متى المراجعة الفعلية في السياسة الخارجية الأميركية

متى المراجعة الفعلية

في السياسة الخارجية الأميركية؟

صبحي غندور*

[email protected]

تميّزت السياسة الخارجية الأميركية، تحت إدارة الرئيس السابق جورج دبليو بوش، بالنزعة إلى الحروب وإلى استخدام القوة العسكرية الأميركية لفرض نظام دولي جديد تتثبّت فيه الهيمنة الأميركية على العالم وعلى مواقع الثروات فيه. ولم يكن صحيحاً طبعاً ما زعمته إدارة بوش بأنَّ سياستها هذه كانت ردّة فعلٍ على ما حدث في واشنطن ونيويورك يوم 11 سبتمبر 2001 من أعمال إرهابية. فنائب الرئيس الأميركي السابق تشيني زار المنطقة العربية في مطلع العام 2001، فور بدء إدارة بوش، من أجل إقناع بعض الحكومات بدعم الخطّة الأميركية آنذاك لإحداث تغيير شامل في العراق عن طريق القوّة العسكرية. وقد حصلت جولة تشيني في وقتٍ كانت فيه حكومة شارون تمارس الحرب الإسرائيلية المفتوحة على المدن والقرى الفلسطينية، في ظلِّ دعمٍ أميركيٍّ كبير لحكومة شارون وأساليبها العدوانية على الشعب الفلسطيني.

إذن، أحداث سبتمبر 2001 أعطت العذر والتبرير فقط لما كان قائماً من أجندة خاصَّة للمحافظين الجدد في إدارة بوش وللتيار الإسرائيلي الفاعل فيها، ولم تكن (هذه الأحداث) هي التي صنعت أجندة الحروب الأميركية المعاصرة.

وقد خاضت إدارة بوش الابن حروباً مباشرة في أفغانستان والعراق، ودعمت هذه الإدارة حربيْ إسرائيل في الأراضي الفلسطينية وفي لبنان. وجرت هذه الحروب كلّها  تحت مبرّر "الحرب على الإرهاب" وبذريعة حماية أميركا والردّ على ما حدث في 11 سبتمبر 2001،  بينما لم تربط جماعة "القاعدة"، التي أعلنت مسؤوليتها عن هذه الأحداث، أيّة علاقة مع النظام السابق في العراق أو مع قوى المقاومة الفلسطينية أو اللبنانية، وليس لها بالتأكيد علاقة مع حكومتي طهران ودمشق اللتين خضعتا وتخضعان لضغوط أميركية.

لكن بمعيار النظرية البراغماتية التي تقوم عليها الحياة الأميركية، فإنَّ "الأعمال بنتائجها". ونتائج أعمال إدارة بوش الابن كانت الضرر الكامل للمصالح الأميركية وللعلاقات الأميركية/العربية تحديداً، وكذلك مع سائر شعوب العالم الإسلامي.

بل إنَّ سياسة الإدارة الأميركية السابقة أدَّت إلى تقوية خصومها بدلاً من إضعافهم، وأعطت هذه السياسة زخماً للتطرّف الديني والسياسي، كما أنّها زادت من مشاعر الغضب الشعبي ضدّ الحكومة الأميركية في شتّى أنحاء  العالم.

لذلك كانت التوقّعات من الإدارة الديمقراطية الجديدة التي يرأسها باراك أوباما كبيرة. توقّعات بتغييرات أساسيّة في السياسة الخارجية الأميركية عموماً وفي منطقة الشرق الأوسط خصوصاً.  لكن ما حصل من تغيير حتى الآن هو في الشعارات وفي الخطوط العامة المعلَنة للسياسة الخارجية الأميركية وليس في جوهرها أو حتّى في أساليبها المعهودة. صحيح أنّ إدارة أوباما لم تبدأ الحروب والأزمات المتورطة فيها الولايات المتحدة حالياً، وصحيح أيضاً أنّ هذه الإدارة لم تبدأ أي حروب أو أزمات دولية جديدة، لكنّها (هذه الإدارة) لم تقم بعد بتحوّلات هامّة في مجرى الحروب والأزمات القائمة. يمكن التوقّف فقط عند التحوّل الذي حصل تجاه روسيا، والتوافق الذي جرى معها على مسائل دولية وأمنية عديدة كان مدخلها إلغاء واشنطن لمشروع الدرع الصاروخي في أوروبا الشرقية.

أمّا بالنسبة لإيران مثلاً، فإنّ الموقف الأميركي العملي نحوها لم يتغيّر رغم خطابات الود والدعوات للتفاوض التي أطلقها أوباما أكثر من مرّة. وتحاول الآن إدارة أوباما أن تفعل سياسياً ما حاولت إدارة بوش فعله عسكرياً من سعي لعزل إيران عن الصراع العربي/الإسرائيلي وإضعاف تأثيرها في المشرق العربي، وذلك من خلال جهود واشنطن الحالية لإعادة إحياء مسارات التفاوض في الصراع العربي/الإسرائيلي، هذه الجهود المتعثّرة بسبب مواقف الحكومة الإسرائيلية الحالية وعدم وجود رغبة أو قدرة لدى الرئيس أوباما على المواجهة السياسية الحاسمة مع حكومة نتنياهو.

لذلك، تكون المراجعة السائدة الآن في السياسة الخارجية الأميركية، مراجعة مهمّة إذا كانت للاستراتيجيات وليس للأساليب التكتيكية فقط. وستكون إدارة أوباما مخطئة جداً بحقِّ المصالح الأميركية إذا لم تقم فعلاً بمراجعة إستراتيجيّة للسياسة وليس لأساليب العمل حصراً.

حتّى الآن، لا مؤشّرات عملية على تغييرٍ إستراتيجي قريب سيحدث في السياسة الأميركية، لكن التراكم الكمّي لحجم الفشل، يحتّم التغيير النوعي مستقبلاً.

المشكلة الآن بالنسبة لواشنطن، أنَّ أيَّ تصعيدٍ عسكري أميركي (أو إسرائيلي) ضدّ إيران سيحمل مخاطر جمّة على المنطقة وعلى العالم كلّه، ولن يحمل أيَّ نتائج إيجابية للسياسة الأميركية بل سيكون تكراراً لمأساة سياسة الإدارة السابقة في العراق وأفغانستان وفي لبنان وفلسطين.

أيضاً، لن يشكّل استمرار حالة "اللاحرب واللاسلم" مع حكومة طهران الحلّ الأفضل لإدارة أوباما بسبب ارتباط الملف الإيراني مع كلّ الحروب والأزمات المعنيّة بها واشنطن في الشريط الممتد من غزّة إلى أفغانستان. فهناك استحقاقات دولية كبيرة تنتظر إدارة أوباما خلال النصف الأخير من هذا العام، الذي سيشهد أيضاً انتخابات أميركية لكامل أعضاء مجلس النواب ولثلث أعضاء مجلس الشيوخ، إضافةً إلى حاكمين لعدد من الولايات الأميركية. فالملفّ الإيراني هو مدخل مهم أميركياً لمصير الأوضاع الأمنية والسياسية في العراق المقرَّر سحب القوات الأميركية المقاتلة منه خلال هذا الصيف، وهو أيضاً ملفٌّ مهم للحرب الدائرة في أفغانستان وباكستان. كما هو الارتباط أيضاً بين الموقف من إيران وتداعيات الصراع العربي/الإسرائيلي.

ربّما يكون في الحسابات الحاليّة لإدارة الرئيس أوباما أن من الأفضل التركيز على "إنجازات اقتصادية واجتماعية وأمنية" داخلية في أميركا قبل موعد الانتخابات في شهر نوفمبر القادم، ثمّ التركيز بعد ذلك على القضايا العالقة في السياسة الخارجية. لكن هل تتحمّل حروب وأزمات أميركا الخارجية هذه المسافة الزمنية؟! وهل يخضع أصلاً خصوم أميركا للبرمجة الزمنية الأميركية؟! بل إسرائيل نفسها لن تلتزم، وهي "الصديق لأميركا"، بذلك، وستقوم حكومتها بتنفيذ ما تحتّمه أجندتها الخاصة لا أجندة إدارة أوباما.

ومن الناحية العربية، فإنّ المشكلة هي في انعدام الموقف العربي الواحد وغياب المرجعية العربية المشتركة لشعوب المنطقة وقضاياها. فهناك تسليم من بعض العرب بأنّ ما يحدث في المنطقة الآن هو صراع خارجي (إقليمي/دولي) لا شأن للعرب فيه!. وتنظر بعض الأطراف العربية إلى نهج المقاومة وكأنّه يخدم المشروع الإيراني للمنطقة. وفي ذلك إجحاف طبعاً للقضايا العربية ولِحَقِّ المقاومة المشروعة ضدّ الاحتلال، وهو تعبير عن عجزٍ عربيٍّ فاضح وعن فراغ حاصل في القيادة العربية، وبالمرجعية العربية، وعن غيابٍ طويل لمشروع عربي أو رؤية عربية جامعة وشاملة وفاعلة.

فالأمَّة العربية ليست ساحة صراع إقليمي/دولي فقط، هي أمّة مستهدَفة بذاتها وبثرواتها وبأرضها وبوحدة كياناتها. وما لم تنهض هذه الأمّة وتصحّح واقعها، فإنَّ الاحتلال سيستمر والتمزيق سيزداد، وستتحوّل الصراعات الإقليمية/الدولية إلى حروب أهلية عربية، وستعجز مشاعل المقاومة، المحدودة في أماكنها وإمكاناتها، عن إزالة ظلامٍ دامس عمره أكثر من ثلاثة عقود، يزيده قتامةً الواقع الرسمي العربي وخطايا السياسة الأميركية!

              

    * (مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن)