عن الديمقراطية في العراق المحتل
القس لوسيان جميل
تلكيف- محافظة نينوى- العراق
احبائي القراء!
لقد سبق لي ان كتبت، في بداية الاحتلال، مقالا مطولا عن الديمقراطية وعن العلمانية وعن القومية تم نشره بشكـل شخصي بين الاصدقـاء: مسيحيين ومسلمين. وفي الحقيقة كان الاصدقاء المسلمون قد قالوا لي في حينه بأني قدمت لهم ما سموه بخشبة النجاة، لأن ما كتبته لهم آنذاك، لم يكن مجرد سياسة، ولكنه كان حكما في ما اسميه اخلاقيات السياسة.
اما الآن فقد كثر عدد من يكتب عن الديمقراطية، لكن مع ذلك رأيت نفسي مدفوعا الى ان اكتب عن الديمقراطية مرة اخرى، ومن باب الأخلاقيات السياسية ايضا، لكي اظهر ان ما سمي عندنا بالديمقراطية بعد الاحتلال، ليس له معنى، لا بل هو محض اكاذيب وسفسطة ضد الحقيقة وضد جميع وصايا الله. اما كلامي عن الديمقراطية هذا فسيأتي من خلال سؤال واحد محدد يقول: ترى ما هي العلامات التي تخولكم ان تسموا احتلالكم ديمقراطية.
المعنى اللفظي للديمقراطية وتاريخه:
على الرغم من ان كلمة الديمقراطية كلمة غير عربية فان هذه الكلمة قد صارت معروفة لدى العراقيين، من خلال الجماعـات العراقية والعربية التي عملت دراساتها في الغرب وتعودت على استخدام المصطلحات الغربية بسهولة ودقة، احيانا كثيرة. وهكذا صار الكثيرون يعرفون ان الديمقراطية Democratia كلمة يونانية وصلت الينا بصيغتها اللاتينية، وهي اصلا متكونة من كلمتين يونانيتين وصلتا الينا بصيغتيهما اللاتينية ايضا وهما: Demo(s) ( الشعب ) و Cratia( الحكم ) لكـي يعني مصطلـح الديمقراطية ( ديمقراطيا ) حكم الشعب. اما كتابة ولفظ كلمة الديمقراطيـة فيعود الى لهجة كل شعب ولغته الخاصة والى طريقة الكتابة عنده.
تاريخ مصطلح الديمقراطية:
اما مصطلح الديمقراطية الذي يعني حكم الشعب، فقد جاءنا من الثورة الفرنسية ليكون نقيضا لمصطلح الثيوقراطية ( Theocratia) الذي يعني حكم الله، لان كلمة Theos تعني الله وكلمة Cratia تعني الحكم. علما بأن هذا النوع من الحكم كان يسمى في العهد الجديد والقديم بملكوت الله. اما ان تكون كلمة الديمقراطية والثيوقراطية موجودة قبل الثورة الفرنسية، عند اليونان القدماء وعند فلاسفة ومفكري العصر الروماني والعصر الوسيط فذلك قد يكون واردا، لكنني لن احاول ان اتطرق الى مثل هذه الأمور كونها تخرج عن حاجة مقالي الحالي كليا.
المعنى الرئيس للديمقراطية:
اما سبب تمجيد الفرنسيين للديمقراطية ( حكم الشعب ) فيأتي لكونه النقيض الديالكتيكي ( الجدلي ) لحكم الله الذي كان قد اصبح حكما لا يطيقه الشعب الفرنسي، فثار هذا الشعب ضد ذلك الحكم الديني الثيوقراطي الذي كان قائما قبل الثورة الفرنسية، واستبدله بحكم الشعب، بحسب تقديره للأمور. غير ان هذا المعنى الأولي الذي كان سائدا عن الديمقراطية عند انبثاقها في الثورة الفرنسية، لم يتوسع الا بعد ذلك بفترة طويلة نتيجة حاجات اخرى سياسية استجدت في عالم الغرب. وبما ان الديمقراطية احتفظت بمعناها الاساسي المناقض للثيوقراطية ولم تتوسع فيه، لذلك لا نتعجب اذا اجتمعت الديمقراطية، ابان الثورة الفرنسية وبعدها بفترة لا باس بها، مع الفوضى التي كانت قد سادت في فرنسا، والمجازر التي كانت قد حدثت والإعدامات التي كانت قد طالت انصار الملكية والإقطاعيين ورجال الكنيسة والثوار على حد سواء. اما وأننا نعرف بوجود ما يشبه البرلمان في تلك الأيام ما بعد الثورة الفرنسية، فذلك لا يعني وجود ما يسمى اليوم التعددية السياسية، لأن ما كان موجودا لم يكن غير صيغة للتداول السياسي ( برلمان )، في صيغته البدائية.
وهنا علينا ان نلاحظ بأن الديمقراطية تكونت تكونا جدليا ( ديالكتيكيا )، أي ان التغيير لم يأت من القمة وانما اتى من القاعدة ومن قناعاتها ومشاعرها، بغض النظر عن سلامة هذه المشاعر من عدمها. اما هذا الكلام عن الديمقراطية فيعني انها جاءت نتيجة حاجة شعبية للتخلص من حكم استبدادي ( الحكم الملكي ) الثيوقراطي الديني، الذي كان قد ادى واجباته التاريخية ( فترة تكوين الأمة الدينية المسيحية ) وصار غير قادر بعد على مواصلة الخدمة، كما كان قد تآكل من الداخل وبانت عليه علامات الفساد والعجز بوضوح.
وهكذا نستطيع ان نقول:
ان الثورة الفرنسية كانت ثورة القاعدة ( ثورة شعب ) ولم تأتي جهة غريبة وتسقط النظام الملكي الذي كان الشعب يعده نظاما فاسدا، كما حصل عند سقوط الأمة الدينية اليهودية عام 70 ميلادية على يد الرومان، وكما سقطت الأمة العربية الاسلامية في الحرب العالمية الاولى، مع العلم ان السقوط في الحالتين كان ايضا نتيجة الضعف الذي كان سائدا في حياة الأمة اليهودية الثيوقراطية والأمة الدينية الاسلامية العثمانية التي كانوا يسمونها الرجل المريض، في عهدها الأخير.
عن التعددية السياسية:
من هنا يمكننا ان نستنتج بأن التعددية ليست الصيغة الوحيدة للديمقراطية، ولا هي الصيغة الجوهرية لها، لا بل ان التعددية يمكن ان تكون منافية للديمقراطية في احيان كثيرة، على الرغم مما يمكن ان تحمله هذه الصيغة من فوائد، اذا مورست بشكل حر غير مفروض من أي عامل خارجي، وأية جهة ضاغطة. علما بأن صيغة التعددية لم تصبح تقليدا فـي بلدان الغرب خاصة، ومن بعدها في بلدان اخرى كثيرة، الا بعد ان اطمئنت هذه البلدان بأن هذه الصيغة لن تمس الطبقة الحاكمة كثيرا.
اما الدول الضعيفة والنامية والمحاطة بالأعداء من كل جانب، فلم تفكر بصيغة التعددية السياسية للوصول الى الديمقراطية، لأن هذه الدول كانت دائما في حالة صراع داخلي وخارجي: دولة كبرى تجرها من اليمين ودولة كبرى اخرى تجرها من اليسار، وكانت بالتالي تشعر ان حاجتها ليست التعددية السياسية القاتلة والمبددة للجهود والخاضعة لتأثيرات كثيرة مهلكة، وانما هي زعامة جامعة يمكن الركون اليها لتوحيد البلد. اما صيغة الحزب الواحد او الحزب القائد فكانت مرحلة بين الزعامة وبين التعددية السياسية، لها فوائدها ولها مضارها ايضا، وربما لها زمنها الحضاري الخاص ايضا.
فضلا عن ذلك كله يمكننا ان نجزم بعدم وجود صيغة مثالية للحكم الديمقراطي، وان لكل حالة ديمقراطيتها المناسبة لحاجاتها. وهكذا يمكن ان تصح في بعض البلدان احدى صيغ التعددية، ولا تصح في بلدان اخرى. لذلك نرى ان صيغة التعددية في فرنسا مثلا تختلف عن صيغة التعددية في بريطانيا او فـي المانيا او في اليونان، او في امريكا، الأمر الذي يجعلنا نجزم بوجود تماثل بين صيغ التعدديات المختلفـة، دون ان يكـون هناك تطابق كامل بينها في كل شيء.
ولكن، ومهما كان من الأمر، فإننا يمكننا ان نحكم على ديمقراطية كل نظام من الأنظمة المذكورة، وغيرها من انظمة العالم التي تتبنى التعددية السياسية كسبيل الـى الديمقراطيـة، من خلال نتائج ذلك النظام وتأثير هذه النتائج على الشعب بشكل مباشر وغير مباشر. كما يمكننا من خلال نتائج نظام سياسي معين ان نحكم على مدى الديمقراطية الذي وصل اليه ذلك النظام.
صيغ اخرى للديمقراطية:
اما الصيغ التي يحكم فيها الفرد الواحد، او نخبة من الأفراد، او حتى قبيلة او قومية معينة، او نخبة عسكرية، او الحزب الواحد، فإنها تخضع لمعيار واحد واضـح، هو تمثيلها للناس بعدالة وحق ومحبة، دون النظر الى قرب او بعد أي حكم مما ذكرنا من التعددية الغربية المعروفة، حيث يصح المثل الذي يقول بأن الشجرة تعرف من ثمارها، على ان نحكم على كل حالة بمفردها من دون تعميم، ومن دون اللجوء الى الأيديولوجيات والى الأحكام المسبقة.
معيار جديد للديمقراطية:
وهكذا نرى اننا لابد من ان ندخل معيارا جديدا للحكم على ديمقراطية أي نظام، طالما اننا لا نقبل بان تكون التعددية السياسية هي المعيار الاساسي للديمقراطية. اما هذا المعيار الجديد فلا يستند كثيرا الى الأسس المادية لكنه يستند بالأثر على الأسس الانسانية الأنثروبولوجية الواضحة المقبولة من كل البشر. غير انني لا ارغب بمناقشة مسألة الثورات وأيديولوجياتها الخاصة وعلاقتها بالديمقراطية، لأن مثل هذه المناقشة المتعددة الجوانب، تحتاج بحثا كاملا. وهكذا لا يكفي ان تكون الديمقراطية حالة وصيغة مادية فقط ولكنها يجب ان تكون صيغة تستجيب الى مطالب الانسان الانسانية المشروعة، ضمن امكانيات البلد الموضوعية، لكي لا يمس امن البلد بضرر ولا يتجاهل المواطنون والحكام خير البلد العام بحجة الاهتمام اولا بالإنسان.
معيار الديمقراطية الجديد والحرب على العراق:
فاذا ما قبلنا هذا المعيار الانساني الذي يمكن ان يتحقق بوسائل مختلفة، وبحسب ظرف كل شعب، فان معيار ديمقراطيـة العدد يصبح معيارا ثانويا جدا، اذا قيس بالمعيار الانساني المبني على المزايا والمكتسبات الحقيقية التي يقدمها أي حكم لشعبه، في حين يمكن ان تكون التعددية السياسة المبنية على صناديق الاقتراع مدمرة للبلد، ولاسيما اذا كان هذا البلد بضعف العراق.
ففي الواقع، لو افترضنا نزاهة القيمين على الانتخابات، وهو امر غير وارد في العراق الى حد هذا اليوم، تبقى عندنا مشكلة اخرى وهي سهولة تأثير اقوياء العالم وظلامه بالناخب العراقي بألف طريقة وطريقة، حتى ليشعر الناخب العراقي انه ينتخب بحريته، في حين انه يذهب الى الانتخابات وكأنه انسان آلي مبرمج، يخدم مقاصد المبرمج، سواء عرف ذلك ام لم يعرف. اما معيار الديمقراطية الانساني فهو معيار ثابت لا يمكن التلاعب به بسهولة، بحيث يصير من يتبع هذا المعيار قويا وشامخا لا يتزعزع، كما ان هذا المعيار الانساني يعطي لنا امكانية الحكم الصحيح على ديمقراطية عراق ما بعد الاحتلال الهزيلة.
مقتطفات من انجيل يوحنا:
وهنا يطيب لي ان اقدم للقارئ الكريم معيارا اضافيا للحكم الصحيح على ديمقراطية أي نظام سياسي، مقتنعين بأن ما نقدمه الآن للقارئ العزيز، لا يختلف كثيرا عن المعيار الانساني الذي ذكرناه في الفقرة السابقة الا بالصبغة الروحية التي نجدها فيه. اما هذا المعيار فنستلهمه من مقتطفات من الفصل العاشر من انجيل يوحنا، كما يمكن ان نستلهمه من كتب سماوية وغير سماوية اخرى ومن ادبيات عالمية روحية ودينية واجتماعية على حد سواء.
يقول يسوع في بداية الفصل العاشر من انجيل يوحنا:
الحق الحق اقول لكم: من لا يدخل حظيرة الخراف من الباب، بل يصعد عليها من مكان آخر فهو سارق ولص. اما من يدخل من الباب فهو راعي الخراف. له يفتح البواب، والى صوته تصغي الخراف. يدعو كل واحد من خرافه باسمه ويخرجه. وعندما يخرجها ( الخراف ) يمشي قدامها، والخراف تتبعه لأنها تعرف صوته. اما الغريب فتهرب منه ولا تتبعه لأنها لا تعرف صوت الغرباء...
ويردف يسوع قائلا وموضحا:
" الحق الحق اقول لكم: انا باب الخراف. جميع من جاءوا قبلي سارقون ولصوص، فما اصغت اليهم الخراف. انا هو الباب، فمن دخل مني يخلص: يدخل ويخرج ويجد مرعى. لا يجيء السارق الا ليسرق ويقتل ويهدم. اما انا فجئت لتكون لهم الحياة، بل ملء الحياة.
ويردف يسوع قائلا:
انا الراعي الصالح والراعي الصالح يضحي بحياته في سبيل الخراف. وما الأجير مثل الراعي، لأن الخراف لا تخصه، فاذا رأى الذئب هاجما، ترك الخراف وهرب، فيخطف الذئب الخراف ويبددها. وهو يهرب لأنه أجير لا تهمه الخراف.
ويواصل يسوع قائلا:
انا الراعي الصالح، اعرف خرافي وخرافي تعرفني، مثلما يعرفني الآب واعرف انا الآب ( معرفة الحقيقة الضرورية لأي راع )، وأضحي بحياتي في سبيل خرافي. ( يوحنا 10:11-16 ).
فاذا علمنا ان الخراف هنا كنية عن " الشعب " Demosورمز له، عرفنا تماما احد ابعاد الديمقراطية الحقيقية التي لا تقبل النقاش. لذلك يمكن ان يكون هذا النص الانجيلي وغيره من النصوص التي تماثله في الاديان الأخرى، مرآة حقيقية لفهم معنى الديمقراطية الحقيقية ومعرفة ما ليس سوى شبيه بالديمقراطية وصورة كاريكاتيرية لها. ففي هذا الكلام الانجيلي نجد الصفات الخاصة بكل راع ( قائد )، ونعرف لماذا تسمع الخراف صوت راعيها اللطيف الخالي من العنف، ولماذا تتجمع حوله، في حين ان الخراف تهرب من الأجير الذي لا يقدر اصلا ان يضحي من اجل خرافه ويقوم بمهمته على الوجه الأكمل، علما بان يسوع لا يتكلم في هذا النص الانجيلي عن الأجير فقط ولكنه يتكلم ايضا عن السارق الذي لا يدخل مـن الباب، بل يتسلل الى الحظيرة من مكان آخر. كما حدث عندنا في العراق تحت يافطة الديمقراطية المزيفة: اليس كذلك؟
وهنا وببساطة يمكننا ان نسأل سؤالنا الموعود المحدد ونقول:
ترى من مِن السياسيين حكاما ورعاة مفترضين يستطيع ان يقول عن نفسه ما قاله السيد المسيح عن ذاته؟ ومن منهم يملك ذرة مما اتصف به السيد المسيح والأنبياء الآخرون من صفات الراعي الانسانية الحميدة.
اما اذا استندنا الى المعيار الذي يقول بأن الشجرة تعرف من ثمارها فإننا نعرف عظمة الثمار التي انتجها الرعاة الحقيقيون: يسوع وسائر الأنبياء العظام الآخرين، ومن بينهم النبي محمد بالتأكيد، وكثيرون من الأنبياء الآخرين كبارا وصغارا، مقابل ثمار الأنبياء الكذبة الدجالين قتلة الشعوب ومصاصي دمائهم.
وهنا يحق لنا ان نسأل ونقول:
ترى ما السر في ان الأنبياء على الرغم من قلة عددهم، ملكوا العالم واستحوذوا على قلوب مليارات من قلوب الناس، بينما بقي المعتدون على العراق، على الرغم من جيوشهم الجبارة وأعوانهم الكثيرين وحيلهم وإعلامهم وعلمهم وإمكاناتهم المادية والتكنولوجية الكبيرة وميليشيات اعوانهم المدربة على الشر، اسرى الثكنات المسيجة التي سموها زورا بالمناطق الخضراء. ان السر، كما هو واضح، يكمن في ان الانبياء احبوا الناس فأحبهم الناس ايضا والتفوا من حولهم، على الرغم من اضطهاد الأعداء المعروف. اما المحتلون ومن جاء معهم فلم يحبوا غير مصلحتهم الخاصة فابتعد الناس عنهم وخسروا الشعوب التي توجهوا اليها وكانت خسارتهم عظيمة، بعد ان تسببوا في مقتل آلاف من هذه الشعوب وتهجير الملايين من دورهم وديارهم.
من هنا نقول لكل المنادين بالديمقراطية قبل الاحتلال وبعده، كحجة لضرب الحكم الوطني السابق للاحتلال:
نقول لهم جميعا اين انتم من ديمقراطية الانبياء ومحبتهم وتضحياتهم ونجاحاتهم ايضا؟.
وهل حقا تملكون ذرة من الحقيقة التي كانوا يملكونها ومن التضحية المجانية التي كانوا يتحلون بها ومن الشعور بحاجة الشعب كما كان يشعر بها الانبياء؟
ام انكم تشبهون بالأحرى اللصوص الذين يسرقون وينهبون، والذئاب التي تفترس؟
الديمقراطية والاحتلال:
وبما ان المحتل الأمريكي جاء على دباباته اللعينة زاعما انه سيشيع الديمقراطية في العراق فحن لا نملك غير ان نسأل سؤالا بسيطا نوجهه للمحتلين اولا، ومن ثم نوجهه للشعب العراقي، كما نوجهه لكـل من صدق المزاعم الأمريكيـة، سواء عن غباء او عن خبث يوازي خبث المحتلين انفسهم ونقول لهم جميعا: ترى من يحكم العراق الآن: الشعب العراقي ام جهات اخرى لا علاقة لها بهذا الشعب؟ اما الجواب فيأتي هو الآخر على شكل سؤال يقول: ترى هل توجد علامة واحدة تدل على ان الشعب العراقي هو الذي يحكم في العراق، ام ان علامات كثيرة تبين ان من يحكم العراق هو المحتل وليس غيره؟
فمنذ يوم 9 نيسان وحتى يومنا هذا حدثت امور كثيرة: تأسيس ما يسمى بمجلس الحكم وصياغة الدستور وطرحه للاستفتاء الشعبي، مرورا بانتخابات 2005 وانتخابات مجالس المحافظات الاولى والثانية ووصولا الى الانتخابات المهزلة التي شاهدناها قبل ايام، فمن يا ترى كان يحكم ويدير الأحداث جميعها: الشعب ام المحتل؟ ان الجواب الذي لا بديل له هو ان المحتل كان يدير كل عملية الاحتلال من الفها الى يائها، في حين لم يكن القابلون بالاحتلال وبالعملية السياسية غير منفذين لبرامج المحتل، بما في ذلك برامج قتل اكبر عدد ممكن من المتمسكين بعروبتهم وبوطنهم، تحت يافطة اجرامية لعينة هي يافطة مكافحة الارهاب، تكريسا للديمقراطية التي جاء بها المحتل وأعوانه.
اما ان يقال ان اعضاء مجلس الحكم كانوا يمثلون اطياف الشعب العراقي فتلك مزحة سمجة لا يأتي بها غير الكذابين، وذلك لسبب بسيط هو ان هذه الاطياف لم تكن اطيافا بل ميليشيات معادية للعراق، وهي لم تكن عراقية، لأن العراقي لا يفعل ما فعله هؤلاء بالعراق، كما ان مجيء هذه الاطياف المزعومة لم يكن بأية طريقة من الطرق الديمقراطية المعروفة في العالم. لذلك كانت هذه الأطياف تمثل من اتى بها الى حكم العراق وليس احدا سواه. كما ان هذه الاطياف لم تأتي اصلا لمصلحة العراق بل لسرقته بكل ما لهذه الكلمة من معاني وأبعاد.
اما للذين يدعون ان اعضاء مجلس الحكم كانوا يحكمون العراق بعد انتهاء الحرب العسكرية الفعلية فنقول: كيف كان العراقيون يحكمون العراق وجيشهم محلول ومطارد، وكذلك شرطتهم الوطنية وسائر اجهزتهم الأمنية الأخرى. ونقول لهم ايضا: وفق أي نظام كان العراق يحكم نفسه بنفسه ديمقراطيا، ونحـن نعلم ان هذه " الأطياف " لم تكن قادرة على الاتيان بقرار واحد من عندها؟ اما اذا افترضنا جدلا وجود قوة مادية عند هذه الأطياف، افلا يكون مطلوبا ان تتمتع هذه القوة: قوة الميليشيات وقوة الاصدقاء المحتلين ( هكذا )، بالشرعية المطلوبة، لكي يكون حكمها في العراق حكما ديمقراطيا، يستند الى ارادة الشعب؟ ام ان الشرعية كانت ملكا صرفا ( طابو ) للسيد بوش الابن يعطيها لمن يشاء في حين ان الأمم المتحدة، مع كل ضعفها المعروف امام الولايات المتحدة، لم تقدر ان تعطي الشرعية للاحتلال، ولا لأي عمل من اعماله غير الشرعية في العراق، حتى وان لم تقدر ان تعارض ما سمي بالعملية السياسية بسبب جبنها وخضوعها للإدارة الأمريكية. أم ان الأمر الواقع والقوة الغاشمة كافيين لإعطاء الشرعية للعدوان؟
شروط الديمقراطية الحقيقية:
في هذه الفقرة نبين الشروط الواجب توفرها في أي نظام وأي تصرف سياسي لكي يكون نظاما وتصرفا ديمقراطيا. اما اول شرط من شروط الديمقراطية فهو شرعية الحاكم وشرعية تصرفاته. اما الشرط الثاني لكي يكون أي حكم ديمقراطيا هو ان يكون مقبولا من الشعب ولا يكون مفروضا عليه بالقوة المسلحة ولا بأية قوة اخرى خارجية، مثل قوة المال وقوة المركز السياسي وقوة السلاح والتكنولوجيا. اما من جانب الشعب فيشترط في قبوله الديمقراطي ان يكون حرا بكل ما لهذه الكلمة من معنى، أي ان لا يكون قبول الشعب لحالة معينة ناتجا عن خوف او عن ضعف او عن تهديد او عن اية ضغوطات اخرى من الضغوطات التي لا تعد ولا تحصى.
اما الجهل بكافة انواعه فهو عدو آخر للحرية والديمقراطية. وقد يكون هذا الجهل جهلا لمعلومات مهمة للحكم الصحيح والاختيار الحسن، او يكون هناك نوع من عمى القلب يجعل الانسان غير مكترث بعناصر الحكم الصحيح فيقع ضحية المحتالين والذين يعرفون تسييره واللعب بمقدراته. لذلك يصير مثل هؤلاء الناس الجهلة عبارة عن قرقوزات ودمى تحركها اياد خفية تجعل حرية هؤلاء الناس معدومة. اما ديمقراطية السيد علاوي فليست اكثر من ديكتوقراطية اذا صح التعبير، من قبيل: اذا كنت تريد ارنبا فخذ ارنبا واذا كنت تريد غزالا فخذ ارنبا، واذا كنت لا تريد لا هذا ولا ذاك فما عليك سوى ان تضرب رأسك بالحائط، كما يقال، وان تنتظر الحكم الذي يستحقه امثالك المتمردون. والحقيقة ان السيد علاوي وكل المشتركين في العملية السياسية لن يعطوا " للشعب " من حقوق يستحقها ويطلبها الا " من الجمل اذنه "، كما يقال، اما الباقي فسيذهب للمحتلين وأعوانهم، اذا بقي الوضع معتمدا على كذبة الديمقراطية التعددية، كما هي عليه الآن.
وبعد عزيزي القارئ،
اذا كنت ممن يفتشون حقا عن الديمقراطية فانك لن تجدها، في وضعنا العراقي الراهن، الا عند الرافضين للاحتلال بالحق والحقيقة والمقاومين له، كل بما اوتي من قوة ومعرفة وتضحية، لأن الديمقراطية، حالها حال الحرية: تؤخذ ولا تعطى.