النظام السوري يتهاوى
(1 من2)
د.محمد بسام يوسف*
تقويم وضع النظام الحاكم
يشكّل الموقع الاستراتيجيّ لسورية في قلب المنطقة العربية والإسلامية.. عاملاً أساسياً يمنحها أهميةً خاصةً في الحسابات السياسية الخارجية، الإقليمية والدولية، وهذه الحقيقة تشكّل الورقة الأهم التي يمتلكها أي نظامٍ يحكم هذا البلد الجاذب لكثيرٍ من التفاعلات السياسية في الساحة الإقليمية.. وعلى هذا، فقد كانت دمشق نقطة تقاطعٍ مهمةٍ لمصالح الشرق والغرب، وقد أثبت السوريون -خلال تاريخهم- قدرتَهم على التلاحم الوطنيّ، وأنّ هذا التلاحم يكون في أبهى صوره عند توافر أجواء الحرية الحقيقية للبلاد، وذلك على الرغم من التعدّد العرقيّ والدينيّ والطائفيّ، كما ثبت أنّ الاستبداد –لاسيما المستند إلى جدارٍ طائفيٍ بغيض- يمكن أن يعصفَ بهذا التلاحم الوطنيّ الحقيقيّ.. فالنسيج السكانيّ السوريّ –وفق أدقّ الدراسات- يتشكّل من: عربٍ (90%)، وأكرادٍ وشركسٍ وتركمانٍ (10%).. ومن مسلمين (92%)، ومسيحيين (8%).. ومن سنّةٍ (82%)، وعلويين (7-9%)، ودروزٍ (1-2%)، وشيعةٍ ويزيديين وإسماعيليين (1%)، وبضعة آلافٍ من اليهود (هاجروا إلى فلسطين المحتلة).. ومن ليبراليين وشيوعيين وبعثيين وإسلاميين وإخوان مسلمين.
المرحلة الحالية التي يعيشها النظام السوري، هي مرحلة موروثة عن حقبةٍ سابقةٍ امتدّت ثلاثين عاماً، هي فترة حكم (حافظ أسد)، الشخص الذي لعب بأوراق القوّة السورية بطريقةٍ افتُقدِت في عهد الوريث (بشار أسد)، فالنظام الذي أسّسه حافظ أسد وقاده وبنى أركانه ورعاها، يختلف من ناحية القوة إلى حدٍ كبيرٍ عن نظام الوريث (بشار أسد) بأمورٍ جوهرية.. مدخل لا بد منه لإلقاء الضوء على حقيقة وضع النظام السوريّ حالياً، وعلى عناصر قوته وعوامل ضعفه.. إذ إنّ حافظ أسد استطاع بعد اغتصابه السلطة، أن يغتصبَ معها خيوطَ القوة داخلياً وخارجياً:
أ- أبرز ما قام به داخلياً:
1- أسّس الميليشيات الأساسية الحامية للنظام (سرايا الدفاع، سرايا الصراع، الوحدات الخاصة،..)، وجهّزها بأحدث الأسلحة على حساب الجيش السوريّ، وأحكم السيطرة عليها طائفياً.. فضلاً عن الميليشيات الداعمة التي شُكِّلَت بالدرجة الثانية لحماية النظام خلال مرحلة الثمانينيات: (الميليشيات الحزبية، وميليشيات العمال والفلاحين والطلاب، ..).
2- أسّس أجهزة المخابرات العديدة، وسلّمها لقياداتٍ طائفيةٍ شديدة الولاء، وأمسك بكل الخيوط الأمنية، بعد أن ربطها به شخصياً.
3- مَدّ الجسور إلى الشرائح الأساسية في المجتمع السوريّ، وأحكم سيطرته على الشعب السوريّ بالترغيب والدبلوماسية تارةً، وبالترهيب تاراتٍ أخرى، ولعل أبرز هذه الشرائح هي: (العمال، والفلاحون، والعشائر، وبعض الأحزاب التي شكّلت ما يسمى بالجبهة الوطنية التقدّمية، وبعض الأحزاب الكردية، وشرائح حزب البعث المختلفة ومنظماته، والتجار، والنقابات،..).
ب- وأبرز ما قام به خارجياً:
1- استثمار أهمية سورية عربياً وإقليمياً ودولياً، واللعب بالأوراق السياسية الخارجية بصورةٍ أدت إلى تضخّم دور النظام في المنطقة: (توطيد العلاقة مع الاتحاد السوفياتي والمعسكر الشرقيّ، ثم تحوّله بشكلٍ صريح باتجاه أميركة والمعسكر الغربيّ بعد سقوط الشيوعية، انخراطه في عملية السلام،..).
2- الإمساك بالورقة اللبنانية، واللعب بها، واستثمارها إلى أبعد الحدود الممكنة.
3- توظيف التقلّبات السياسية لخدمة نظامه: (التحالف مع إيران ضد العراق وإغضاب الدول العربية وتقطيع أوصال العلاقات معها، ثم التحوّل إلى إحكام الصلة مع الدول العربية النافذة وإعادة توطيد العلاقات مع مصر والسعودية ودول الخليج العربيّ والأردن.. ثم مع العراق في السنوات الأخيرة من عمر نظام صدام حسين).
4- المتاجرة بالقضية الفلسطينية واللعب بورقتها، وتوظيف ذلك في خدمة نظامه.
5- احتواؤه بعضَ المنظمّات المسلّحة، لاسيما بعض المنظمّات الفلسطينية، وحزب العمال الكردستانيّ (بزعامة عبد الله أوجلان)، وبعض التنظيمات الشيعية العراقية.. وتوظيف ذلك في ممارسة الإرهاب ضد بعض الدول العربية والجارة (تركية).
كان حافظ أسد يوظّف كل الأوراق الداخلية والخارجية لتدعيم نظامه وإحكام سيطرته عليه، وقد وضع كل السلطات وأوراق القوة، دستورياً، في يد شخص رئيس الجمهورية، واستثمر ذلك بكل قوة: (رئيس الجمهورية هو: الأمين العام للحزب الحاكم، والقائد الأعلى للجيش والقوات المسلّحة).
ما الذي حصل في عهد الوريث الحالي (بشار أسد)؟!..
مع تحوّل السلطة من شخصٍ قويٍ مسيطرٍ يمتلك الخبرة (حافظ).. إلى شخصٍ ضعيفٍ لا يمتلك الخبرة (بشار).. مع هذا التحوّل، فَقَدَ النظام أهم عوامل قوّته واستمراره.. بل بقائه، وأصبحت سورية لا تملك (صانعَ سياسة)، سواء أكانت هذه السياسة داخليةً أم خارجية:
1- فلم يستطع بشار أن يلعبَ دور أبيه بالسيطرة على مَن حوله من أعمدة السلطة، الذين إما أنهم ينازعونه عليها، أو أنهم إمّعات أو واجهات ديكورية لا حول لهم ولا قوة.
2- ولم يستطع المحافظة على قوّة الجسور السياسية التي بناها أبوه مع شرائح واسعةٍ من المجتمع السوريّ.
3- ولم يستطع أن يلعبَ لعبة أبيه في السيطرة على الأجهزة الأمنية.
4- خسر كثيراً من عوامل القوة برعونته وبطشه، وبعدم امتلاكه خيوطَ اللعبة الداخلية التي كان يديرها أبوه بمكر، فخسر معظمَ رفاق أبيه الذين حموا النظام طوال عشرات السنين (دوبا وأصلان وخدام وخليل وكنعان، و..)، وخسر شرائح متعدّدةً من الطائفة العلوية نفسها، وشرائح عديدةً داخل المجتمع السوريّ، وداخل حزب البعث الحاكم نفسه.
5- ساق البلاد إلى درجاتٍ مرتفعةٍ من الاحتقان الشعبيّ السياسيّ والاجتماعيّ والدينيّ، بسياساته الضعيفة الخاطئة، التي كان أبرزها تحالفه مع إيران واستقدام المدّ الفارسيّ الشيعيّ وحمايته وتقديم كل التسهيلات له، وكذلك إشاعة الفساد الأخلاقيّ والماليّ، وفقدان القدرة على معالجة الأوضاع الاقتصادية المتردّية وحالات الفقر والبطالة المستفحلة.
6- فَقَدَ كل الأوراق الخارجية، لاتّباعه سياسةً خارجيةً رعناء، أغضبت الدول العربية الفاعلة، كما أغضبت الغرب، لاسيما الحليف التاريخيّ الفرنسيّ.. وفَقَدَ زخم الورقة اللبنانية التي استغلّها أبوه لصالح نظامه، وعزل نفسه داخلياً وعربياً ودولياً بشكلٍ يكاد يكون تاماً.
يمكننا أن نقولَ بإيجاز: كان النظام يرأسه صانع سياسةٍ داخلياً وخارجياً (بغض النظر عن ميكيافيليّتها).. لكنه الآن يفتقد إلى صانع السياسة هذا.. لذلك قام بشار أسد بتضييق الدائرة الحاكمة التي ضيّقها أبوه أصلاً من الحزب إلى الطائفة.. فآلت السلطة الحقيقية الآن إلى أسرة بشار أسد، المتمثّلة في خمسة أشخاص: بشار والشقيق ماهر والشقيقة الكبرى بشرى وزوجها الصهر آصف شوكت والأم أنيسة مخلوف.
خمسة أشخاصٍ يحكمون سورية الآن مع مؤيديهم من آل أسد، من ورائهم بعض المتنفّذين المنتفعين من آل مخلوف وآل شاليش وأمثالهم من الطائفيين ذوي النفوذ، الذين يسيطرون على معظم قطاعي الاقتصاد والمال.. فقد آل النظام بوضعه الجديد إلى هذه الأسرة الحاكمة، التي فقدت معظم عوامل القوّة الحقيقية للنظام، على أنه من المهم أن نقول: إنّ هذه الأسرة التي تسيطر على السلطة بشكلٍ مطلق، تعصف بها حالياً خلافات حادة قديمة جديدة.. ماهر يختلف مع آصف لأسبابٍ عائلية وسلطوية، وبشرى تقف إلى جانب زوجها ضد شقيقها، والأم أنيسة مخلوف تقف إلى جانب ولدها بشار وتدعمه مع مَن يقف وراءها من آل مخلوف.. وبشار وآصف يترصّدان أحدهما بالآخر في موضوع المحكمة الدولية.. وهكذا، فالأمور متداخلة ومرشّحة للانفجار حتى ضمن الأسرة الحاكمة، وذلك إذا توافرت لها الظروف الموضوعية المناسبة.
*عضو مؤسِّس في رابطة أدباء الشام