الديكتاتورية الحديثة و قوانين الاستثمار

الديكتاتورية الحديثة و قوانين الاستثمار

بلال داود

[email protected]

لما بدأت شمس الشمولية بالأفول مع انهيار الاتحاد السوفييتي و منظومة الدول الشيوعية ، تحسست الأنظمة الديكتاتورية المحلية على رقابها ، خوفا من التغيير على الطريقة الرومانية ، إلا أنها تنفست الصعداء عند الإعلان عن مولد النظام العالمي الجديد إثر حرب الخليج الثانية ، في مطلع التسعينيات من القرن الماضي ، حيث  انتبه الأذكياء منهم ( أو من يخطط لهم من وراء الكواليس )  إلى تغير القواعد العامة لفن البقاء جاثمين على صدور شعوبهم  ، و سارعوا بالتلون الحربائي للدخول في النظام العالمي الجديد ، القائم على فكرة فتح الحدود أمام المنتجات العالمية  والشركات العابرة للقارات ،  فبادروا إلى إصدار مراسيم جمهورية للاستثمار والانفتاح الاقتصادي  ، تمشيا مع الخطوات الأولى للعولمة ، و بقصد استدراج رؤس الأموال الخارجية  لتنشيط  القطاع الاقتصادي المأزوم في الدولة  الديكتاتورية  .

التسلسل الطبيعي للانفتاح والإصلاح يجب أن يبدأ بالإصلاح السياسي أولا ثم الإقتصادي ، لأن  مضمون النظام  السياسي هو الذي يحدد النهج الاقتصادي ،  فالدولة ذات النظام السياسي الحر القائم على حرية  التعددية الحزبية يسمح بحرية التملك ، بغض النظر إن كان النظام ملكيا أو جمهوريا ،  بينما الإيديولوجية الاشتراكية  ( وهي جمهورية دائما من حيث الظاهر ) هي التي تنتج قوانين التأميم والإصلاح الزراعي ، وتحدد السقف الأعلى للملكية الفردية ، مما يضمن توزيع الفقر بالتساوي على أفراد الشعب  ، فإذا رفع سقف الملكية الفردية بلا حدود ، فقدت الدولة الاشتراكية مبرر بقائها أو ادعائها بأنها اشتراكية ، كما أن  رأس المال جبان كما يقول الاقتصاديون ، لا يشعر بالطمأنينة في ظل الأنظمة الاشتراكية القمعية الديكتاتورية ، فلا يأمن قوانين التأميم والإصلاح الزراعي إلا المفلسون .

أما في بلادنا التي لا تنقضي عجائبها ، فقد قرر النظام الحاكم أن يعكس فلسفة التغيير  ،  ليبدأ بالإصلاح الاقتصادي ، مدعيا  أن تحسين أحوال الشعب الاقتصادية و المادية ، هو الذي سيجعلها تعيش مرحلة رخاء تسمح لها بالتحول التدريجي نحو الانفتاح السياسي والتعددية الحزبية بطريقة سلمية متدرجة ، بعيدا عن النموذج الروماني ، فقبل الناس هذه الفلسفة المعكوسة على أمل التغيير السلمي نحو الحرية والديموقراطية .

إلا أن الواقع لم يتوافق مع المنطق المعكوس ، فبدلا من التحول السياسي نحو الحرية والديموقراطية والتعددية الحزبية ، في ظل أنظمة الاستثمار الجديدة ، ازدادت الديكتاتورية تغولا ، بعد أن جمعت المجد الديكتاتوري من أطرافه ، العسكر والأجهزة البوليسية من جهة ، و من الجهة الثانية الثروة والقوة الاقتصادية ، ذلك أن أفراد النظام الديكتاتوري الحاكم  وأقراباءهم  و أنصارهم وحواشيهم  هم الذين  استفادوا من قوانين الاستثمار ، فلم تدخل شركة أجنبية إلى البلاد ، إلا ولها وكيل أو شريك من أفراد النظام ، و كذلك حال المصانع والفنادق والمطاعم والمشاريع  السياحية والمدن الترفيهية ، فما من رخصة تمنح إلا وتجد أن بين الشركاء أو الملاك أحد أفراد النظام ، بشكل علني أو بشكل مستتر .

وإذا ما تساءلنا عن السبب الذي يدفع الشركات و المستثمرين الأجانب ( والعرب ) لإشراك أفراد النظام  في أموالهم وممتلكاتهم ، فالجواب سهل وبسيط ، ذلك أن رأس المال ( الجبان ) يبحث عن عاملين مهمين : الأمان والتسهيلات الإدارية ، وهما لا يتوافران إلا في أشخاص النظام ، فقوانين الطوارئ لم ترفع و قوانين التأميم والإصلاح الزراعي لم تلغ ، بل حولت إلى سيوف مخفية وراء الظهر  في يد النظام  الديكتاتوري القمعي القائم من أساسه على المحسوبيات والفساد الإداري ، حيث لايسمح بتولي المناصب الحساسة والمهمة إلا للخلص من المقربين  ، و عندما تدخل رؤوس الأموال الخارجية  (الأجنبية أو العربية ) او الأموال العائدة إلى الوطن بعد غربة طويلة في المهجر  ، تجد  أمامها  من العقبات والمطبات ما لا يمكن تذليله إلا من خلال أفراد النظام نفسه ،  بالإضافة إلى الحماية من سيف التأميم المخفي وراء الظهر ، فتضطر لإشراك أحد أفراد النظام ، وتكون حصته المسجلة من رأس المال متناسبة طردا مع  قدرته على الحماية و تذليل العقبات والمصاعب للحصول على التراخيص اللازمة ، و من ثم التسهيلات الحكومية و الإعفاءات الضريبية ، وهذا ما يفسر لنا تسابق رؤوس الأموال إلى مشاركة بضعة أفراد هم رؤوس النظام الحاكم ، و كلما كان رأس المال الاستثماري أكبر ، بحث عن شريك ذي وزن أثقل.

شيئا فشيئا  تحولت الشركات و الوكالات والمستثمرون القادمون من الخارج أو المحليون  ، من عامل دفع إيجابي باتجاه التحول السياسي نحو الانفتاح والحرية والتعددية الحزبية والديموقراطية ، إلى عامل قوة للنظام الديكتاتوري القمعي ، بعد أن أصبحوا   شركاء  في الأموال  والمصالح ، وبهذا تكون الديكتاتورية الحديثة أقوى من السابق لأنها حافظت على حاميتها من العسكر و الأجهزة البوليسية القمعية من جهة  ، ومن جهة ثانية هي محمية بمصالح الشركات والمستثمرين سواء كانوا من داخل الوطن ، أو من خارجه ، وازداد أفراد النظام ثراء وقوة .