السلطان أردوغان .. والخيّاب الفاشلون
أ.د. حلمي محمد القاعود
[email protected]
يحار المرء في تفسير السياسة المصرية
الفاشلة التي لا تجد أمامها غير اللجوء إلى وسيلة سهلة ومكرورة ، وهي الاستعانة
بالرداحات الفاشلات الجاهلات الأميّات ، ومعذرة للجمع على صيغة المؤنث تشبيها
وتطبيقا ، فقد وجدت السلطة أن مواجهة شعبية رئيس وزراء تركيا رجب الطيب أردوغان ،
يمكن أن تنتهي في الشارع العربي والإسلامي ببعض المقالات في الصحف الحكومية ، وبعض
المتحدثين على الشاشات الفضائية ، تسب الرجل ، وتتهم تركيا باتهامات متخبطة ، وتعلق
في رقبتها أخطاء العرب والمسلمين جميعا ، وتزعم أن أردوغان يريد أن يخطف ما صنعته
مصر وتقديمها لمائة ألف شهيد من أجل فلسطين ، بتسعة شهداء أتراك قدمتهم تركيا في
أسطول الحرية الذي هاجمته قوات الغزو النازي اليهودي في عرض البحر، فجر الثلاثاء
أول يونية 2010م ، وهو في طريقه للتضامن مع شعبنا الفلسطيني في غزة !
مواجهة أردوغان هي المعركة الغلط ،
والمكان الخطأ ، فالعدو الحقيقي هو الغزو النازي اليهودي ، والغزاة النازيون اليهود
هم الذين يكرهون العرب والمسلمين وحكامهم ومسئوليهم ، حتى الذين يهادنونهم ، أو
يتقربون منهم يعدون في قائمة المكروهين المحتقرين لديهم ؛ فهم لا يهتمون بهم ، ولا
يلقون إليهم بالا ، لأنهم لا يشكلون خطرا عليهم ، بل يمثلون طابورا خامسا مواليا
لهم تنتهي مهمته بانتهاء خدماته !
كان الأولى بالخيّاب والفاشلين العرب ،
وخاصة في مصر أن يسعدوا بمواقف أردوغان التي جعلت للشعب الفلسطيني ، حضورا على
مستوى العالم ، وكشفت نازية القتلة اليهود الغزاة ، وأحرجت المؤسسة الاستعمارية
الصليبية ، وبثت الأمل في قلوب الشعب العربي والشعوب الإسلامية ، وقبل ذلك وبعده
أعادت الشعب التركي المسلم إلى أحضان أشقائه المسلمين ..
ثم إن أردوغان نموذج للنجاح على
المستويات كافة ، داخليا وخارجيا ، وحقق ما لم يستطع الخيّاب الفاشلون في مصر
تحقيقه ، بل إنهم عجزوا عن حل مشكلة واحدة بسيطة لا تحتاج إلى ميزانيات ولا عبقريات
، ولا خبرة نادرة ، مثل مشكلة المرور في القاهرة ، مع أن رئيس الدولة تدخل بنفسه ،
وعقد اجتماعا من أجلها . وما زال المرور في القاهرة يمثل نكبة إستراتيجية – إذا صح
التعبير – ولكن المرور قي استانبول ، وهي في حجم القاهرة ،من حيث عدد السكان ، كما
أنها تشبهها في الزحام ، لا يمثل معضلة ، ولا يرتفع صوت زمارة أو سارينة أو صوت
شكمان خربان ، بل ينساب المرور بهدوء ،مع أن استانبول تنهض فوق سبعة تلال ، ودون
أن تقع عينك على عشرات الرتب وأمناء الشرطة ، وصف الضباط يملأون الشوارع والنواصي
والميادين .
أردوغان نقل بلاده من حال إلى حال ،
ويكفي أنها صارت ضمن الدول العشرين المنتجة في العالم ، أما مصر فهي في المؤخرة على
المستويات كافة .. كانت استانبول عام 1994م ، حين زرتها لأول مرة تعاني من الفوضى
، وعصابات المافيا والدعارة والانحراف تحكم الشوارع والميادين ، وكانت جبال الزبالة
تنهض قائمة في كل مكان ، وعندما زرتها عام 2008م ، رأيت شوارعها تمتلئ بأجمل الزهور
من شتى أرجاء العالم ، لا ترى فيها أثرا للتراب أو الفضلات ، بل تشعر أنها تشبه غرف
البيت النظيفة ( هل يمكن رفع الزبالة من شوارع القاهرة – مجرد رفع ؟) ، فضلا عن
اختفاء العصابات ، وانتهاء عصر البلطجة !
أردوغان حارب الفساد والمفسدين ، وقدم
الحيتان إلى المحكمة ، من بينهم رئيسا وزارة سابقين ؛ واستعاد منهم ممتلكات الدولة
، وصادر قصورهم ويخوتهم لتسديد مستحقات الخزانة العامة ، وفطم اقتصاد بلاده عن
الاقتراض ، وحقق القطيعة مع صندوق النقد الدولي ، والبنك الدولي ، وسدد القروض
الضخمة التي كانت تستنفد 80% من الإنتاج القومي ، فهبطت إلى ما يقرب من درجة الصفر
– قارنوا ذلك يا حضرات الرداحات بما هو قائم في بلدكم العريق ذو الآلاف السبعة من
السنين ؟
لقد جمع أردوغان عشرات الشخصيات
العربية المهمة في ملتقى رجال الاقتصاد والأعمال (10/6/2010م ) ، وسرد أمامهم
إنجازات بلاده ، وهي إنجازات حقيقية ، وليست تلفزيونية كما يحدث على أرض الخيّاب
والفاشلين .
من المفارقات ؛ أعلن
الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء ( المصري اليوم 11/6/2010م) ، عن ارتفاع
معدل التضخم في بلادنا خلال مايو الماضي بنحو ٠.٥٪ ليصل المعدل السنوي إلى ١٠.٥٪ مع
ارتفاع أسعار السلع الغذائية بنسبة ١٦.٥٪، فيما توقع الخبراء استمرار الارتفاع خلال
الفترة المقبلة ليصل إلى ذروته خلال يوليو وأغسطس المقبلين.
وهذه فقط عينة بسيطة جدا لأحوالنا الاقتصادية ، ولكن أردوجان كان يتحدث في الملتقى
عن حجم التجارة بين الدول العربية وتركيا في عهد حكومة العدالة والتنمية التي
يرأسها ووصلت إلى 37 مليار دولار عام 2008، بعد أن كانت 8 ملايين دولار قبل عهده .
حكومة أردوغان قامت بإنشاء وبناء أكثر
من خمسين ومائتي مصنع في مصر وحدها – فكم مصنعا بنتها مصر الخيّاب والفاشلين في
تركيا أو غير تركيا ؟
حملة السفهاء الذين ينطقون باسم
الخيّاب الفاشلين لا تنال من أردوغان الذي دعا إلى مزيد من التعاون الاقتصادي بين
العرب وبلاده دون حساسيات ، ثم قال: «تركيا كدولة شقيقة
وصديقة لكم تتوقع أن توجهوا استثماراتكم إليها وسنوفر لكم كل التسهيلات»، داعياً
إلى أن يكون المنتدى العربي - التركي وسيلة لتدعيم هذا التعاون، وقال بلغة عربية
«اختار الجار قبل الدار».
يعيبون على أردوغان العمل من أجل مصلحة
تركيا ، وهل هناك عاقل يتصور أن يعمل حاكم لغير بلاده ، ويهمل وطنه ؟ لقد رفع العرب
شعار ، مصر أولا ، والأردن أولا ، ولبنان أولا ، وسورية أولا ، وتونس أولا ، وليبيا
أولا ، واليمن أولا ، والعراق الذي كان ، والذي هو كائن أولا .. وللأسف فلم يعملوا
لبلادهم أولا ولا آخرا ، وبالطبع لم يعملوا لغيرهم ، ولكن أردوغان عمل لبلاده
فأنقذها من الفقر والتدهور ، وهو الآن يهدم بذكاء ديكتاتورية العلمانية عدو الإسلام
والمسلمين ، سواء كان يمثلها الجيش التركي أو القضاء أو التعليم العالي أو النخب
الموالية للغرب في الصحافة والثقافة والتعليم ، وها هو يستثمر نجاحاته الداخلية
ليشد أزر الفلسطينيين الضعفاء المقهورين المحاصرين ، ويفرض على العالم أن يتحرك من
أجل كسر الحصار على غزة ، ومناقشة قضية الاحتلال ، فهل استطاع الخيّاب أن يحركوا
ساكنا من أجل فلسطين ؟
ينسى أهل الردح والشتم والسب والمعايرة
أن أردوغان ، جاءت به صناديق الانتخابات الزجاجية غير المزورة . جاء به رجل الشارع
الحي ، الذي ذهب فعلا إلى لجنة التصويت ، وأدلى بصوته الحر ، دون أن يمنعه أحد ، أو
يصوت أحد بالنيابة عنه ، أو يبعث الموتى للتصويت لحزب السلطة ، ولذا وقف في وجه
الولايات المتحدة عندما قررت غزو العراق في حملتها الصليبية عام 2003م.
أردوغان يقدم مشروعات قوانين ، إلى
مجلس النواب التركي ، ويسحبها حين يجد أنها لن تمر ، ويعرض الاستجوابات ، دون أن
ينتقل إلى جدول الأعمال . رجب الطيب أردوغان يحكم بقوة شعبه ، وليس بالعصا الغليظة
أو الذراع الفولاذية ، هذا الشعب هو الذي عبر عن نفسه في ميدان تقسيم وشارع
الاستقلال في استانبول ، بأكبر المظاهرات التي تؤيد فلسطين ، وتتضامن مع شعبها دون
أن ترهبهم الخوذات العسكرية والرشاشات المشرعة والضابطات المحجبات (؟) .
إن أردوغان عمل على ترقية بلاده في صمت
، ودون ضجيج ، ولم يسع إلى نجاحات مظهرية ، فلم يحصل على صفر في المونديال ، ولم
يتلق صفعة في اليونسكو ، ولم يعرض بلاده لإهانة الصغار كما جرى مع دول حوض النيل ،
ولم يرض أن ينحاز إلى عدو بلاده التاريخي والأبدي ، ولكنه انحاز إلى بلاده ، وإلى
إرادة شعبه .
رجب الطيب تحدث عنه الكاتب الإنجليزي "
باتريك كوكبرن " في الإندبندنت 10/6/2010م ، فقال :
«منذ أن اقتحمت قوات الكوماندوز
الصهيوني سفينة المساعدات إلى غزة وقتلت ٩ ناشطين برز وجه أردوغان.. الرجل الذي قاد
إدانات الغارة في عناوين الصحف وعلى شاشات التلفاز في أنحاء الشرق الأوسط».
وأوضح كوكبرن أن الإخفاق
الدموي الصهيوني قاد إلى تغيير حاسم في ميزان القوة في المنطقة مشيراً إلى أن دور
أردوغان الشخصي ستكون له أهمية دائمة في أنحاء المنطقة «وبقيادته ستصير تركيا مرة
أخرى لاعبا قويا في الشرق الأوسط لدرجة لم تحدث منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية
في نهاية الحرب العالمية الأولى».
وأبدى الكاتب البريطاني
دهشته من أن تركيا- بسكانها البالغ عددهم ٧٢ مليون نسمة وثاني أكبر قوات مسلحة في
حلف شمال الأطلسي (ناتو) بعد الولايات المتحدة- لم يكن لها دور رئيسي في الشرق
الأوسط قبل الآن.
وقال: «لو أن تهديدات
أردوغان للكيان جاءت من زعماء آخرين في الشرق الأوسط لكان من الممكن تجاهلها لأن
أنظمة هؤلاء الزعماء ضعيفة ولا هم لهم إلا التمسك بالسلطة (؟).. ولكن تركيا مختلفة
لأنها تنمو بسرعة في قوتها السياسية والدبلوماسية والعسكرية».
وتعمق كوكبرن في سيرة
أردوغان عبر قراءة جيدة لأسلوبه وفهم دقيق لسياسته حيث رأى أن سجل رئيس الوزراء
التركي المسلم يشهد بأنه سريع في استغلال أخطاء الآخرين إلا أنه يحب أن يختار الوقت
الذي يناسبه وهو حريص على ألا يبالغ في قوته.
هل يمكن أن أضيف جديدا على ما قاله
باتريك كوكبرن الإنجليزي غير العربي ؟
كلا ! لأنه رجل منصف قال الحقيقة بأوضح
أسلوب .. ولم تستطع الرداحات الفاشلات الجاهلات الأميات مواجهة الحقيقة المرة على
أرض الواقع ، لأنهم عنوان على الخيبة والفشل ، لمن يستأجرونهم !
ويأيها الخياب الفاشلون ابحثوا عمن
يحسّن صورتكم ، وليس من يلطّخها بالسواد والهباب ، حتى يقضي الله أمرا مع شعوبكم
البائسة !!