الحزب المستحيل وفقه الاصطياد 9
الحزب المستحيل وفقه الاصطياد 9
أ.د. حلمي محمد القاعود
[email protected]
يظل الجانب الاقتصادي محور الواقع فى مصر بامتداداته المتنوعة . والنجاح فى هذا
الجانب يُؤهل الدولة لمكانة مرموقة فى شتى المجالات ، وقد أشار برنامج حزب الإخوان
المسلمين المقترح والمستحيل إلى كثير من النقاط المهمة والفاعلة فى إنشاء اقتصاد
منتج وحيوى ؛ يظلل المجتمع بفئاته المختلفة وطبقاته جميعاً .. وهذه النقاط بصفة
عامة تمثل انطلاقاً علمياً ، قائماً على ركائز موضوعية تعتمد التدرّج نحو إقامة
اقتصاد إسلامي خالص ، ولا يضير هذا الاقتصاد ، ما وصفه به كاتب شيوعي من أنه "
اقتصادٌ ملتح " ، فهذا لا يعيبه على الإطلاق ، ولا ينقص من قيمته العلمية
والموضوعية ، ومع ذلك فقد كنت أتمنى من البرنامج فى المجال الاقتصادي أن يركز على
بعض النقاط الأخرى المهمة منها :
1 – الاكتفاء الذاتي فى إنتاج الطعام ، وذلك بتوفير القمح والذرة ، وتربية
الحيوانات والطيور ، وهو أمر ممكن ، لو خلصت النوايا ، وتم التخطيط الجيد من خلال
الاستفادة بالأبحاث الكثيرة التى ترقد فى مخازن كليات الزراعة ومعاهدها ، ومراكز
البحوث الزراعية ، فضلاً عن الاستفادة بالمساحات الصحراوية الشاسعة فى زراعة القمح
، ويمكن للدولة أن تتدخل باستخدام الطائرات فى البذر والرى والرش بالمناطق التى
تكون مرشحة للإنتاج الأفضل ، وفى ظل الاستفادة بالأمطار ، مع تشجيع الزراع وشراء
القمح بأسعار مجزية .
وفى الوقت نفسه يمكن استئجار بعض الجزر البحرية على شواطئ إثيوبيا وإريتريا
والصومال وإطلاق صغار الماشية فيها حتى تكبر وتنضج وتتكاثر ، حيث تتغذى على المراعى
الطبيعية ، ولا تكلف الدولة شيئاً إلا ثمن الحيوانات الصغيرة ، ويمكن أن تُنقل منها
بعدئذ الماشية الصالحة للذبح .
دولة الكيان النازي اليهودي تفعل ذلك ، وتؤجر العديد من الجزر فى المناطق المشار
إليها ، ولذلك تكتفي باللحوم الطبيعية الآمنة صحياً واقتصادياً .
ثم إن التفاهم مع السودان حول استخدام المساحات الكبيرة فى منطقة الجزيرة ، ومناطق
الغابات شبه الاستوائية ، لزراعة القمح والذرة ، وتربية الماشية ، قد يكون أكثر
فاعلية فى حسم قضية الاكتفاء الذاتي فى إنتاج الطعام ، ويخلصنا من قبضة الاستيراد
الوحشية ، التى تتخذها الدول الكبرى سلاحاً سياسياً فى فرض شروطها المتعسفة التى
تنال من الكرامة الوطنية ، والاستقلال القومى .
2- كان حديث البرنامج عن استقلال البنك المركزي فى وضع سياسة نقدية بعيدة عن الضغوط
، أمراً محموداً ، بيد أنى كنت آمل أن يصرّ البرنامج على هيمنة الدولة على جميع
البنوك القائمة وامتلاك أغلبيتها ، وليس بعضها كما ورد فى البرنامج .
لقد أدت عملية خصخصة البنوك إلى هيمنة أجنبية على معظم بنوك الدولة ، وصار معظم
الاقتصاد المصري فى قبضة من لا يرحم ، ومن يسعى إلى الكسب ، ولو بعصر دماء المصريين
إلى آخر قطرة فيها .
أتمنى أن يكون هدف البرنامج ، هو تحرير هذه البنوك من قبضة الأجانب واستعادتها إلى
أحضان الشعب المصري ، والإصرار على شراء أسهمها كلما أمكن ، عن طريق التوعية
القومية بخطورة السيطرة الأجنبية على النقد فى البلاد ..
ولعل الاهتمام بإنشاء البنوك الوطنية الأهلية المساهمة ( واستدعاء تجربة محمد طلعت
حرب مسألة ضرورية يجب الإلحاح عليها كما أشرنا من قبل ) يُؤصل لاقتصاد وطني حقيقي ،
لا يكتفي بالمضاربة فى البورصة ، أو وضع الأموال فى البنوك الأجنبية ، بل يأخذ زمام
المبادرة فى إقامة المشروعات الزراعية والصناعية والتجارية ، وتمويل المشروعات
الصغيرة ، وكلها تصب فى خانة الاكتفاء الذاتي ، وتصدير الفائض ، ومواجهة الشركات
الاحتكارية ، وخاصة تلك التى يمتلكها الأجانب نتيجة الخصخصة .
وقد أشار البرنامج إلى تقوية الجنيه المصري وربطه بسلة عملات ، وهذا أمر جيد
ومطلوب ، ولكن الحكومة الحالية تصرّ على الارتباط بالدولار ، والارتهان للاقتصاد
الأميركي ، مما يقتضي ضرورة الكف عن الاستدانة بفوائدها الربوية المركبة الباهظة ،
والارتباط بالعملات الآسيوية والأوروبية بالدرجة الأولى ، مع الاسترشاد بتجربة "
العدالة والتنمية " التركي ، الذي كان جسوراً فى حذف ستة أرقام ( أصفار ) من قيمة
الليرة التركية ، وأعاد إليها الاعتبار .
3- تكلم البرنامج عن التعاون العربي الذي يبدأ بالسوق العربية المشتركة إلى الوحدة
الاقتصادية العربية . وهذا لا بأس به ، ولكن الواقع الراهن ، يؤكد أن كثيراً من
الدول العربية خاضع للإرادة الأجنبية اقتصادياً ، فضلاً عن الخضوع السياسي الذي
يلمسه الناس جميعاً ببساطة شديدة .
وهنا تجب الإشارة إلى نقطتين ، الأولى هي إعطاء الأولوية للتعاون الثنائي وبين
المناطق المتجاورة بالدرجة الأولى ، وفى الحدود المتاحة ، على أن يكون التعاون
الاقتصادي قائماً على أسس عملية ، وليست إنشائية ، تتبخر وتتلاشى ، بعد توقيع
الاتفاقيات . وأعتقد أن البداية الفعالة سوف تشجع على قيام السوق المشتركة التي
تكلم عنها العرب قبل الأوروبيين ، ولكن العرب لم يصنعوا شيئاً ذا قيمة من أجلها ..
أما الآخرون ، فقد اقتربوا من الوحدة الاقتصادية .
النقطة الأخرى ، هي أهمية التعاون الاقتصادي مع الدول الإسلامية المتطورة نسبياً ،
مثل ماليزيا ، وإيران وباكستان وتركيا .. وأعتقد أن المنطقة الصناعية المشتركة التي
وضع حجر أساسها الرئيس التركي عبدا لله جول فى زيارته لمصر مؤخراً ( يناير 2008م )
، تُمثّل خطوة مهمة فى اتجاه تقوية الاقتصاد المصري وتشغيل جزء من العمالة وإكسابها
خبرة ومهارة متنوعة ، فضلاً عن تعمير منطقة جديدة ..
ويبقى " الاقتصاد الملتحي " – كناية عن الاقتصاد الإسلامي كما سخر كاتب شيوعي –
ضرورة إنسانية وقومية ، لتحرير الاقتصاد المصري من التبعية وبناء اقتصاد منتج يحقق
الاكتفاء الذاتي ،ويخرج الدولة من قبضة " شايلوك " الصليبي الاستعماري المتوحش !
ونواصل بإذن الله.