سندباد آخر من بغداد
كاظم فنجان الحمامي
[email protected]
حملتني أشرعة الصدفة في هذا الصيف المختنق بزفرات الرياح الجنوبية الشرقية, وهبطت
بي على سطح السفينة (الليدي رنا), فتعرفت على طاقمها, ورافقتهم في ممرات شط العرب
أثناء مغادرتهم من ميناء (أبو فلوس) في طريقهم إلى موانئ الإمارات.
وبينما كانت السفينة تحث الخطى بتعجيل متوافق مع تسارع إيقاعات التيارات المائية
المنسابة جنوبا بين منعطفات النهر وجداوله الملتوية, شدتني الألفاظ والعبارات
البغدادية التي كان يطلقها رئيس البحارة بين الحين والآخر.
كان
شابا يافعا, صلب العود, مشرق الوجه, لا تفارقه الابتسامة على الرغم من قساوة
الأعمال البحرية المرهقة, وعلى الرغم من صعوبة التعايش مع تقلبات البحار الصاخبة,
ودهشت كثيرا عندما أعلمني ربان السفينة: إن هذا الشاب, واسمه (مثنى أياد محمد
العبيدي), يحمل على ذراعه سجلا مطرزا بالنجاحات المتوالية, ناله منذ أعوام على سطوح
السفن التي عمل عليها في عرض البحر,
وعلمت منه أن الشاب (مثنى) بدأ حياته العملية بحارا متدربا على ظهر السفينة الروسية
الجنسية (شبير), التي كانت تقوم برحلات مكوكية بين العراق والإمارات, ثم صار بحارا
على السفينة البنمية (نورا 4), وواصل نشاطاته البحرية على ظهر الناقلة (أمينة)
المملوكة للقطاع العراقي الخاص, ارتقى بعدها إلى مرتبة (رئيس بحارة), وعمل على
الباخرة (فاطمة 1), ثم أكمل مسيرته المهنية على ظهر السفينة (الليدي رنا).
ولد
(مثنى) في محلة (سبع أبكار) من ضواحي بغداد القديمة, وترعرع وسط أسرة عربية محدودة
الدخل, وتدرج في دراسته الابتدائية والمتوسطة والثانوية, ونال شهادة الثانوية
العامة عام 2005 بمعدل 63% في إعدادية (السويس), وكان لأسم هذه الإعدادية التي حملت
ملامح (السويس), القناة الملاحية العربية الكبرى, الأثر الكبير في تنامي رغباته
البحرية, فسافر بعد تخرجه إلى البصرة ليطرق أبواب أكاديمية الخليج العربي للدراسات
البحرية, فلم يحالفه الحظ في الالتحاق بكليتها البحرية, فعاود الكرة في الأعوام
التالية, وكان الفشل حليفه في كل مرة, بيد أن رفض الأكاديمية له لم يثن عزيمته, فلم
ييأس ولم يستسلم, فاستأذن من والده, الذي كان يدير دكانا صغيرا يبيع فيه المخللات
في سوق (السمكة), وغادر بغداد محمولا على بساط الريح من (السبع أبكار) إلى (السبع
أبحار), وحلق عاليا فوق مرافئ الخليج البعيدة, حيث ترسو مراكب السندباد الأسطورية,
وحيث الجزر الجميلة الساحرة, وها هو اليوم سندبادا فتيا يشق عباب البحار الغاضبة,
ويغوص في أعماقها السحيقة.
اغرورقت عيناي بالدموع لمنظر هذا الشاب العراقي الصبور المكافح, فتمنيت أن تشمله
أكاديميتنا برعايتها, وتفتح له أبوابها, فقد توفرت فيه شروط التأهيل العلمي
والمهني, وصار رئيسا للبحارة في أكثر من سفينة من السفن العابرة للقارات, وكم تمنيت
أن تلتفت له مؤسساتنا الوطنية (السخية جدا) فتحتضنه وترعاه, وتؤهله لنيل شهادة ضابط
بحري ملاح, فهو عندي أفضل مليون مرة من عشرات الخريجين الذين تخرجوا في المعاهد
والكليات البحرية, ونالوا الشهادات العليا, لكنهم لم يعملوا يوما واحدا في البحر,
وكانوا يخشون الصعود على الزوارق الصغيرة, فاختاروا الهروب من تقلبات البيئة
البحرية القاسية, ولاذوا باليابسة خوفا من ظلمات البحار المرعبة, بيد أنهم ظلوا
يحملون صفة (ربان) على الورق فقط.
مثنى أفضل من هؤلاء جميعا, ويستحق كل الدعم والعون والإسناد, فقد اكتمل نموه في
البحار والمحيطات, واتسعت مهاراته الفنية والملاحية في المسطحات المائية المترامية
الأطراف, وصار سندبادا شجاعا مفتول العضلات, ثابت الجنان, ثاقب البصر والبصيرة,
يهيم على وجهه في الشواطئ والمرافئ البعيدة, محاولا العثور على من يسانده في إكمال
دراسته البحرية التخصصية.