قيمة المصري وقيمة الإنجليزي

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

في مصر لا قيمة للإنسان من حيث هو إنسان ، قيمته تكمن في انتسابه إلى السلطة أو القوة أو المال.. لا أحد يستطيع أن يحافظ على آدميته التي كرمه الله بها إلا من خلال هذه القوى الثلاث ، فلا قيمة للعلم ولا لأخلاق ولا للعمل ، كلها عملة صدئة لا تصلح للاستهلاك أو التبادل في مجتمع يعتمد على الصورة الغشيمة التي ترهب ولا تقنع ، تخيف ولا تستأنس ـ تقود إلى الهلاك أو الدمار ، ولا تمنح شعور المودة والتراحم ..

الأمثلة أكثر من أن تحصى ، ويمكن تعديد كثير منها ، منذ كتابة هذه الكلمات حتى آخر لحظة في العمر دون أن تنتهي الأمثلة أوالنماذج التي تقدم المصري ضعيفا مهانا ذليلا في الداخل والخارج ، لا ينصفه أحد ، ولا ينصره أحد ولا ينصفه قريب من أهل بلده أوحيه أو جيرته .. وكم ترتفع الصرخات عقب كل مهانة يقع فيها مصري في الداخل أو الخارج ، وتكون النتيجة مجرد كلمات – إن وجدت – لا تسمن ولا تغني من جوع .

الذين انتفضوا على ما قاله نائب قزقزة اللب وسب الدين في مجلس الشعب من ضرورة التعامل مع المتظاهرين بضرب الرصاص ، ركزوا على ما قاله النائب ، وعدم جواز ما قاله ، ولكنهم لم يتنبهوا جيدا إلى أنها فلسفة مجتمع – ولا أقول فلسفة نظام – فالمجتمع تربى منذ آلاف السنين على الخضوع للقوة أيا كانت ، بل وعبادتها والركوع أمامها في بعض المراحل ، ولم تكن المقولة المزيفة :" ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعمار " إلا أثرا من آثار هذه الفلسفة التي جعلت المصري في كل مكان أرخص قيمة من أي مخلوق على ظهر الأرض !

الناس في شتى أنحاء العالم يعلمون أن المصري لا قيمة له ، لأنه بلا ظهر ، ولا حماية ، ومن يطلب منهم المساعدة والعون لا يقدمون له شيئا يذكر؛ لأنهم لا يملكون إلا بلاغة الكذب والتمويه والزحلقة ! بمنطق البعد عن وجع الدماغ.

ولك أن تتخيل ما فعله اللبنانيون في الشاب المصري المسمى " محمد مسالم " من قتل ثم سحل ثم صلب وتعليق في أحد الأعمدة ، بعد اختطافه من أيدي حراسه ، أو بعد تواطؤ الحراس في تسليمه للقتلة الذين مثلوا به وصلبوه وعلقوه ؛ مع أنهم عرب ومسلمون ويعلمون أن التمثيل بالمسلم أو غير المسلم أيا كانت جريمته حرام ، وهو ما دعا الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول لوحشي الحبشي الذي قتل عمه الحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه ، ومثل بجثته مع هند زوج أبي سفيان ، غيّبْ وجهك عني ! وكان وحشي قد حصل على الأمان بعد إسلامه وندمه على ما  اقترفت يداه ! غيّبْ وجهك عنى .. وكانت هند تُعيّر بأنها آكلة الأكباد ، وظلت هذه المعايرة تلاحقها حتى بعد موتها ، وكانت قد أسلمت وحسن إسلامها !

لا يوجد غير المصري يمثل بجثته في لبنان ، لأن القوم هناك لا يستطيعون التمثيل بيهودي ولا أميركي ولا واحد من جيبوتي أو الصومال ، فهم يعلمون في مخزونهم الثقافي أن المصري لا أحد يسأل عنه أوفيه ، ما لم يكن ذا حيثية !

لو كان للمصري قيمة ما تجاهله المسئولون في قضاياه الرئيسية والهامشية ، وما عدوه ميتا أو شبه ميت لا يؤبه له أو به .بل ما كان هؤلاء المسئولون موجودون في مراكز مسئوليتهم أصلا ، لأنه كان سيختار من يستحقهم ويستحقونه " كما تكونوا يولّ عليكم " ، وما كان المصريون في مثل هذه المهانة وهذا الهوان الذي يعلمه الغائب قبل الحاضر ،والعدو والصديق .

ألم ير أحد من المسئولين منظر المعتصمين النائمين على أرصفة مجلس الشعب ومجلس الوزراء وشوارع القاهرة ،ومناظرهم تقدمهم كأنهم جثث تحتاج إلى الدفن من أجل رفع المرتب من مائة جنيه إلى ثلاثمائة جنيه ؟ ألم تصطدم قدم مسئول بجثة من هذه الجثث التي مضي على بعضها أكثر من ثمانين يوما بحثا عن الرغيف والمعاش ؟ هل أغلقت آذان أهل السلطان بالطين والعجين فلم تعد تسمع عن الجثث الملقاة على رصيف مجلس الشعب لفضها وصرفها ولو بكلمة طيبة ؟

من المؤكد أن كرامة المصري لا وجود لها في المجتمع ، قبل الإدارة . فالناس ينتقمون اليوم من بعضهم بعضا ، وصار كلامهم مدببا وخشنا وجارحا ، وصار صاحب الصوت العالي ، والمنافق والأفاق ، هو الأقدر على إثبات وجوده وحماية نفسه . أما الشكاءون البكاءون الذين يثرثرون عن القانون والحياء والذوق والأخلاق؛  فمكانهم المتاحف التاريخية ، مع قدماء المصريين !

نقلت وكالات الأنباء والإذاعات ومحطات التلفزة خبر ذهاب جوردون براون رئيس وزراء بريطانيا إلى عاملة بريطانية بسيطة واعتذاره لها .  كانت العاملة تناقشه في موضوع الهجرة إلى بريطانيا ، فاتهمها بالتعصب ، وقامت القيامة في بريطانيا بسبب هذا الاتهام الذي لم يكن مباشرا في وجه العاملة ، ولكنه كان في الخفاء بعد أن انتهت المناقشة معها ،وانصرف براون إلى حال سبيله ، ولم يكن يدري أن الميكرفون المعلق في سترته وينقل حديثه مباشرة عبر أجهزة الإعلام ( التلفزة والإذاعة ) ؛ كان مفتوحا على الهواء فسمعته بريطانيا كلها !

بعد انكشاف الأمر ، لم يتردد براون في الاعتذار للسيدة جيليان دوفي على الملأ . لقد ذهب إلى منزلها وطلب أن تسامحه وتعفو عنه متعللا بضغط أيام الانتخابات ، وإرهاقه . وقضي في منزل العاملة أربعين دقيقة ، ورفضت أن تخرج معه لمواجهة الجمهور والإعلام ، ولكنه بعد أن قبلت اعتذاره ، خرج هو ليقول للناس لقد سامحتني السيدة جيليان !

هل يمكن أن نسمع هذا من مسئول صغير أو كبير في مصر العريقة التي سبقت بحضارتها بريطانيا وأوربة بآلاف السنين ؟

هل يمكن أن يعتذر مزورو الانتخابات إلى الشعب المصري عن جرائمهم البشعة التي صنعت مجالس نيابة تخجل منها الأمم ؟

هل يمكن أن يعتذر جلاد من الجلادين الذين عذبوا السجناء السياسيين في سنوات مضت ، ويعلن توبته إلى الله وندمه على ما فعله ضد الأبرياء ، وما قام به من إهدار كرامتهم وهم أسرى لديه في نذالة وجبن ووحشية ؟

من المؤسف أن بعضهم لا يجد غضاضة أن يظهر على شاشات التلفزة ، ويتكلم بكل بجاحة وصفاقة عن ماضيه الأسود ، وكأنه يفخر بما ارتكبت يداه من أذي وإثم دون أن يتمعر وجهه أو تظهر نقطة دم واحدة على ملامحه ؟

أحدهم يتبجح على الشاشة ، ويؤيد قتل مواطن في شرفة مسكنه في أثناء المظاهرات التي قام بها عمال المحلة الكبرى قبل سنوات ، وحين قيل له : لو كان القتيل ابنك هل كنت تؤيد ذلك ؟ قال : نعم !

مثل هذه النوعية لا تزدهر ولا تنمو إلا في بلد ضاعت فيه كرامة أبنائه ، وأهدرت قيمتهم ، وقبل المجتمع ما يجري بالصمت ، أو التواطؤ بالصمت .

من المثير للأسى والأسف أن القلة القليلة التي تنافح عن كرامة المصريين لا تجد من يؤيدها أو يقف إلى جانبها ، وتحول الناس إلى المنطق اليهودي أيام نبي الله موسى عليه السلام حين قال له قومه : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون " ( المائدة : ) .

تصوروا لو أن ما حدث للسيدة البريطانية جيليان دوفي ، وهو بمقاييسنا المصرية تافه وبسيط ، فرؤساء الصحف الحكومية والحزبية بل والمستقلة يشتمون الناس أحيانا ، ولا يوقرون عالما أو جاهلا أو كبيرا أو صغيرا ؛ حدث مع رئيس حي أو قرية ، بلاش رئيس وزراء ما ذا كان من الممكن أن يحدث؟  

أتصور أن العمال والموظفين كانوا سيضربون السيدة ، ويزيلوا منزلها إن أمكن ، ولكن رئيس الوزراء البريطاني يعبر عن ثقافة اجتماعية أخرى ، تعلم أن المواطن هو صاحب الفضل عليه ، وليس رئيس الوزراء أو شيخ الخفر!

 لقد نشرت الصحف يوم الأربعاء 5/5/  2010م ؛ كلاما لرئيس وزرائنا فيه منٌّ وأذى ؛ وضعته الصحيفة الأولى في بلادنا على صدرها ؛ عن الحرية غير المسبوقة والحراك السياسي والنمو الاقتصادي الكبير !  وكانت الصحيفة سعيدة بهذا المن وذلك الأذى !

إن الوضع الحرج الذي وجد براون نفسه فيه عبر عنه بعد خروجه من لقاء السيدة دوفي بقوله : " كانت كارثة  ، كان يجب ألا تكون السيدة في طريقي . من كان الشخص الذي جاء بهذه الفكرة ؟ "

وكانت السيدة دوفي التي تحولت إلى محور لاهتمام مفاجئ من وسائل الإعلام قد قالت: " أنا منزعجة ، فهو شخص متعلم ، لماذا يتفوه بكلمات مثل هذه ؟ "وأعلنت أنها ستمتنع عن الإدلاء بصوتها لحزب العمال بعد الوصف النابي الذي وصفها به براون .. وعلق نائب براون على ما قاله رئيسه لمحطة سكاي نيوز:" اكتشفنا ما يعتقده رئيس الوزراء فعلا " ثم تابع : " أعتقد أن الأمر غنى عن التعليق ، وسيتحتم على رئيس الوزراء تقديم كثير من التوضيحات " .

لقد كان براون محرجا ومرتبكا حين ظهر على شاشة التلفزيون والمذيع يذيع ما تفوه به ، ولم يتمالك إلا أن أخفي وجهه بيديه .. هل يحدث مثل هذا في بلادنا ؟

هل عرفتم الفارق بين قيمة المصري الذي يموت أكثر من ألف شخص من أفراده  في عبّارة أحد المسئولين في حزب السلطة فيستمر الابتهاج بكأس الأمم الإفريقية ؛ ولا يتوقف دقيقة واحدة حدادا على أرواح الضحايا البائسين ؟

وهل عرفتم كيف تقيم امرأة بريطانية بسيطة الدنيا ولا تقعدها من أجل كلمة عابرة  ، ويخجل رئيس الوزراء من نفسه ويداري وجهه بيديه ؟

هذا هو الفارق بين التوحش والتحضر ،وبين الانحطاط  والكرامة !