خميس .. وجورج
خميس .. وجورج !
أ.د. حلمي محمد القاعود
[email protected]
مات خميس .. رحمه الله !
كان شابا مليئا بالحيوية والنشاط ،
وكان مرحا ودودا، وكان فلاحا بسيطا . وكان موظفا متواضعا يحبه الناس جميعا . لم
يفعل مثل آخرين يقتلهم الفراغ في العمل ، فيأكلون لحم الناس ميتا ، ويتمزقون حقدا
وغلا . كل من يعرفه أحبه ، ولكنه غادر فجأة ، وأصر على المغادرة دون أن يخبر أحدا
.
كان يركب دراجته ، في طريقه إلى الحقل
ليتابع الزراعة والرعاية . فجأة صدمته سيارة من الخلف ؛ فقضى على الفور ! وصعدت
الروح إلى بارئها ..
كنت أتقلب في سريري من الألم ، وإذا
بمكبر الصوت ينطلق من المسجد يعلن عن وفاة خميس ، ويحدد موعد الدفن بوصول الجثة ..
لم اصدق في البداية أنه هو ، ولكن تكرار الإعلان من مسجد آخر أكد أنه هو ، . إذا لا
مفر من التصديق ، وانداحت من العين دمعات ضنينة ، لا تسيل حتى في أشد المواقف حزنا
وكارثية ، ولكنها تحركت عند موت خميس ، استرجعت وحوقلت .. إنا لله وإنا إليه راجعون
. ولا حول ولا قوة إلا بالله .
كان قبل أيام معي ،. كنت أزور صديقا
مقربا أجرى عملية جراحية ، المسافة بين بيتي وبين بيت الصديق القريب حوالي مائة
متر ، تحاملت على نفسي ، وتوكأت على عصاي ، وهبطت منزلا صعبا ، وصعدت سلما جهما
وشرسا ، ولكني بحمد الله وصلت ، وجدت " خميس" يفتح لي الباب ، ويستقبلني بعفويته
المحببة ، إنه لا يترك " واجبا " في القرية كلها ، لا في الأفراح ولا الأحزان ، ولا
يترك مشاركة في مصلحة أو منفعة تعود على الناس إلا كان في مقدمة المشاركين ،
والمسهمين .. جلسنا وقتا ليس طويلا ، ولكنه أضحكني وأضحك الحاضرين ، وأضحك المريض ،
وأصر أن يساندني في نزول السلم وصعود المطلع ، وكان مصمما على مرافقتي إلى البيت ،
ولكني أبيت ، ليعود إلى المريض يؤنسه بكلامه ولطفه .
في جلستنا عند الصديق المريض تطرق
الحديث إلى شركائه النصارى . إنه يشاركهم في زراعة بعض الأرض ، والمشاركة قديمة من
أجيال مضت حتى وصلت إليه ، قال لي : إن جورج مريض ، هده المرض العضال ، ولكن زملاءه
في العمل ، وجيرانه في المنزل ، يعودونه ويمزحون معه ، ويقولون له إنه سيعيش مثل
سيدنا نوح ، ويخرج جورج من محنته بالضحك ، ويواصل الحياة .
قلت له : إن الأولاد ، أبناء جورج
وأبناء أخيه ، كانوا يركبون عربة حديد ، وعليها أكياس حبوب ، ومروا على بيتي ،
وسلموا وحييتهم وعزمت عليهم ، ولكنهم اعتذروا لأسباب خاصة ، ومضوا إلى قريتهم ..
قال لي : إنهم الآن يتاجرون في الحبوب
، وجاءوا إلي قريتنا لشراء بعضها من فلان ، فأخذوها ومضوا .
العلاقة بين خميس والنصارى ليست بنت
اليوم ، ولكنها ممتدة منذ زمان بعيد ، كان أبوه يتعامل معهم زراعيا ، وكان الجد
أيضا ، وكانوا لا ينقطعون عن قريتنا في الأفراح والمعازي ، يعدون أنفسهم جزءا من
النسيج العام ، يأتون لإصلاح ساقية ، أو حل مشكلة في الحقل ، أو بعد بيع بعض
الحيوانات التي يشاركون فيها ليسددوا نصيب الشركاء ، وذات مرة تصادف أن جاءوا
للعزاء في أحد المتوفين ، وكان العزاء في المسجد ، ساعة صلاة العشاء . خلعوا
الأحذية وجلسوا في الخلف ، حتى انتهت الصلاة ، فقاموا ليقدموا العزاء لأهل الميت ،
وجلسوا يستمعون القرآن ، ثم انصرفوا مشكورين .
في يوم ما فوجئ الناس في قريتهم التي
تحولت إلى مدينة ، بعملية بناء غير عادية في بيوت النصارى ، التي تضم أبناء العائلة
، كان البناء في ناحية من أحد المنازل ، وإمكانات البناء أكبر من طاقة القوم ،
سألوهم عن طبيعة البناء الذي يتم فجأة وبإمكانات غير عادية ، فقالوا : نبني مضيفة !
فقيل لهم : لماذا لم تخبرونا لنساعدكم ؟ ولكن الإجابات المائعة كشفت أن القوم كانوا
بصدد بناء كنيسة كبيرة ، وبدعم كبير من جهات خارج القرية ، وبعد محاورات تمت إعادة
الأمور إلى نصابها ، وعرف القوم أن علاقتهم بجيرانهم وأهل القرية ، وأداء الصلاة
الأسبوعية في كنيسة المدينة المجاورة التي تبعد أقل من كيلو مترين ، أو ثلاث دقائق
يالتوك توك ، ولا يزورها إلا بضعة نفرقليل ، أفضل الحلول ، ثم إن الصلاة في المندرة
الواسعة التي كان يزورهم فيها رجل الدين ، تكفي !
جورج وإخوته والأبناء لا يعلمون كثيرا
عن الطائفي الخائن عزت أندراوس الذي يقول إن عشرات الألوف في القرية التي يسكنونها
، هم عرب بدو غزاة ، يجب أن يرحلوا عن القرية ، وأن يتخلوا عن إسلامهم حتى يتوقف
الاضطهاد والتمييز .
جورج وأخوته والأبناء لا يعلمون شيئا
عن المجرم الطائفي الخائن الذي يقبع في وكره بواشنطن ، ويقود منظمة من المتمردين ،
ويتغزل في المجرم الصهيوني ليبرمان ، ويدعوه لفرض الوصاية على مصر ، واحتلالها ،
لينقذ بنات النصارى من الاختطاف والأسلمة كما يدعي !
جورج وأخوته لا يدرون بما يكتبه المجرم
الخائن البذيء يوتا ، الذي هرب إلى أميركا ليدير نشاطه الخياني من هناك ، وينشئ
قناة طائفية تمثل إسنادا للتمرد ودعما له ، وتتلقي تمويلا من المتمردين الخونة
الأغنياء !
جورج وإخوته لا يشاهدون القس اللعين
الذي يسب الإسلام والمسلمين على قناة تنصيرية ، تمولها جهات معادية للإسلام
والمسلمين ، ولا يكتفي بذلك بل يركز على شخصية نبينا الكريم –صلى الله عليه وسلم -
ويلصق به أبشع التهم ، وأقبح العيوب ، ليدعو إلى النصرانية بمفهومه الفاسد ،
والبائس، وعندما يشكو الناس منه ، يقول زعيم التمرد : إن ما يقوله حرية فكر . وعلى
المتضرر أن يرد عليه ! ويصفه آخر بأنه مفكر شجاع ، وصاحب رسالة !
وحين يرد عليه أهل العلم ، يخرج سماسرة
دكاكين حقوق الإنسان ، وخاصة من المتمردين الطائفيين ، ليرهبوا الناس بتهمة ازدراء
الأديان ، وتحويلهم إلى القضاء ، ويجدون في ذلك متعة إرضاء ذواتهم المتعصبة ، فضلا
عن إرضاء زعيم التمرد الذي لا يعجبه أن تكون مصر عربية مسلمة .
جورج وأخوته لا يسمعون عن ذلك الإرهابي
الدموي الذي أسس جماعة الأمة القبطية التي اعتقلت الأنبا يوساب ، وقيل إنها قتلته
في المستشفى القبطي ، وكانت جماعته من وراء إنشاء مدارس الأحد التي نشرت التعصب
والتمرد بين الطائفة ، ومهدت لأفكار الانسلاخ عن المجتمع ، ودخول الجيتو في الكنيسة
! وكان من أبرز تلاميذها زعيم التمرد الحالي الذي صار رئيسا للكنيسة !
لقد بعثت صحيفة طائفية زعيم جماعة
الأمة القبطية من تحت التراب ، وقدمته لنا بوصفه
أستاذ القانون المصري القديم بجامعة باريس، ليتحدث عما تسميه
فترة فارقة في تاريخ مصر كان شاهداً عليها وأحد صناع أحداثها المحورية(؟) ، وتلتمس
له عذرا في واقعة إعفاء البابا يوساب بحجة تردى أوضاع الكنيسة الأرثوذكسية عام
١٩٥٤، وتزعم أنه أسس في التاسعة عشرة من عمره جماعة «الأمة القبطية» لتكون المعادل
الطائفي لـ«الإخوان المسلمين» واتخذ لها شعار:«الله ربنا، ومصر وطننا، والإنجيل
شريعتنا، والصليب علامتنا، والقبطية لغتنا، والشهادة في سبيل المسيح غايتنا».
ثم تشير الجريدة الطائفية - حكما - أن المذكور ينتهي نسبة إلى الفراعنة ، أي إنه
صاحب البلد ونحن المسلمين طارئون عليها (؟) ، فتذكر على لسان المذكور أن شجرة
عائلته تنقسم إلى قسمين، الأول ينتهي عند عصر محمد على، والثاني يبدأ من محمد على
وينتهي حتى الأسرات الفرعونية، وصولاً إلى «إب أور» و«راحو توب» و«رع».!(
والسؤال لماذا ينقسم النسب ولا يمتد من المذكور إلى السيد رع ؟ لن يجيب أبدا!) .
وبعد أن تقوم الجريدة
الطائفية بتقديم مؤسس جماعة الأمة الإرهابية على أنه مناضل عريق من أسرة عريقة ضد
الاستعمار والاستبداد ، يطالب بمجموعة من الإجراءات تبدأ بتغيير مناهج التعليم
وضرورة إعلان العلمانية وفصل الدين عن الدولة، لأن الوطن من الناحية القانونية هو
شيء معنوي لا يمكن أن يكون له دين
!
جورج لا يعرف ذلك الإرهابي القديم ،
ولا المتمردين الحاليين الذين يقودون الطائفة إلى مصير فاجع من خلال فصلها عن
المجتمع العربي المسلم ، وربطها بالجيتو في الكنيسة بوصفها الدولة والشرطة والمحكمة
والحزب والنظام والدولة ، وبث عقيدة الاستشهاد من أجل تحرير مصر من الإسلام
والمسلمين ، واستعادة اللغة الهيروغليفية بدلا من العربية التي يعترّ منها زعماء
التمرد ، والاستعداد لإقامة الوطن القومي للنصارى على أطلال الدولة الإسلامية في
مصر كما حدث في الأندلس وفلسطين !
جورج وأخوته يعرفون "خميس " –ر حمه
الله – وأقاربه ، لأنهم يقفون معهم عند الشدة ، ويشاركونهم الأفراح والآلام ، ولا
يجدون غضاضة أن يؤاكلوهم ويشاربوهم في إطار من الدفء الإنساني بعيدا عن الولاء
للمؤسسة الاستعمارية الصليبية التي تتخذ من الأقليات مطية لتحقيق مصالحها ثم تركلها
في النهاية ، والأمثلة أكثر من أن تحصى !
رحم الله "خميس "فقد كان شهما صاحب
مروءة.. ومعذرة – يا خميس - لأنني لم أستطع أن أشيّع جنازتك ، فأنت تعرف السبب،
جمعنا الله وإياك في مستقر رحمته .
هامش :
مع أني لا أنتظر خيرا من الأحزاب
القائمة ، إلا أنني سعدت بالمباراة الانتخابية الجميلة التي تمت في حزب الوفد
الجديد ، لانتخاب رئيس جديد له .
إنني أهنئ محمود أباظة الذي لم تكن
نتيجة الانتخابات لصالحه ، ومع ذلك قبلها بروح رياضية وتعهد بالعمل مع الرئيس
الجديد الذي جاءت به صناديق الانتخابات ، وآمل من الأخير أن يكون عنصر تجميع لا
تفريق ، وأن يرسي قيم التعاون بعيدا عن حبايبنا الحلوين . لعل وعسى!