مذبحة باب البلد في حماة
د.خالد الأحمد *
بعد ست وعشرين سنة من المجزرة الكبرى التي نفذها النظام الأسدي في حماة الصابرة المجاهدة ، بعد هذه السنوات اتضح وضوح الشمس أن النظام الأسدي جيء به لينفذ مقولته ( الرجعية أخطر من إسرائيل ) ، وقد قتل عشرات الألوف من خيرة أبناء الشعب السوري ، أما الجولان ، فمنذ أربعين سنة أو تزيد يسوده الأمن والسلام ، وفي هذا الأسبوع الأول من شباط (2008) تستمر المحادثات في استامبول بين مصطفى سليمان وآلون الصهوني ، ومازالت مأساة حماة راسخة في أذهان المسلمين وسوف تبقى حتى يعود الأمن والعدل إلى سوريا ويحاكم القتلة وسفاكي الدماء ، مجرمي الحرب ...وتشفى صدور من بقي حياً من الآباء والأمهات ....
فالجرائم التي ارتكبها النظام السوري ، نظام البطش والإرهاب ، هذه الجرائم البشعة التي يندى لها جبين الإنسانية ، وتأنف الوحوش في الغابات أن تفعل مثلها ، هذه الجرائم جدير بنا أن نجمعها من ألسنة شاهدي العيان الذين مازالوا يعيشون بيننا ، الذين كانوا فيها ، واكتووا بنار جمرها ، وأقل الواجب علينا معشر المثقفين أن نسجل الحقيقة ، وننشرها ، لنتغلب على الكذب والتضليل و ( الدجل الثوري ) ، الذي يمارسه النظام السوري منذ أربعين سنة .
وقعت مذابح كثيرة في وطننا المستلب ، في حماة وحلب وجسر الشغور وجبل الزاوية ، وفي غيرها من ربوع سوريا .
خبراء الجريمة السوفييت :
وكانت هذه المجازر الجماعية بناء على نصيحة خبراء الجريمة السوفييت ، الذين استقدمهم نظام الطغاة بعد أن كادت تسحقه ضربات الثورة الشعبية المسلحة التي نشبت في حماة وحلب وجسر الشغور وغيرها ، عندئذ وصل خبراء أو (خبثاء ) الجريمة السوفييت ، ولاشك انهم (صهاينة ) ، وعاينوا مكان وزمان وقوع اغتيال عملاء النظام ، وعرفوا أن الشعب متعاون مع الثوار ، ومتضامن معهم ، ونصحوا النظام أن يقتل خمسين مواطناً على الأقل في مكان وزمان الاغتيال ، عسى أن يكون القاتل أحدهم ، وعسى أن يفصلوا الشعب عن الثوار ، فيستطيع النظام عندئذ السيطرة على الطليعة المقاتلة ، التي كانت تلقن عملاء النظام دروساً موجعة خلال النصف الأول من عام (1980) .
أما مجزرة باب البلد :
فهي إحدى المجازر الثانوية بعد مجازر ( 1982م ) وقد تمكنت من مقابلة أحد الناجيين منها ورواها لي كما وقعت .
يقول ( أبو حيان الحموي ) كنت زائراً عند بعض أقاربي في حي باب البلد ، أتفقدهم لغياب رب أسرتهم الذي غيبته المخابرات العسكرية ، ومازال غائباً حتى اليوم ، وشاء الله عزوجل أن أشهد أقسى تجربة يشاهدها إنسان في حياته ، عندما يشاهد الموت على بعد ثوان فقط منه :
( في الرابعة من فجر يوم : 22/4/1981م كانت مجموعة من الطليعة المقاتلة تختبأ في مقبرة باب البلد ، وتكمن منتظرة سيارات الوحدات الخاصة ، ولما مرت سيارة للوحدات الخاصة اشتبكوا معها ، وقتلوا سبعة عناصر منها ، ويبدوا أنهم تمكنوا من الفرار .
لذلك قرر قائد الكتيبة ( رائد من السويداء ) الانتقام من الحي المجاور للمقبرة وهو حي باب البلد وبجواره البرازية ، عملاً بالاستشارة التي قدمها الخبراء السوفييت ( يهود) ، الذين استقدمتهم الحكومة السورية عام (1980م) لدراسة الحالة الأمنية في حماة ، وقد عاينوا عدة مواقع في حماة جرى فيها اغتيال بعض أعوان السلطة ، وكان خلاصة تقريرهم أن هذه المدينة كلها مجرمة ، وهي متعاونة مع هؤلاء ( المخربين ) ، لأن ( المخرب ) يقتل ضحيته ويفر ثم يختبئ أمام هؤلاء المواطنين ، ولايسهمون في القبض عليه ، أو على الأقل إرشاد وحدات الجيش المنتشرة في كل مكان من المدينة ، والتي تصل إلى موقع الاغتيال بعد بضع دقائق فقط ، ولاتتمكن من القبض أو معرفة الجاني ، لذلك ننصح بقتل عشرات المواطنين ، في الموقع الذي جرى فيه اغتيال أي عميل للسلطة ، حالاً وبدون تحقيق ، وبدون التعرف على الأسماء ، يكفي أنهم من ذلك المكان ، كي نجبر أهالي مدينة حماة على الوقوف مع السلطة ضد ( أفراد العصابة ) ، وعلى الأقل يمنعونهم من البقاء بينهم أو التحرك في حييهم . هكذا كانت نصيحة الخبثاء اليهود السوفييت ، وطبقها النظام السوري بحذافيرها عام (1981م) ، وكانت هذه النصيحة بداية رجحان الكفة عسكرياً نحو جانب السلطة ، بعد أن كانت الكفة العسكرية ترجح نحو مقاتلي الطليعة خلال (1979 ، 1980 ) .
في الخامسة فجراً تقدمت وحدات خاصة من الشارع المحاذي لكلية الطب البيطري ، وأخذت المواطن مصطفى دياب من بيته ( أصله من قرية بسيرين ، ويسكن حماة منذ ربع قرن ) ، ثم أخذوا سبعة مواطنين وجدوهم في فرن ( عفشة ) ، ثم أخذوا ولدين شابين من أولاد أبي صالح الزعبي ، ثم أخذوني من بيت أقاربي ، وكنت الحادي عشر ، والحمد لله أنهم لم يعرفوا أنني من خارج الحي ، ولو عرفوا لقتلوني منفرداً ، ولكن شاء الله أن أبقى حياً ، وقبل وصول شارع باب البلد صفونا في الشارع وأهل الحي يتفرجون علينا من نوافذ بيوتهم ، ورمونا بالرصاص فوقعنا جميعاً ، وقد أصابتني ثلاث رصاصات إصابات غير قاتلة والفضل لله ، وكان غيري جريحاً أيضاً ، وتركونا ممددين في الشارع ، وتابعوا سيرهم إلى باب البلد فأخذوا المواطن خالد الرزوق وأولاده الثلاثة من بيته ( وهو صاحب بقالة كبيرة ومشهورة في المنطقة ، يشتهر بدماثة خلقه وسماحته في البيع ، وغيرته على الدين يرحمه الله ) ، وأخذوا المواطن شمدين الملي ، وأبا أكرم الحلاق وولده ، ( استطاع أن يهرب الأب من خلفهم ويدخل في زقاق جانب خان سليم حمادة ولم يلحقوه وبقي ابنه معهم ، فنجا الأب وقتلوا الإبن ) ثم أخذوا عبد المنعم حداد ( شقيق الشاعر عبد القادر حداد ) ومواطن من آل البرازي وآخر من آل تركماني ، وكلما وصل عدد المواطنين معهم إلى مايزيد عن عشرة رشوهم في الشارع وتركوهم ممددين تحت المطر . كما أخذوا عدداً من المواطنين من بيوتهم من شارع أبي الليث الذي يصل البرازية مع باب البلد ورشوهم عند سوق النحاسين .
ووصل عدد المواطنين الذين رشوهم في صباح ذلك اليوم إلى اثني وسبعين مواطناً أخذوهم من بيوتهم ، وقد استشهد منهم سبعون يرحمهم الله ، ونجا منهم اثنان كنت أحدهم .
بقينا ممددين حتى السادسة صباحاً حيث رجعوا إلينا ، وكنت ممدداً على بطني ، وشعرت أن الموت اقترب مني ، وصرت أهمس في قلبي دون أن أحرك عيني المغمضتين ، وكنت أتمنى لو أستطيع أن أسد أذني كي لا أسمع الجندي وهو يطلق عليّ رصاصات الإجهاز ، وأجهزوا على مصطفى دياب يرحمه الله ، وقال أحدهم لزميله القريب مني : تفقد ذاك الذي نام على بطنه يبدو أنه لم يمت ، واقترب العسكري مني ثم ناداه الضابط بسرعة فذهب إلى الضابط ولم يتفقدني [ لأن أجلي لم ينته ] ، وبقينا ممددين أمام أعين أهلنا وأقاربنا حتى العاشرة صباحاً تحت المطر ، حيث انسحبت كتيبة الوحدات الخاصة من المكان .
كنت مصاباً بجرح كبير حول الكلية ، ولما تأكد أهلونا من ذهاب الوحدات الخاصة أسرعوا إلينا ، ووجدوني حياً فنقلني أحد هم إلى مخفر الشرطة لكنهم رفضوا أن يفعلوا شيئاً ، فأعادني وفي شارع العلمين صادفتنا سيارة الإسعاف فأوقفهم وحملتني إلى المستشفى الوطني ، وهناك وجدت عشرات الجثث مازال دمها ينزف ، ووجدت مسؤولين من المخابرات وغيرهم من وحدات الأمن ولما حققوا معي [ ولأن أجلي لم ينته ] ؛ هداني الله ولم أقل لهم أن الوحدات الخاصة ضربوني ، وإنما قلت لهم جماعة مجهولين وغالباً يكونوا من عصابة الإخوان ، لذلك تركوني وشأني ، أما المستشفى فكان مكتظاً بالجرحى ، ولم تسمح لي المخابرات العسكرية بالمعالجة فيه ، فأعادني أقاربي إلى بيتي ، لأعالج هناك بحقن مضادة للالتهاب ، وينظفون لي الجرح بالمعقمات ، وبقيت خمسة عشر يوماً فيه حتى كتب الله لي الشفاء .
وقد عرفت فيما بعد أن جريحاً كان معنا نقله أهله إلى دمشق للعلاج ، ولما حققت معه الوحدات الأمنية وقال لهم ضربتني الوحدات الخاصة أجهزوا عليه في الحال .
وعرفت في المستشفى أنه في نفس اليوم ( 22/4/1981م) وفي المساء وقعت مجزرة جماعية في حي بستان السعادة ذهب ضحيتها قرابة سبعون مواطناً .
هذه عينة من المجازر الجماعية التي ارتكبها نظام الأقلية في سوريا ، ارتكبها ضد المواطنين الأبرياء ، عملاً بنصيحة أسياده اليهود السوفييت . نسأل الله عزوجل أن ينتقم من الظالمين في الدنيا وفي الآخرة ، وأن نرى بأعيينا ذلههم ومهانتم ، والله على كل شيء قدير .
*كاتب سوري في المنفى باحث في التربية السياسية