كم قدحا كان يكفي

مقال فضيلة القس لوسيان جميل عن الوضع في العراق

القس لوسيان جميل

تلكيف- محافظة نينوى- العراق

    قصة نابليون ومراسله:

يحكى عن الجنرال نابليون بونابرت، قبل ان يصير امبراطورا لفرنسا، انه كان قد عين له مراسلا يخدمه في بعض شؤونه. وقد كان هذا المراسل انسانا بسيطا وطيب المعشر، ويخدمه بأمانة. لكن هذا المراسل كان مدمنا علـى شرب الكحول، ولا يستطيع ان يستغني عنها.

وبما ان اصدقاء نابليون كانوا ينتقدونه على ابقائه مثل هذا الرجل السكير عنده، وبما ان نابليون كان يحب مراسله، ولم يكن يشأ التخلي عنه، فقد دعاه نابليون يوما وقـال له: اسمـع يا هذا، ان اصدقائي ينتقدونني بسببك. وأنا لا اريد ان اسرحك من عندي لأنك رجل طيب، فاسمع كلمتي وأقلع عن شرب الكحول، وأنا بالمقابل سوف ارقيك الى رتبة مارشال.

حينئذ قال له المراسل مبتسما: سيدي انا من أول قدح ( بيك ) اصير مارشالا، فبماذا تنفعني الرتبة التي تمنحني اياها؟

مغزى القصة المذكورة:

اعزائي القراء؟

ان الطرفة ( النكتة ) التي انقلها لحضراتكم هي طرفة عن الخمور، بالدرجة الأولى، لكني رأيت انه يمكن توظيف هذه الطرفة ( النكتة ) في مجال اخلاقيات السياسة ايضا، حيث يمكننا، من خلال هذه الطرفة ومن خلال أمثالهـا، ان نفضح خطيئة المحتليـن، كما نفضح خطيئة جميع المتعاونين معهـم، بأي شكل من اشكال التعاون وبأي مقدار، طالما ان الاشتراك في الجريمة يعد هو الآخر جريمة يحاسب عليها القانون، وذلك بحسب القوانين الالهية والقوانين البشرية الوضعية، في العالـم اجمع.

تطبيق القصة على المحتلين:

اما تطبيقنا للطرفة المذكورة فيبدأ بالمحتلين المسؤولين عن قرار الحرب، وعلى رأسهم الطاغية القاتل، السيد بوش الابن، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية. وهنا نسأل عن ضمير هذا الرئيس الذي كان قد تحجر ونقول: ترى كم قدح كان كافيا لهذا الرئيس لكي يُسكت ضميره، ويقرر بالتالي حربا مدمرة على العراق: حربا قال عنها السيد اوباما نفسه، انها كانت خيارا Optionاقدم عليه السيد بوش، وأنها لم تكن ضرورة؟

وبما ان الحرب على العراق، وبالشكل الذي كان مصمما لها، والذي عرفه العراقيون تفصيليا فيما بعد، لم تأت من باب اية حاجة وأية ضرورة، فهذا يعني ان هذه الحرب كانت حربا عدوانية وغير عادلة، ناتجة عن خيار اناس اشرار وصلوا الى هذا الخيار الشرير بمجرد ان شعروا، او بالأحرى توهموا، انهم يملكون القوة الكافية ليفعلوا ذلك، دون مبالاة بشرعية ما يعملون ولا بالتدمير والموت والقتل الذي يتسبب به قرارهم الشرير.

وفي الواقع ان الحرب التي اعلنها الأشرار علينا، لم تكن حربا عادية، لا من حيث مشروعيتها ولا من حيث اهدافها ولا من حيث الخسائر الجسيمة التي تكبدها العراق، ثم تكبدتها الولايات المتحدة نفسها، والعالم اجمع. فالأشرار في الولايات المتحدة وبريطانيا يتحملون وزر تدمير دولة تعداد سكانها ست وعشرون مليون نسمة، كما يتحملون الوزر الكامل لمقتل اكثر من مليون نسمة عراقي وتهجير اكثر من ستة ملايين من العراقيين من بيوتهم ومن مدنهم ومن وطنهم، ليس بسبب خطئ ارتكبوه، ولكن بسبب قرار شرير اقدموا عليه، هذا القرار الذي، وبحسب اعتراف السيد اوبامـا نفسه، لم يكن ناتجـا عن ضرورة، بل كان ناتجا عن خيار كان هو الآخر ثمرة احقاد وتدابير مسبقة مهدت بتصميم، لهذا الاعتداء، ومنها الحصار الظالم الذي فرض على العراق، وما لحقه من اعتداءات عسكرية وسياسية واقتصادية.

من هنا يكون الكلام عن اخطاء الأمريكان كلاما مضللا ومتناقضا مع واقع الحال الذي اعترف به السيد اوباما.

فالأمريكان والانكليز لم يخطئوا ولكنهم اجرموا وحسب، الأمر الذي لم يقبل ان يعترف به السيد اوباما، بشكل واضح، مع كل الأسف، وذلك لأن السيد اوباما كان ينوي مواصلة مشوار الاحتلال، على اساس ان الاحتلال امر واقع وقائم لا يحق له التنازل عنه والتبرئة منه. لذلك يصح هنا السؤال الذي نجده في عنوان هذا المقال والذي يقول: ترى كم من الأقداح كانت تكفي للأشرار في الولايات المتحدة وفي بريطانيا لكي يسكتوا في نفوسهم صوت الحق الذي كان يطالبهم برفع الحصار الجائر عن العراق وشعبه، عوضا عن مهاجمته واحتلاله وتمزيقه بالهمجية التي شاهدناها، وأن يمتنعوا عن شن الحرب عليه؟

وفي الحقيقة اذا كان المراسل اياه يكفيه قدح واحد ليصير مارشالا، فذاك لان المارشالية في تلك الحالة لم تكن تكلف اكثر من قدح واحد، او ربما اثنين. اما عندما يتحول انسان سوي الى سفاح شرير، كما حدث للسيد بوش والإدارة الشريرة التي ساندته وتعاونت معه، وسفكت الدماء معه، وكذبت معه، وتحولت معه الى اشباه الآدميين، فان ذلك لم يكن ممكنا ان يكون وليد قدح او اثنين من المسكرات، ولا حتى كان ممكنا ان يكون وليد حقنة او حقنتين من المخدرات، وانما كـان وليد عملية تخدير طويلة الأجل، ربما استغرقت حياة المعتدين برمتها، وجعلت منهم بشرا سفاحين.

فالقرار الشرير والوحشي والخطير الذي اتخذه المجرمون المحتلون لا يقدم عليه انسان وهو بحالة سوية سليمة، الأمر الذي يفهمنا لماذا تنصل بعض هؤلاء المجرمين من اعمالهم واعترفوا بخطئهم، مـن امثال السيد كولن باول وغيره، الأمر الذي يجعلنا نستنتج ان اصحاب القرار المذكورين كانوا قد وصلوا الى درجة كبيرة من السوء ومن الفساد الأخلاقي الذي اوصلهم  الى القرار الـ لا شرعي والظالم الذي قرروه ضد العراق.

غير اننا يمكننا ان نسأل ايضا عن نوع المخدر الذي أخذه السيد اوباما لكي يتنكر لكل وعوده الانتخابية لشعبه وللعالم، هو الذي كان يملك علـى ما يبدو صحوة فريدة وخاصة قبل ان يستلم كرسي حكم امريكا.

وهنا ربما تصح في السيد اوباما، اكثر من غيره مقولة السيد المسيح عندما قال لخصومه من اليهود: لو كنتم لا تبصرون لما كانت لكم خطيئة، اما الآن وانتم تقولون اننا نبصر فخطيئتكم ثابتة. ( انجيل يوحنا ).

فالسيد اوباما كان مبصرا، كما كان يدعي، هو الذي ابصر بقوة خطيئة سلفه عندما اعتدى على العراق وعلى افغانستان وعلى فلسطين والفلسطينيين وعلى بلدان كثيرة اخرى من العالم، لكنه واصل طريق سلفه وشرب من مسكره حتى الثمالة، مع الاسف، ربما لأن السيد اوباما قد تربى هو الآخر، مثل اسلافه، في مدرسة الرأسمالية الجديدة المتطرفة في الاعتماد على القوة الغاشمة وعلى البراغماتية التي تحتقر ضعفاء العالم ولا تقر لهم حقوقا، كما كانت النازية تماما.

الاسباب الحقيقية لجريمة المحتلين:

وهنا، وقبل ان نعبر الى الكلام عن العراقيين الذين تعاونوا مع اشرار العالم على تدمير العراق، بشكل غير مفهوم وغريب جدا، من حيث الأخلاق الآدمية والأخلاق الوطنية، علينا ان نفهم الآن بأن المسألة التي نتكلم عنها ليست مسألة اقداح من المسكرات، كما كانت في مثل المراسل وسيده نابليون بونابرت، ولا كانت حالة او نزوة مؤقتة ادت بالإدارة الأمريكية الى خيار احتلال العراق، اذ لا يمكن ان يتحول الانسان بليلة وضحاها الى مجرم سفاح مهما كانت هناك من اسباب، ولاسيما في مثل العدوان الأمريكي الخالي من أي مبرر حقيقي.

وعليه

فنحن نرى ان فساد القرار الأمريكي يعود الى سببين رئيسيين

اولهما: الوراثة الخلقية والتربية الاجتماعية الاولى لهؤلاء السفاحين، حيث لابد ان يأتي مثل هؤلاء العدوانيين من وسط عدواني يساعد صاحبه على الاجرام بسهولة، ولاسيما اذا كان هذا الوسط مثل وسط الولايات المتحدة التي تربي ابناءها تربية نازية تتسم بالعنف ونزعة التفوق السوبرمانية، مع احتقار الشعوب الضعيفة وتجاهل حقوقها، الأمر الذي هو معروف عن المستوطنين الأمريكان منذ دخولهم الى القارة الجديدة وقيامهم بإبادة سكانها الاصليين.

اما السبب الثاني فيعود الى نظام الولايات المتحدة السياسي نفسه، ولاسيما بعد ان صارت الولايات المتحدة منفردة بحكم العالم، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. فهذا النظام يجعل كل من ينخرط في السلك السياسي يتصرف ضمن مسلمات تخرج عن قواعد السلوك الانساني السوي، لأنها مسلمات تعتمد اعتمادا براغماتيا على القدرة المتاحة الغاشمة، بعد تحييد الضمير الانساني تحييدا شبه كامل، الأمر الذي يؤدي بالسياسيين الى سلوك سبيل الميكيافلية، حيث ان الغاية عندهم تبرر الوسيلة مهما كانت هذه الوسيلة شنيعة، ومهما كانت  الغاية نفسها غير شرعية، مع اعترافنا بأن الرأسمالية التي وصلت قمة التطرف في زمن السيد بوش الأب والابن، هي المسؤولة الأولى عن جرائم الادارات الأمريكية المتعاقبـة، ولاسيما بعد سقوط الاتحاد السوفييتي الذي كان يحيد قوة الولايات المتحدة الغاشمة ويخفف من زخمها.

من هنا

يكون علينا ان لا نتعجب مما اقدم عليه القتلة والسفاحون في الادارتين الأمريكية والبريطانية، ومن همجيتهم ووحشيتهم، بعد ان عرفنا السبب، او الاسبـاب، التي حولت هؤلاء الساسة الى سفاحين وقتلة محترفين، لا يشبعون من سفك دماء الآخرين، طالما كانت لهم مصلحة في ذلك، ولاسيما اذا كانت هذه المصلحة آبارا مليئة بالذهب الأسود يسيل لعاب الأشرار عليه، الأمر الذي يجعل هؤلاء الأشرار على اهبة الاستعداد لارتكاب ابشع الجرائم من اجل الاستحواذ على نفط الآخرين وخيراتهم الأخرى بأبخس الأثمان.

اوجه التدمير الاجرامي عندنا:

وهكذا، وللأسباب المذكورة اعلاه، ونتيجة لموت ضمائر السياسيين، دمر المحتل نسيج السياسة عندنا وخرب دولتنا وسيادتنا من اساسها ودمر جيشنا وشرطتنا الوطنية والمؤسسات الأمنية الأخرى، كما دمر اقتصادنا الوطني ومعاملنا، وخرب زراعتنا بشكل كامل. اما الخدمات الانسانية: المستشفيات والكهرباء والماء الصافي والصرف الصحي وغير ذلك من الخدمات الانسانية فقد كانت هدفا مباشرا ومتعمدا للمحتل، من اجل ابتزاز العراقيين واستغلال حاجاتهم الاساسية.

هذا، ولكي يصل التدمير الى اعماق شخصية العراقيين الانسانية الروحية عمد المحتل الى تدمير تراثنا التاريخي والى تخريب ثقافتنا بكل ابعادها، والى قطع عرى وحدتنا بأساليب دموية وجهنمية مختلفة. كما ادت الأساليب الخبيثة الاجرامية التي اعتمدها المحتل الى زرع بذور الكراهيـة بين المواطنين، حتى اصبح المواطن لا يستطيع ان يلفظ اسم المواطن الآخر الا ويلعنه، او يدعو الى الاحتياط والحذر منه، لكي يستخلص الأشرار الى ان العراقيين عاجزون عن العيش سوية، وأن فصلهم عن بعضهم البعض اصبح ضرورة حتمية.

وهكذا، ومن خلال عملية التدمير:

تدمير الانسان بالقتل والتصفية الجسدية وتدمير الدولة ومرافقها الأساسية، وتدمير النفسية العراقية، اراد المحتل ضرب عصفورين بحجر واحد: أي انه اراد ان يتخلص من المعارضين لمشاريع الاحتلال، وأن يوقع الرعب واليأس في قلوب العراقيين في وقت معا. فالمحتل، وكمـا يقول المثل، قد ارى العراقيين الموت، لكي يرضوا بالحمـى.

اما نحن العراقيين المراقبين الصامدين، فبعد ان عرفنا سبب الظلم الذي وقع علينا بطل عجبنا، ولذلك لم نعد نتساءل هذه المرة، ولكننا نصرخ بالسيدين بوش واوباما وبإدارتهما، وبألم شديد وغضب عراقي نقول للجميع: ايها السادة ماذا فعلتم بأخيكم العراقي، مثلما كان الله تعالى، بحسب رواية سفر التكوين، قد قال لـ قائين ( قابيل )، قاتل اخيه هاويل ( هابيل ) بلهجة الاستنكار والشجب: قائين قائين ماذا فعلت بأخيك هاويل؟ !

غير اننا بعد ان قلنا للقتلة ماذا فعلتم بأخيكم العراقي نقول لهم ايضا: ترى ماذا فعلتم بأنفسكم، ايها السفاحون القتلة، لكي تنزلوا الى هذا الدرك الجهنمي السحيق. ولذلك، وبعد هذه الصورة المبسطة جدا عن الالام التي سببها المحتل للعراقيين، نتيجة خيار شرير قامت به طغمة شريرة فقدت انسانيتها، يمكننا ان نفهم قليلا الحالة الانسانية المتردية التي كانت تسود المسؤولين عن الاحتلال، كما نفهم حقيقة تحجر مشاعر وقلب هؤلاء الناس وحالة التخدير الذي كانت قد حصلت لضميرهم.

تطبيق المثل على العراقيين:

اما العراقيون المتعاونون مع المحتل فيصح فيهم ما قلناه عن المحتلين انفسهم، مع فارق نوعي يدعونا الى تمييز بعض جوانب خطيئة العراقييـن عن خطيئة المحتلين الغرباء. فقد نحقد على الغريب المعتدي ونلعنه ونسبه ونطلب الانتقام منه، ولا نسامحه ابدا، لكننا لا نفهم كيف يستطيع " القريب " ان يمعن في ايذاء وتدمير اخيه المواطن وهدر دمه وإذلاله، لاسيما اذا كان هذا الأخ المواطن بغير سلاح.

فماذا حدث لكثير من المواطنين عندما اقبلوا على الخيانة العظمى، وقبلوا ان تحل المحنة ببلدهم، بحجة المظلومية؟،

وكم قدحا كان يكفي لكل واحد من المعتدين لكي يسكت ضميره ويشارك في المجزرة التي قام بها المحتل، وفي الويلات التي حلت بالعراقيين؟

اما جوابنا على هذا السؤال

فهو ان جرعة واحدة من المخدرات لم تكن تكفي لتوصل العراقي الى حالة التخدير التي رأيناها عنده خلال سبع سنوات عجاف مليئة برائحة الموت والعذاب. لذلك نؤكد ان ما حصل للعراقيين ناتج عن سنوات طويلة من الأحقاد والضغائن الناتجة عن مصالح، ربما القليل منها يتمتع بالمشروعية. كما ان هذه الأحقاد قد تكون ناتجة عن مؤامرة حقيقية يدبرها الأجنبي للإيقاع بين ابناء الشعب من جهة، وبينهم وبين قيادتهم السياسية، عندما تكون هذه القيادة بالضد من مصلحة اقوياء العالم، من جهة ثانية.

وهكذا، وبعيدا عن التشبيه، ومع احترامنا لشخص أي انسان عراقي ولكل انسان، نقول ان ضمير الانسان في مثل الحالة المذكورة يشبه كلبا، ما ان ينبح على غريب، حتى يأخذ ضربة قوية على رأسه من قبل صاحبه. فاذا ما تكررت الضربات فان الكلب لن ينبح بعد على غريب، حتى لو سرق الغريب الدار كلها.

وعليه

فقد بتنا نحن العراقيين، لا نتعجب عندما نرى المحتل يسرق نفط العراق وثرواته الأخرى، من خلال العقود النفطية التي تبرمها الشركات مع العراق، في حين يبقى الساسة العراقيون المزعومون صامتين لا يحركون ساكنا، لا بل يرون في ما يحدث مصلحة عراقية لا تقبل النقاش، حتى عندما يكون هؤلاء الساسة في حالة تنافس انتخابي. ولذلك لم نسمع من زعيم قائمة انتخابية، حتى ولا من باب المجاملة، بأن قائمته تسعى الى التخلص من الدستور التعسفي والمعاهدة الأمنية الجائرة، ومن عقود النفط الابتزازية.

فمن الذي خدر ضمير سياسيينا يا ترى:

    الخوف، الرشوة، شهوة الحكم، شهوة المال، الانتماء الايديولوجي، المعتقدات الدينية والطائفية والمذهبيـة، شهوة الانتقام من الخصوم، اليأس والقنوط من نيل الحقوق؟ ربما كل ذلك في آن واحد، فضلا عن وجود موجة دخلت العالم بعد سيطرة النظام العالمي الجديد تقول ان اليد التي لا تستطيع ان تعضها فما عليك سوى ان تقبلها وترضى بما تعطيك اياه، بعد ان تصبح خادما لمصلحتها. وهو الأمر الذي حدث في اماكن كثيرة من العالم ويراد له ان يحدث عندنا ايضا. فهل تكون اقداح المسكر كناية عن هذه الأمور التي نتكلم عنها الآن. انها كذلك بكل تأكيد.

اما اذا تكلمنا عن المشاركين في ما يسمى  العملية السياسية، سواء من الذين نزلوا الى ساحة العمل مبكرا، مثل السيد اياد علاوي وغيره، او الذين انضموا الى مشروع المحتل متأخرين، مثل السيد صالح المطلق وغيره، فيكون سؤالنا لهم مشروعا عندما نقول: ترى كم قدح من  المسكر شربتم، حتى بدتم تشاهدون بأم اعينكم ضياع سيادة بلادكم الى ما شاء الله، وترون ضياع ثرواتكم وتحويلها الى جيوب المحتلين، دون ان يرف لكم جفن؟ وكم جرعة مخدر اخذتم حتى صرتم تسموا ما يحدث للعراق نصرا وتحريرا، وكأن الاحتلال قدر على العراقيين لا يمكن تفاديه؟

رجال الدين والاحتلال:

عندما نفترض ان رجل الدين، كل رجل دين، هو رجل ايمان وصدق وحق وعدل ومحبة ايضا، يكون من حقنا ان نذهل ونتعجب عندمـا نجد بعضا او كثيرا من رجال دين عندنا، على العكس من ذلك تماما. فهم قد رحبوا بالاحتلال بالخفاء او بالعلن، وشاركوا في العملية السياسية المفتقرة الى الشرعية والبعيدة عن الأخلاق المقبولة، ودافعوا عن المحتل، ونشروا ثقافة الاحتلال بين مستمعيهم. مع انهم كان يفترض فيهم ان يكونوا واعين لحيل المحتل وأكاذيبه، وان يبصروا المنتسبين اليهم بشرور الاحتلال ولا مشروعيته.

من هنا يحق لنا ان نسأل ونقول:

ترى ماذا جرى لرجال ادياننا ومذاهبنا حتى صدقوا ان الاحتلال تحرير وديمقراطية وحرية. فهل يعود السبب مثلا الى ان كثيرا من رجال الدين كانوا قد همشوا في زمن البعث ولم يكن لهم الدور الذي كانوا يعتقدون خطا بأنه يعود اليهم؟ وهل يعود موقفهم الخاطئ هذا لمجرد انهم رأوا في الاحتلال الفرصة التاريخية التي تعيد اليهم والى طوائفهم هيبتهم وامتيازاتهم القديمة، في زمن الثيوقراطيات؟ ام ان اخطاء البعثيين انفسهم، مقرونة بمتاعب الحروب والحصار الجائر المصمم اساسا من اجل اختراق نفسية العراقيين هي التي صارت الأفيون الذي خدر ضمائر كثير من رجال الدين هؤلاء؟ اننا نعتقد، ومن دون تعمق في التحليل ان جميع الاسباب المذكورة، او بعضها، حسب الناس، يمكن ان تكون واردة وفاعلة، فضلا عن بعض الاسباب الشخصية، في حين نفهم ايضا ان يكون بريق الغرب والرشاوى التي قدمها للأقليات فخا لم يقدر رجال الدين المسيحي ان يتجنبوه.

نتيجة التخدير العامة:

عندما قبل بعض العراقيين السياسيين ان يشتغلوا لحساب المحتل، كان ذلك على طمع ان يعطي هذا المحتل حكـم العراق لهؤلاء العراقيين على طبق مـن ذهب، او على الأقل على طبق من فضة. ومن يدري ربما لم يدر بخلد هؤلاء السياسيين بأن المحتل اذكى منهم كثيرا وأن ما يعطيه لهم سوف يكون بشروط يخجل أي سياسي ان يعلنها امام الناس. فضلا عن ذلك، فالمعروف عن المحتل انه يطالب أي سياسي يطمع بمنصب، بأن يؤدي مـا عليه مقدمـا، قبل ان يستلم اية مكافأة، أي يكون علـى أي سياسي يطمع بمنصب ان يبرهن للمحتل انه جدير بالكرسي الذي سوف يجلس عليه، وهو شرط يبدو انه وافق عليه مسبقا كل المتعاونين مع المحتل، بعد ان كانوا " بائعين ومخلصين " من اولى لقاءاتهم مع المحتل، أي انهم كانوا قد دفعوا الثمن مقدما، بانتظار المكافأة العاجلة.

غير ان المحتل الأمريكي لم يكن يرضى بمجرد الكلام، من سوء حظ السياسيين العراقيين الموالين للمحتل. لذلك كان المحتل قد وضع المتعاونين معه تحت التجربة. يعني تشغيل تجريبي، لكي يرى المحتل عمليا من يكون الأجدر بالمنصب ومن يكون الأكثر اخلاصا لمشروع الاحتلال وللعملية السياسية برمتها، وللمصلحة الأمريكية العامة والخاصة.

وهكذا، ومن باب التشغيل التجريبي، صار الواحد رئيسا ولآخر رئيسا للوزراء، وصار الآخرون وزراء وقادة جيش او شرطة. كما صار الآخرون نواب شعبهم في البرلمان، في عملية انتخاب " انتيكا " لا يوجد لها مثيل في التاريخ، لن المهم في هذه الانتخابات لم تكن النتائج، بل الانتخابات، لكي يقول الأمريكان ان كل شيء تم حسب الأصول.

وبما ان المسألة وما فيها لم تكن اكثر عملية تشغيل تجريبي و بروفا ( تجربة ) ما قبل التمثيل الحقيقي، فقد رضي الجميع ان يجلسوا على كراسي حكم كانوا يعرفون مقدما انها كراسي بدون صلاحيات حقيقية، أي كراسي يجلس عليها الجميع ويمثل دور الحاكم بانتظار تقييم السيد الأمريكي، كما يحدث ذلك في أي امتحان. ورحم الله من قال: علم ومليك ومجلس امة: كل عن المعنى الصحيح منحرف.

ولكن،

وعلى الرغم من هذا الواقع المخزي، حيث قبل الجميع بأن يقوموا بكوميديا الحاكم والمحكوم، او بالأحرى بـ تراجيديا الحاكم والمحكوم، الا ان الجميع، كما يبدو، اندمجوا مع ادوارهم، وكأن كل حاكم منهم، حاكم بالحق والحقيقة، وليس مجرد ممثل، او كومبارس يؤدي دورا مسرحيا وحسب.

اما اذا سألنا عمن اوصل هؤلاء الحكام  الى هذه الحالة المبكية المضحكة، فالجواب واضح ومعروف، اذ ان المسؤول الحقيقي عن هذه الحالة هو شهوة الحكم، هذا الحكم المطلوب بأية طريقة وبأي ثمن جاء، حتى اذا جاء على حساب اقدس الاعتبارات.

غير ان هذا الواقع المأساوي ينقلب واقعا كاريكاتوريا عند كلامنا عن السياسيين و المسيسين المسيحيين، وعن مرجعياتهم السياسية والدينية الهزيلة. فقد نشبه سياسيينا المسيحيين ومرجعياتهم الدينية والمدنية بحشاشين يظنون انهم يعبرون نهرا، فـي حين لا يكون امامهم غير ساقية صغيرة. فسياسيونا ومرجعياتهم السياسية والكنسية الكارتونية عملوا من الحبة كبة وصدقوا انهم بالحق والحقيقة نشطاء وسياسيون ومرجعيات سياسية ودينية، هم الذين لا يستطيعون ان يعملوا غير العمالة السياسية والسمسرة والنفخ في البوق امام المحتل، في حين نعلم ان غالبية المشتغلين بالسياسة من المسيحيين لا ينتمون الى الايمان المسيحي لا من قريب ولا من بعيد، ولا يحملون شيئا من الروحية المسيحية، لان غالبية هؤلاء الناشطين كانوا مناضلين في الحزب الشيوعي والأحزاب المناوئة للعروبة.

بعد هذا يبقى لدينا سؤال أخير نوجهه الى المقاومين العراقيين بكافة انواعهم ونقول:

ترى الا يوجد لديكم الترياق الناجع لإزالة التخدير الحاصل عند العراقيين، لكي يصحوا ويقرروا طرد المحتل من ديارهم صفر اليدين؟

املنا ان يجد المقاومون هذا الترياق المخلص، بعونه تعالى.

والسلام ختام.