لكي لا ينتهي الأسد كما انتهى تشاوتشيسكو

لكي لا ينتهي الأسد كما انتهى تشاوتشيسكو

محي الدين قصار*

 لا أعرف مدى اعتماد الأسد على علماء السياسة في رسم سياسته، فربما تحصيله "العلمي" بحكم أيامه في كلية الطب يمنعه من رؤية الحراك السياسي الإجتماعي بأبعاده المتعددة، ولكن حتى في عالم الطب يعرف المختصون بأن كل دواء يحل مشكلة قد يسبب العديد من المشاكل والإرتكازات الجانبية.  ولكن في علوم السياسية والإجتماعية قد تكون الإرتكازات الجانبية التي يسببها "حل مرتجل" أكثر ضررا من المشكلة الأصلية.  فالنظام اليوم يرى أن التصعيد الشديد والحرب التي أعلنها على المعارضة الوطنية في سورية قد تتيح له الإستمرار في الحفاظ على كرسي الحكم،  ولكن كل ما يحققه بشار الأسد هو زيادة عزلته الداخلية بعد أن كرست سياسته الخارجية عزلة عربية ودولية لم تعرفها أبدا في تاريخها المعاصر

فتأتي هذه الاعتقالات بمثابة عملية وأدِ للخيار الوحيد الذي بإمكانه أن يفتح آفاقَ حلٍ توافقي لمعضلة التغييردون تكاليف دموية باهظة يدفعها النظام وأشخاصه. وإن كان قد درج السوريون على التندر بالبلاغ رقم واحد الذي يأتي دوما مع كل انقلاب،  ولكن من وجهة نظرالعلوم السياسية ومع كل اعتقال سياسي يقوم به النظام تخطو سورية خطوة باتجاه حل يأت عن طريق انقلاب عسكري وبتتعد خطوات عن حل يتبنى المصالحة الوطنية.  فهي أقرب ما تكون اليوم لاحتمالات سماع البلاغ رقم واحد منذ  وصول الأسد الأب إلى الحكم، ورغم أننا لا نأمل أن يكون هذا البلاغ عسكريا، ولكن أفعال الأسد تخلق الأوضاع الملائمة له. ومصدر الخطر القادم على النظام ليس براعم المجلس الوطني لاذين لا يملكون سوة قلمهك وصوتهم وصدورهم العارية، بل ما يهدد النظام هم أعمدة حكمه الحالية.  ولكي نشرح هذا سنعرض في هذا المقال نماذج التحول الديموقراطي الممكنة، ومن ثم نعرض الدلائل من الواقع القائم والتطورات الجارية في سورية و كيف يقوم النظام بالسير الحثيث نحو نموذج التغيير الأكثر كلفة، وان كل خطوة يخطوها النظام يدفع بنفسه نحو الإنتحار.   

 خسارة فرصة المصالحة:

هناك ثلاث وثمانون عملية تحول للديمقراطية تمت خلال أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات في العالم.  تلخص معظمها بثلاثة نماذج، الأول هو على طريقة التحول في تشيلي ، الثانية على الطريقة الرومانية،  الثالثة على الطريقة التي تمت في ألمانية الشرقية. ومن المعروف في العلوم السياسية أن درجة التطور السياسي ومؤسسات المجتمع المدني قبل التحول وطبيعة النظام تلعب دورا كبيرا بتحديد أي من هذه النماذج سيتحقق.  فالطريقة التشيلية نجحت بإبعاد الجيش تدريجيا عن السياسة مع المحافظة على كرامة القوات المسلحة، وقد بلغت قيادات االقوات المسلحة درجة من النضج بحيث أدركت أن كرامتها تتحقق بالعودة إلى ثكناتها، وأن دورها المشرف هو الدفاع عن الوطن وشعبه لا عن النظام.  رغم دموية السلطة في تشيلي فإننا نجد أن عملية التحول الديمقراطية وانتقال السلطة من رجل الأمن إلى رجل السياسة كانت أقل كلفة وأهدأ للبلاد، فكل من العسكري والسياسي امتلكا لحظة التحول النضج الضروري لكي يتخلى الأول عن السلطة بثقة واباء، وان يستلمها السياسي وقد أدرك لحظة نضج وواقعية تحقق نجاح نتائج التحول.

 وقد كان هناك فرصة أن يتحقق هذا التحول في سورية مع وصول بشار الأسد إلى الحكم حيث كان هناك صفحة جديدة لعلاقة النظام بالشعب، مما كان من الممكن أن يجعل هذا التحول السلمي ممكنا. وقد عزز هذا الأمل السرعة التي برعمت فيها زهور "ربيع دمشق." وبدأت طلائع لجان المجتمع المدني بالنمو مما بشر بقدرة الطبقة السياسية على تجاوز عهود التصحر السياسي، وجعل هذا النمو بشارة خير بأن التحول ممكنا، وأن النقلة من رجل الأمن إلى رجل السياسة يمكنها أن تتحقق باقل التكاليف لكل الأطراف.

 ولكن مع كل يوم يمر وفي كل جريمة يرتكبها النظام في سورية - سواء داخليا أو خارجيا - يجعل التحول بحسب هذا النموذج أكثر صعوبة.  ففي  حين كان هناك فرصة لبشار الأسد أن يفتح صفحة نظيفة بينه وبين الشعب في سورية يوم قام بتنحية جماعة أبيه، فقد نتج عن تردده تشكيل طبقة من مراكزالقوى في النظام جمعت أسوأ ما في العهدين، فجمع اعمدة القمع التي كانت في النظام الأمني لوالده، وطبقة جديدة من الشرهين اقتصاديا تابعوا في تجيير اقتصاد الدولة لمصالحهم.  فأشخاص النظام اليوم متترسون بالسلطة يدركون أن سقوطه يعني يوم الحساب العسير على كل ما ارتكبوه سواء داخليا أم خارجيا،  وأمام عمليات النهب المنظم لاقتصاديات البلد منذ وصول بشار الأسد وجماعته، تبدوا البلد وكانها سفينة ينتهبها هؤلاء وهم يسابقون لحظة غرقها

 سياسة من دون سياسيين وتكنوقراط القصر:

 إن اعتقالات أعضاء وقيادات ربيع دمشق والمجلس الوطني للتغيير، تختلف بطبيعتها ونتائجها عن اعتقالات الإخوان المسلمين في السبعينات والثمانينات.  فاضافة للتهميش الطويل للطبقة السياسية في سورية حتى المنضوية تحت عبائة الجبهة الوطنية، تؤكد هذه الاعتقالات بأن  السلطة هي مزرعة السياسيين الوحيدة وأن أي حراك سياسي خارج السلطة سيقابل بالاضطهاد والسجن.  وبكلمة تبسيطية هذا يعني أن البلد" لم يبق بها سياسيون،"  بل كل من بقي في موضع القرار ما هو إلا تكنوقراط أومسؤول أمني، وسرعان ما سيجد بشار الأسد نفسه وحيدا محاطا بالمنتفعين وعديمي الخبرة كحاله الآن،  وسرعان ما سيجد النظام حاجة ضرورية لتقديم القرابين تباعا لتغطية قراراته عديمة الخبرة إن لم نقل جرائمه ونتائجها الوخيمة واستحقاقاتها الداخلية والخارجية. وهل من ضلال للقرار السياسي السوري يماثل ما وصلت إلية اعرزلة السورية داخليا وعربيا ودوليا؟ ومن هنا يبدو أن الحل الذي يهدد السلطة اليوم هو الحل على الطريقة الرومانية.  

 فالنموذج الثاني هو النموذج الروماني، حيث سحبت بعض القيادات الأمنية تشاوتشيسكو وزوجه إلى محكمة صورية انتهت بهما صريعين، ونقلت السلطة لوجوه جديدة سمحت تدريجيا ببعض الإنفتاح وإن كانت لم تحقق العدالة المطلوبة.  وفي سورية لم يكن مقتل غازي كنعان إلا محاولة للقضاء على أحد المراكز التي يمكنها تبني مثل الحل الروماني من جهة، ومن جهة أخرى إثارة الهلع في قلوب من قد يسول له نفسه بمثل هذا. وليس من العسير تخيل وضع تقوم به أحدى القيادات الأمنية أو مجموعة منها بتطبيق الحل الروماني، وتحقيق بعض الإنفتاح واعطاء القوى العربية والدولية ولا سيما تلك التي تتبنى المشروع الأمريكي ما تريده بصفقات سرية تنهي عزلة النظام

والأخبار تتواتر لنا بأنه لا يسمح لاي من أعمدة الحكم ولاسيما الأمنية منها بمغادرة القطر خوفا من ترتيبات لهم مع الخارج.  حتى بشار الأسد نفسه لا يكاد يخرج من القطر إلا لزيارة بعض الدول المعدودة، وبشكل مفاجئ وقصير.  وكلما زاد قمع المؤسسة الأمنية كلما زادت عزلة القصر الجمهوري وارتهانه لمشيئة هذه المؤسسة

 مثال بسيط عن حدود الفعل الممكن من يبيع من؟

 هذه الأيام تأتي عملية اغتيال عماد غنية في شارع من شوارع دمشق وتحت أنف أجهزة الأمن التي لا يخفى عليها خافية في البلد، لنا أن نتساءل هل تمت هذه العملية باتفاق بين القيادة السياسية مع القوى الملاحقة لعماد غنية، أم أن الاتفاق تم بين بعض المراكز الأمنية السورية والأجنبية. وكلا الحالتين دليل شؤم على النظام، فإن كان النظام نفسه أتم  صفقة لتسهيل عملية اغتيال غنية، فهذا يعني أن النظام متورط بعملية تقديم القرابين للخارج عل وعسى أن يرضِ القوى الدولية عليه.  وهذا يعني بذاته رسالة لمراكز قواه داخليا، وحلفاءه في الخارج أن الجميع قابل للاستهلاك مقابل حماية الكرسي.

أما إذا كانت عملية الإغتيال قد تمت بتسهيلات من بعض المواقع الأمنية، فهذه تجعلنا نتسائل إلى أي مدى تورط هذه المراكز واختراقها من قبل القوى الخاجية، وهل سيتبع هذا تنظيفات داخلية جديدة في الصفوف الأمنية،  ففي هذه الحالة أيضا تبق عزلة النظام وارتهانه للمؤسسة الأمنية قوية جدا،  فهل يملك من القوة الكافية ما يمكنه من الدخول في مواجهة مع الجهات المخترقة من أعمدة حكمه،  وإن لم يكن له ذلك كيف بامكانه حماية ذاته من صفقة يعقدها هؤلاء على رأسه كما عقدوها على رأس عماد غنية.  

 المجلس الوطني للتغيير الديمقراطي فرصة الأسد الوحيدة:

لقد رأينا في عديد من الدول حيث يدرك الدكتاتور أنه لا يمكن لحكم البلاد دون معارضة وأنه أكثر حاجة للمعارضة من حاجة المعارضة له، وراقبناتخرج المعارضة من سجنها للمشاركة بالحكم والمساهمة بخلق وفاق وطني، يحقق نقلة سلمية ونوعية في البلاد.  وهذا لا نحب أن نستبعده عن سورية، ولكن المعضلة التي يواجهها النظام أنه استبعد تماما هذه الإمكانية، وأن أسوأ ما يعرض نفسه بخطواته المتلاحقة حتى اليوم هو تعميق ارتهانه للمؤسسة الأمنية ومراكز قواها. لقد اثبتت التجربة العراقية أن المؤسسة المسؤولة عن حماية صدام الحسين كانت أول من يتخل عن مواقعها، وأن قيادات الحرس الجمهوري هي أول من اتفقت مع القوات الأمريكية، وأن الجيش هو الذي دافع ببسالة عن البلاد.  ولكن الحالة السورية لاتغري الأمريكان بالتدخل عمليا، ولكن ليس من العسير عليهم  تدبير اتفاق مماثل لإتفاقهم مع الحرس الجمهوري.

فخلاصة القول، عندما يقوم بشار الأسد ومراكز قراره باضطهاد وتهميش المعارضة السورية ولاسيما قيادات المجلس الوطني للتغيير، فإنه يقوم باضعاف الجهة الوحيدة التي بامكانها أن تمنح البلاد فرصة لمصالحة وطنية يوما من الأيام والتي هو في أشد حاجة لها لخلق حوار وطني يساعده في الخروج من عزلته.  وبممارسة هذا القمع فإنه يعمق من عزلته ويخطو بخطوات حثيثة باتجاه مصير مشابه لمصير تشاوشيسكو يلقاه على يد المقربين منه.

ونحن اليوم نطالب الجميع بالوقوف وقفة تضامن قوية مع سجناء الرأي والحرية في سورية، فهذه الوقفة واجب انساني لأن الحريات السياسية والفكرية حق لا يتجزأ لكل إنسان في وطننا الحبيب، وإن لم نناهض حملة القمع والإرهاب التي تمارسها السلطة السورية على مفكرينا ومناضلي الحرية والديمقراطية فإننا نساهم بزيادة تكاليف التغيير الحتمي القادم، وأن كل يوم يستمر فيه هذا القمع يقلل من امكانية قيام عملية وفاق وطني ومصالحة سلمية وسليمة. أما النموذج التحول الثالث الذي تم في المانية الشرقية فسنخص له حديث مستقل

               

    * أقتصادي وأكاديمي سوري مقيم في شيكاغو