حصار غزة .. وحصار العدوّ
أ.د. حلمي محمد القاعود
غريب أمر هؤلاء النائحات النادبات من كتاب السلطة ، حين يرون " حماس " أخطر على مصر من الغزاة النازيين اليهود ، الذين أذلونا وقهرونا واستباحونا . لا أدرى من الذي يُلقّنهم هذا السخف أو هذا الهذر أو هذا السفه الذي لا مسوّغ له ولا ضرورة منه . صحافة التعري والسيراميك والخردة ، رأت أن صواريخ " حماس " تهدد المدن المصرية ! وصحافة لاظوغلي حمّلت حماس كل خطايا البشر ورأت في صواريخها التي يلعب بها الأطفال (!) سبب المجازر التي مارستها العصابة النازية اليهودية ضد الشعب الفلسطيني الأسير، أما صحافة اليسار المتأمرك ، فقد أكدت أن " حماس " لا تفهم الفرق بين منطق الدولة وسلوك الجمعية الخيرية . وأثبتت صحافة الارتزاق – دون دليل – أنه لولا التحالف الشيطاني بين حماس والإخوان المسلمين ما حدث الاقتحام التآمري على مصر ، وفتح المعابر ، ورفع العلم الفلسطيني في مدينة الشيخ زويد ، ثم ألقت هذه بتبعية ما يمكن أن يحدث لمصر على حماس ، لأن الدبّابات اليهودية تستطيع أن تصل إلى شاطئ قناة السويس ، بعد ثلاث ساعات !
في مقابل هذا النواح والتحريض ، كان بعض كتّاب العدو ينصف الشعب الفلسطيني المظلوم ، ويُلقى باللوم على قادة جيش الدفاع والسلطة النازية اليهودية ، ولعل فيما قاله " ناحوم برنباع " المحلل الرئيسي في " يديعوت أحرونوت " ( 28 / 1 / 2008م ) ، خير مثال على ذلك . فقد أشار إلى أن حماس كسبت من الحصار بتعزيز مكانتها وتأييد العالم العربي لها ، كما ذكر أن ضباطاً قاتلوا في غزة في السنوات الأخيرة ، ويعارضون بكل كيانهم طريق منظمات الإرهاب ( يقصد المقاومة الفلسطينية ) ، ويصلّون للاستقرار والحياة العادية ، لم يستمع أولمرت وباراك لنصائحهم بعدم حصار غزة . ثم قال ناحوم برنباغ : " بدل تجويع هؤلاء الناس ، اسمحوا لهم بالعيش ، بالعمل ، بالنمو ، بالتسويق ، بالتصدير . ليس الجوع هو الذي سيهزم حماس كما يقولون ، بل العيش بكرامة " .
برنباغ لا يقول هذا لوجه الله ، وبسبب إنسانيته المفرطة ، ولكنه يقوله من أجل هزيمة حماس ، واستقرار الغزاة وتثبيت الاحتلال الآمن !
ولكن أين هذا ، من كتابنا الأشاوس والنشامى ، الذين يؤلبون الرأي العام ضد حماس ، وأن صواريخها ستطال المدن المصرية ؟
لقد نسى هؤلاء أن حماس ، لم تحارب أبداً خارج فلسطين ، ولم تؤذ أحداً خارج فلسطين ، ولم تخطف طائرات ، ولم تقم باغتيالات خارج حدود فلسطين ، ولم تعمل لحساب أحد من الأنظمة العربية المغوارة ، ولم تتورط قيادتها الخارجية في سياسة أي بلد عربي .. لقد حافظت على استقلالها ومنهجها ، مما دفع الشعب الفلسطيني إلى منحها الشرعية في انتخابات عام 2006م ، حيث فازت بالأغلبية الكبيرة وصارت لسان الشعب المظلوم ، والمعبّر عن رأيه ، ولكن الشيطان الأكبر والشيطان الأصغر والحلفاء الصغار في العالم العربي ، فضلا عن قبيلة أبي مازن ، رأوا أنه لابد من القضاء على " حماس " وتفريق دمها بين القبائل ، لأنها ستقف حجر عثرة في طريق الاستسلام ، والتفريط في القدس ، وحق العودة للاجئين .. ومع أن " حماس " جاءت عن طريق الاختيار الشعبي الحر النزيه الذي لم تزوّر فيه الانتخابات ، أو يمارس فيه الموتى حق التصويت ، فقد رفض " الديمقراطيون " في واشنطون وتل أبيب ، وتبعهم غير الديمقراطيين في العواصم العربية ، أن يكون لحماس وجود دولي أوإداري ، وأخذ القوم في تحريك الدمى التي تأتمر بأوامرهم وتخضع لتوجيهاتهم ، وراحت دولة " دحلانستان " تمارس التحرش ، ثم العنف ، ثم القتل ، ثم تحريك آية الله " محمود رضا عباس ميرزا " رئيس سلطة الحكم الذاتي المحدود ، ليقيل حكومة " حماس " ، ويبدأ عملية الحصار ، بمنع المرتبات عن الموظفين في غزة ، والتابعين لحماس في الضفة ، ثم يقبل بما فرضه العدو من عدم تحويل مستحقات الفلسطينيين ، ورفض التعامل مع البنوك المحلية والدولية ، وتشكيل حكومة انقلابية في رام الله موالية للعدوّ ، ثم يبارك الحصار النازي اليهودي لغزة ، على النحو الذي انتهى بالإظلام والجوع في ظل القتل والذبح اليومي لأفراد حماس والشعب الفلسطيني ؛ قصفا بالطائرات أو الدبابات أو المدافع ، أو عن طريق العملاء.
ثم نقض الاتفاقات التي وقعت في القاهرة ومكة المكرمة بين فتح وحماس ، إمعانا في الولاء للعدو النازي اليهودي ، وإصرارا على تدمير المقاومة قربانا للصهاينة القتلة .
" حماس " ليست شيطاناً ، وليست ملاكاً ، ولكنهم بشر ، صدقوا مع أنفسهم ، وضحوا بأرواحهم في سبيل وطنهم السليب ، وكان قادتهم : أحمد ياسين ، الرنتيسى ، الشقاقي ،وولدا محمود الزهار ، وغيرهم في مقدمة الشهداء الذين لقوا ربهم بعد أن ذبحهم الغزاة النازيون اليهود بالقصف الجوي والقنابل والرصاص ، ووصل الأمر بمحمود الزهار ، ألا يجد لولده الشهيد الأخير حفنة أسمنت ، يغلق بها قبره !
حماس رأت أن طريق الشهادة ، هو الطريق الأوحد لتحرير فلسطين ، وأن المفاوضات عبث لا طائل من ورائه ، وأقرب الأمثلة ما حدث عقب عودة المفاوضين الأشاوس من " أنا بوليس " ، فقد راح العدوّ يصبّ الهلاك على رجال " فتح " و " حماس " معاً ، في الضفة ، ويجتاح نابلس ورام الله ، ويواصل الاستيطان في القدس العتيقة وغيرها ، ولم يعطف الغزاة على السلطة المحدودة ، ورئيسها المدلّه بحبهم ، ولو بإزالة حاجز واحد من عشرات الحواجز التي تفصل كل قرية عن أختها ، وكل مدينة عن نظيرتها .
بينما استطاعت حماس على مدى خمسة عشر عاماً أو يزيد قليلاً ، أن تصلى العدوّ ناراً بعملياتها الاستشهادية ، وقتالها المستمر ، وأن ترغمه على الجلاء عن غزّة ، وإخلاء المستوطنات وتدميرها ، وينسحب خلف خط الحدود ، ولو أن العرب – سامحهم الله – عاونوا " حماس " بعدها ، لكانت الحال غير الحال ؛ ولكنهم للأسف شاركوا في إيذاء حماس ، والموافقة الضمنية على حصار شعب غزة وتجويعه !
وحين فعل التجويع فعله في الشعب المظلوم ، لم يجد أمامه غير الشقيق الأكبر لينجده ، ويغنيه من جوع ، وكان الخروج العفوي الذي أطاح بالخرافة النازية اليهودية ، وقدرتها الخارقة ، وأثبت أصالة الشعب المصري التي أكدها رئيس الدولة بأنه لن يسمح بتجويع الشعب الفلسطيني ، ومع ذلك فإن الأبواق المأجورة أهالت التراب على هذه الأصالة وعلى تأكيدها معاً! وأساءت إلى الرئيس والشعب المصري وحماس والشعب الفلسطيني جميعا .
إن حماس بشر يصيبون ويخطئون ، ومعالجة أخطائهم أمر هين وبسيط ، ولكن تحويلهم إلى العدو الأكبر ، والشيطان الأعظم ، وتجاهل العدو الحقيقي وأتباعه ، هو الجرم الكبير بكل المقاييس !
يبقى بعدئذ أن نشير إلى أن فتح الحدود بين غزة ومصر ، أثبت حقيقتين :
الأولى : هشاشة اتفاقية الصلح مع العدوّ النازي اليهودي ، وأن الحدود المصرية يصعب تأمينها في ظل هذه الاتفاقية بوضعها الحالي ؛ وأن سيناء معرضة للاجتياح النازي اليهودي – وليس صواريخ حماس – في أية لحظة يُقرّرها العدوّ مما يعنى أن الأمن القومي فى خطر !
الأخرى : أن سيناء لما تزل بعيدة عن دائرة الاهتمام الحكومي المصري ، وبعد مرور ما يقرب من ثلاثين عاماً على الانسحاب النازي اليهودي ، فما زال سكان سيناء أقل من مليون شخص ، مع أن الوادي يكتظ بما يقرب من ثمانين مليوناً من البشر ، يمكن – لو كانت هناك بعض الحوافز ، مع شيء من التخطيط العلمي - تعميرها بعشرة ملايين مواطن يعملون وينتجون ويُعمّرون ، وقد كتب كثير من الناس أفكاراً تصلح للتنفيذ ، من أجل تأمين سيناء بالسكان ، ولكن بلادنا حريصة على دعم وزارة الدعاية والكرة والثقافة السطحية والنشاطات الهامشية والأمن المركزي !
ترى كيف سنحمى معبر رفح من احتلال اليهود والصليبيين الغزاة ؟ وإذا كان الغزاة النازيون اليهود يحاصرون غزة ، والشعب الفلسطيني كله ، فمتى نحاصر الكيان الصهيوني القاتل ؟ لعلنا نجد فرصة – إن شاء الله – في الأسبوع القادم !