الوجه الآخر.. للهجرة
معمر حبار
لك أن تختلف، أو تتّفق مع سيّدنا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه وأرضاه في إختيار، هجرة سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، تاريخا لبداية التاريخ الإسلامي.
وللمجتمع الحرية في إختيار اليوم الذي يراه مناسبا لبداية التأريخ، ويناسب تاريخه وثقافته ولغته ودينه، وعلاقاته بالأمم التي يتعامل معها.
لكن المؤكد، أن عمر بن الخطاب، كان عظيما، ليس لأنه إختار الهجرة النبوية بذاتها..
فقد كان يمكن لسيّدنا أبي بكر الصديق، أن يختار مثلا غزوة بدر الكبرى. وكان يمكن لسيّدنا عثمان بن عفان، أن يختار صلح الحديبية مثلا. وكان يمكن لسيّدنا علي بن أبي طالب، أن يختار فتح مكة مثلا ..
وكلّها تواريخ، وغيرها يمكن الاستعانة بها، والاعتماد عليها في بداية التاريخ الإسلامي..
إذن، تكمن عظمة سيّدنا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه وأرضاه .. حين إختار هجرة سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، تاريخا للمسلمين .. أنه كان يومها أميرا للمؤمنين .. وكان بمقدوره، أن يجعل من ..
يوم ولادته .. ويوم زواجه .. ويوم إسلامه .. ويوم هجرته .. ويوم توليه العرش .. ويوم تسمية ولي العهد الأول.. ويوم تسمية ولي العهد الثاني.. ويوم فتحه للأقطار التي لاتغيب عنها الشمس ..
أعيادا يؤرخ بها المسلمون إلى يوم الدين ..
لكنه أبى .. وهو الأمير .. والآمر الناهي.. المطاع في قومه .. المالك للحديد والمحراب ..
إذن الأمة حين تحتفل بالهجرة النبوية الشريفة، وتحتفل بالتاريخ الهجري، إنما تحتفل بعدم تقديس الأشخاص، وعدم عبادتهم..
فعمر بن الخطاب لم يحتفل بشخصه، ولو طرح الأمر على أصحابه وزملاءه في الخلافة، لاختاروا يوما من أيام سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولن يختاروا لأمتهم ، تواريخ لشخصهم ولعائلاتهم وأبناءهم وأصهارهم.
إن الاحتفال بالهجرة النبوية .. هو إحتفال بهجرة كل مايمجّد الشخص على حساب الأمة ، واحتفال بهجران تقديس الأشخاص على منجزات الأمة ..
التنكر للذات من خلال الهجرة .. يمتاز عمر بن الخطاب، بالغلظة والشدّة، حين يتطلّب المقام ذلك .. ومن مظاهر شدّته، أنّه كان شديدا على نفسه، وقاسيا عليها.. حين لم يختر للتاريخ الإسلامي .. يوما من أيامه ، ولم يفرض عليها التأريخ بأعياده وأفراحه وفتوحاته، وفضّل التأريخ بهجرة صاحبه وسيّده صلى الله عليه وسلم، معلنا بذلك تنكره لذاته، وبغضه لكل ماهو أناني، وإبتعاده عن تمجيد الذات، وذكرا لفاضائل صاحبه صلى الله عليه وسلم عليه .. فتنكّر للذات، واعترف بالغير .. وهذه ميزات القائد، الذي يعرف فضل مجتمعه عليه، وقدر الكبار، ليعترف به المجتمع فيما بعد .. ويجعله من القادة.
التميّز ومعرفة الكبير عبر الهجرة .. حين يقارن القارئ بين سيرة الخليفتين الأول والثاني، يرى أن سيّدنا أبو بكر الصديق، رضي الله عنه وأرضاه، لم يجري تغييرات على المجتمع، وأبقى المنظومة على حالها، كما تركها سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
بينتما عمر بن الخطاب، أجرى تعديلات كثيرة على المجتمع حينئذ، باجتهاداته الجريئة المتعددة في ميادين عدّة، كتجميد حكم قطع اليد للسارق، أثناء عام الرمادة.
فاختار للمسلمين، تاريخا لم يعرفوه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن لهم به عهد، والتحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، ولم يضع لهم تاريخا يؤرخون به أيامهم، ولم يوصهم بذلك، ولم يأمرهم بذلك .. إلى أن جاء عمر بن الخطاب، فاختار تاريخ الهجرة.. تاريخا للعرب والمسلمين، وهم الذين كانوا إلى عهد قريب، لايعرفون غير التأريخ بالحوادث العظمى، كعام الفيل.
إن تاريخ الأمة أكبر بكثير من أن يحصر، في .. مولد السلطان .. وليلة زفافه .. ويوم توليه العرش .. وولادة ولي العهد له ..
إن العظيم .. هو الذي يتنكر لذاته، ويذوب في أمته .. فيختار لها عظيم أيامها .. تاريخا تهتدي به .. وتعرف به بين الأمم.. وتميّز به عن غيرها.
إن الاحتفال بالهجرة النبوية .. يعني الاحتفال بترك الأنانية، ونبذ التشبث بالذات، والاعتراف بقدر الكبير، وتقديمه في كل عالي وكبير ..
وسيّدنا عمر بن الخطاب، حين وضع التاريخ الهجري.. إنما كان يتنكر لذاته، ويعرف قدرومكانة الكبير، صلى الله عليه وسلم.