنظيمٍ فلسطيني بعينه، وهناك رفضٌ أمريكي واضح لأي توافقٍ داخلي فلسطيني، ولهذا فإن التحايل لتدوير الزوايا أمرٌ محمود ومشروع، ولا يوجد ما يذمه أو يحرمه، رغم أنه لا يوجد تحايل ولا التفاف على موقفِ أحد، أو دور أحد، ولكن أليس من حق الأطراف الفلسطينية، بعد أن قدرت لراعي الحوار دوره وجهده، وثمنت عالياً صبره وتعبه، أن يلتقوا في دارهم وبين شعبهم فيما بينهم، يناقشون تفاصيل الاتفاق، وسبل تنفيذه، فهذا الأمر لا يتناقض مع الورقة المصرية، بل يكملها، ولا يحط من الدور المصري بل يقدره ويثمنه، وكان حرياً بمصر أن تبارك هذه الخطوة الفلسطينية، وأن تعبد الطريق لها، وألا تضع العراقيل أمامها، وأن تقدم كل التسهيلات الممكنة لضمان نجاحها.

وفي الوقت الذي لا يصح فيه الاعتراض المصري على صيغة الحل الفلسطينية، فإنه ينبغي على القوى الفلسطينية أن تستغل الفرصة، وأن تنتهز الظروف الدولية المواتية، التي خلقتها أحداث قافلة الحرية، وأن تستجيب إلى الإرادة الشعبية الفلسطينية، وإلى رغبات وأماني المتضامنين مع القضية الفلسطينية، وأن يتقدم كل فريقٍ باتجاه الآخر، بما يخدم القضية الفلسطينية، وبما يحفظ الحقوق الفلسطينية، وبما يحقق الوحدة الفلسطينية أمام الهجمة الإسرائيلية القاسية ضد أراضي القدس ومقدساتها، وضد المقدسيين وحقوقهم، فإسرائيل ماضيةٌ قدماً في مخططاتها، وهي المستفيد الأكبر من الخلافات الفلسطينية، ومن تأخر الوفاق الفلسطيني، فهي تستغل الخلافات الفلسطينية في تنفيذ برامجها، غير عابئةٍ بالمواقف الدولية، ولا بردود الفعل المبعثرة، طالما أن أصحاب الحق، وأهل القضية منشغلون في همومهم ومشاكلهم الداخلية.

               

*كاتبٌ وباحثٌ فلسطيني