جردة سياسية سريعة لمجزرة أسطول الحرية

جردة سياسية سريعة لمجزرة أسطول الحرية

د. إبراهيم علوش

بعدما تهدأ زوبعة الأحداث المتلاحقة، تبقى العبرة، كل العبرة، بالتغيير الذي تُحدثه في التضاريس السياسية وميزان القوى على الأرض.

ثمة إيجابيات كبيرة لما جرى بالتأكيد. ويمكن الجزم، بالحد الأدنى، أن كل عمل ملموس أو موقف حقيقي لكسر حصار غزة هو أمرٌ إيجابي، وكذلك تفعيلٍ حالة الاشتباك مع الطرف الأمريكي ـ الصهيوني، بغض النظر عن النتائج الميدانية تقريباً... ولعل أهم ما يُنتجـه ارتفاع وتيرة الصراع هو تحريك الشـارع العربي وتعبئتـه، لأن الشـارع، وما يُنتجـه نضالياً وجهادياً، يبقى في النهايـة بيت القصيد.

فالتضامن الدولي مع غزة رائع، والمتضامنون الأجانب على متن أسطول الحرية أكثر من رائعين، وانكشاف همجية الكيان الصهيوني وإحراج العدو أمام قطاعات عالمية متزايدة إنجازٌ رائعٌ يجب أن نعتز به وننميه... لكن تلك نوافل! فمعركـة الأمـة الفاصلـة مع الطرف الأمريكي ـ الصهيوني لن يخوضها الرأي العام العالمي بالنيابـة عنا في النهايـة، ولن تُحسـم في المحافل أو المحاكم الدوليـة وما شـابـه.

على العكس، ما كان العدو لأن يرتكب جرائمه الحالية والسابقة لولا اطمئنانه لميلان ميزان القوى لمصلحته في تلك المحافل ابتداءً، وعلى رأسها مجلس الأمن الدولي، كما رأينا من البيان الرئاسي لمجلس الأمن الدولي في 01/06/2010 حول مجزرة أسطول الحرية، وهو بيان، للتذكير فقط، لم يرفع حصاراً عن غزة، ولم يدن الكيان الصهيوني، ولم يفرض عقوبات، ولم يدعُ حتى لتحقيق بإشرافه، ولم... ولم... ولم... وهذا يعني أن القرار الدولي برَّأ الكيان من جريمته فعلياً، بغض النظر عن الدعوات الجانبية لرفع الحصار عن غزة التي تُطلقها بعض القوى الأوروبية لتُبرئ ذمتها، أو لتُسجيل بضع نقاط إعلامية لدى العرب.

بالرغم من ذلك، ثمـة إنجازات سـياسـيـة حقيقيـة، على رأسـها انخراط أخوتنا في الخليج العربي والمغرب العربي في معركـة رفع الحصار عن غزة؛ سـواء عبر المشـاركـة بأسـطول الحريـة أو سـياسـياً، فتحيـة لهم، حتى لا يقول المغرضون أن العرب غابوا عن هذه المعركـة.

إنخراط الكويتيين بالذات أسـهم باسـتعادة الجمهور الكويتي لسـاحـة الصراع مع أعداء الأمـة، الأمر الذي توجـه مجلـس النواب الكويتي بإنجاز سـياسـي رائع حقاً، وملموس، هو سـحب الكويت من مبادرة الشـؤم العربيـة. ونلاحظ، على سـبيل المقارنـة، أن الحراك الشـعبي المواكب للعدوان على غزة في بدايـة عام 2009 أنتج بدوره إنجازات سـياسـيـة ملموسـة مثل قطع موريتانيا لعلاقاتها الديبلوماسـيـة مع العدو الصهيوني، وكذلك قطر.

على صعيدٍ أخر، أسهب المعلقون والكُتاب في بالتعريض بالمقاييس المزدوجة، وبالتذكير بتشدد "المجتمع الدولي" مع حالتي سفينة (الأكيلي لورو) والقراصنة الصوماليين إلخ... مقابل تساهله الظاهر مع الانتهاكات الصهيونية للقانون الدولي...  لكننا لم نسمع أو نشاهد من يجرؤ على الإعلان أن أكاذيب المحرقة اليهودية ما برحت تلعب دوراً رئيسياً في جعل الرأي العام الدولي أكثر تساهلاً في التعاطي مع "إسرائيل" والحركة الصهيونية العالمية.  فالمحرقة، كأكبر جريمة وأخطر حدث في التاريخ البشري برمته، على ما زعموا، تبقى الحاجز الزجاجي السميك، وغير المرئي، الذي يصطدم به الساعون لإدانة الكيان الصهيوني على جرائمه. وبدون تكسير هذا الحاجز، بالدحض والتفنيد، ستبقى العقوبات والإدانات للكيان الصهيوني مخففة، لو افترضنا جدلاً أنه أُدين وعُوقب يوماً، وسيبقى تعاطفٌ كامنٌ مع اليهود حتى بين من يُدينون مجزرة أسطول الحرية.

أخيراً، السـياسـة التركيـة أحرجت الأنظمـة العربيـة بالتأكيد، وكان من ثمار المبادرة التركيـة فعلياً إنجاز فتح معبر رفح، ولو مؤقتاً.  لكن دعونا لا نرضى بالقليل، مما لا نرضى به من الأنظمة العربية نفسها، ومما لا ترضى به قواعد "حزب العدالة والتنمية" في تركيا... فالقافلة سيِّرت لغزة فيما كان يُفترض أن تجري مناورات عسكرية تركية مع العدو الصهيوني، ومباريات رياضية، وبينما التبادل التجاري على قدمٍ وساق. باختصار، يجب أن ندفع كحد أدنى باتجاه قطع العلاقات التركية ـ الصهيونية تماماً كما ندفع لقطع العلاقات العربية ـ الصهيونية، وبنفس التشدد، لنبقى منسجمين مع أنفسنا على الأقل.