فك الحصار بين فاعلية الخيار وانفعالية الاستنفار


د. رمضان عمر

[email protected]

رئيس رابطة أدباء بيت المقدس / فلسطين

إن منطق التاريخ يقول: لن تظل غزة تحت الحصار مهما طال الأمد، ولن تبقى إسرائيل قوة قاهرة تفعل ما تشاء ... فالمتغيرات الكونية خاضعة لأحداث الفعل البشري ... فغزة التي تنتفض صباح مساء لكسر هذه الجدر المخيفة هي غزة التي تتحرك دبلوماسيا لإقناع العالم بأن هذا الحصار ظالم ولا بد أن يزول، واستجابة جزء من العالم رسمية وشعبية لهذا المنطق، دليل قدرة الغزيين على إحداث اختراق.

 رست سفن الحرية على شواطئ أسدود، ولم ترس على شواطئ غزة، كما خطط لها ، ولعبت الغطرسة الصهيونية المعهودة دورا بارزا في إقرار هذه النتيجة المتوقعة، إلا أن صدى هذه التجربة البحرية قد تجاوز حدود المتوقع، فرست آهات المعذبين على كل شاطئ إنساني حر، وتجسدت أبيات شوقي المنسية وارتسمت على كل شفة ، لتعيد للفعل السياسي الإرادي فاعليته، فجلجلت الحناجر:

 وللحرية الحمراء باب *** بكل يد مضرجة تدق

 صحيح أن معركة الحصار تستوجب أدوات وآليات مادية لفكه، لكن الفعل الإعلامي، والصدق الإرادي مقومات ضرورية- أيضا- لخلق أدوات الفك، وإحداث فرجة في الجدار الفولاذي الجاثم على صدور الأطفال وجماجم الشيوخ.

 الفعل الإعلامي مقدمة استراتيجية لجعل الحصار- بتجلياته الظالمة- ظاهرة فرعونية عالمية تمس كل إحساس حر، ووعي ناضج ،فلا بد من كشفه وتعريته.

 ومن هنا، فلا أحسب أن الجانب الصهيوني قد سر بنتائج فعلته الشنيعة حينما تناقلتها وسائل الأعمال بصورة واسعة وانكشف عنه الغطاء، وسقط القناع وانتهت أكذوبة الدولة الديمقراطية..

 قد يقول قائل أن الجانب الصهيوني لا يبالي بكل هذا فهو فوق كل جلجلات الإعلام وصخبه، وأيديه الخفية قادرة على إخماد أي نار مهما اشتعلت.

 وصحيح أيضا أن حصار غزة أريد له أن يتم على نار هادئة تنفرد فيه إسرائيل ومن شايعها من أنظمة- لم تخف عداءها لغزة وأهلها-فيتم عزلها وإقصائها إقصاءً يسمح بخلخلات أمنية وانفلات شعبي يسقط المشروع الإسلامي الذي بات واقعا سياسيا يقض مضاجع المنهزمين من أنظمة التبعية، لكن نقل حلبة الصراع إلى آفاق أوسع ، أو إلى عالم الكينونة البشرية من خلال حملات منظمة سيقطع الطريق أمام تلك الرغبات الدنيئة ، والمؤامرات الظالمة ، ومن هنا نستطيع أن نفهم حقيقة التوجسات التي أبدتها سلطة رام الله اثر التحرك التركي ، لقد جاء التحرك التركي الرسمي علنيا واستراتيجيا فاعلا ، مما جعل أثره صاخبا ومفاجئا ومؤثرا، وهذا يعني أن غزة لم تبق وحيدة تتناهشها السباع من كل حدب وصوب.

 وأن حق لقائل مثل عزام الأحمد أن يقول :"إن سفن الحصار لن تكسر الحصار" ، لكن الأحمد نسي أن المعركة لم تبدأ بعد، بل إن الذي رآه حتى اللحظة بريق السيوف، وهنا يكمن الفرق بين الفاعلية والانفعال في استقبال الحدث أو تحليله.

 إن منطق التاريخ يقول: لن تظل غزة تحت الحصار مهما طال الأمد ، ولن تبقى إسرائيل قوة قاهرة تفعل ما تشاء ، وتتنكر لكل مطلب ؛ فالمتغيرات الكونية خاضعة لأحداث الفعل البشري، وان أي تحرك باتجاه ما يفرض على مقابله استجابة ما، بحجم التحرك وهنا يصبح الفعل الاستراتيجي المخطط له واقعا لا بد أن يحقق ثماره ؛ فغزة التي تنتفض صباح مساء لكسر هذه الجدر المخيفة هي غزة التي تتحرك دبلوماسيا لإقناع العالم بأن هذا الحصار ظالم ولا بد أن يزول، واستجابة جزء من العالم- بمستويات متفاوتة- رسمية وشعبية لهذا المنطق،دليل قدرة الغزيين على إحداث اختراق، ثم إن إصرار العالم الحر على متابعة الطريق من خلال حملات تتبعها حملات يجعل الأمر أبعد ما يكون عن الاحتفالية الانفعالية التي تفرغ حمولتها النفسية في مهرجان حاشد ثم تنتهي.

إنه مشروع له ثمنه وله استراتيجياته، ثمنه ليس فقط في الكم الهائل من شهداء الحرية الذين سقطوا على ألواح ودسر، ويمكن أن يسقط غيرهم على ذات الدسر، ولكن ثمنه –أيضا- صبر يستدعي حنكة سياسية لإبقاء الجذوة الفاعلة مشتعلة؛ فالجانب الصهيوني يراهن على انتهاء حالة الغليان ، وعودة الأوضاع إلى مربع ما قبل الحملات،وهنا تأتي الفلسفة الاستراتيجية لدى الغزيين لإبقاء الجذوة مشتعلة، وربما نقلها إلى درجة أعلى من درجات السخونة ليتراكم الإحراج على الجانب الصهيوني من نحو، وتتطور قناعات الفاعلين من بني البشر لتطوير آليات التحرك ، وإضعاف الصوت الهزيل إلى حد الإمحاء، ذلك أن نجاح فلسفة كسر الحصار بالإصرار عليها سيغري أحرار العالم بعدم القبول بسياسات الإذلال المتبعة هنا وهناك، وهذا يعني أن العالم سيشهد تغيرات مصيرية في الشكل السياسي العالمي ، فقد ينهار ما يسمى النظام العالمي الجديد ، وستنهار معه منظومات قيم ظلامية تحرسه وتبرر له جرائمه، وهذا سيمهد –حتما- لحريات حقيقية بعيدة عن الزائف المشبوه وهنا يحق لنا أن نقول: إن غزة تلعب لعبة كونية، ستتجاوز بالفعل ما يمكن تسميته فك الحصار إلى إقرار حالة سلم عالمي، وفرض منطق جديد في العلاقات الدولية ، وستكون قدوة لغيرها من حركات التحرر التي ظلمها العالم ، وأسقط حقها الإنساني في الدفاع عن النفس.

 فلئن صدقت النوايا  والإرادات وتحقق النصر كما قال رب العزة (إن تنصروا الله ينصركم)فهذا يعني انتهاء حقبة ظالمة كان منطق القوة فيها هو السائد، لتأتي حقبة تسود فيه قوة المنطق،بعدها سينفتح الكون الإنساني على تصفيات تاريخية أشبه بحرب عالمية، لكنها حرب السلام الأصيل، السلام الذي يحقق للبشرية أمناً والعالم معه سواء شرقه أو غربه خاضع لقانون إنساني منضبط ، وهنا ستتبدل الوجوه؛ فيصبح عمالقة السلام الحقيقيون هم من يوصفون اليوم بالإرهابيين، وتحال كل النظم العقيمة المستبدة إلى محاكم دولية منصفة ليأخذ كل عاتية جزاءه.

 من هنا حق لنا أن نقول: إن غزة بلد العزة ، وأنها بوابة المجد العالمي نحو إقرار سلم فاعل أبدي فدعم مشاريع كسر الحصار واجب إنساني وقراءة المشهد وفق منطق يستدعي أهمية الوعي الكوني في رؤية إنسانية كونية شاملة، سيكون بداية لفهم الواقع أو إعادة تشكيله هذا ما نراه بأم أعيننا في مستقبل قريب إن شاء الله وإن غدا لناظره قريب ، وإن مع العسر يسرا.