الحرب الاستباقية على العراق

 القس لوسيان جميل

 القس لوسيان جميل

تلكيف- محافظة نينوى- العراق

قرائي الأفاضل!

في هذا المقال المتواضع لا اريد ان اكتب اطروحة عن الحرب والحرب الاستباقية لأنني اتوقع وجود من هو افضل مني لمثل هذا العمل من الاختصاصيين. غير اني اجد بين هذين المصطلحين خلطا مشوشا تجب معالجته، لان هذا الخلط يأتي لصالح المضللين، حاله حال ما حدث لمصطلحات كثيرة مثل مصطلـح الديمقراطية والحرية والعلمانية والتعددية ومصطلح الانسحاب المسؤول من العراق ومصطلح الارهاب ومصطلح التمرد وغير ذلك من المصطلحات الكثيرة التي زخر بها قاموس المعتدين اقوياء هذا العالم العولميين، وعلى رأسهم جميعا المعتدون الأمريكان الذين دمروا بلدنا بدون وجه حق ولا زالوا يستبيحون عراقنا بتعسف وقلة اخلاق، سواء كانت هذه الاستباحة مباشرة ام عن طريق العملاء، وسواء تكلمنا عن هذه الاستباحة في عهد السيد بوش الارعن ام في عهد السيد اوباما الذي لم يستطع ان يكون افضل من سلفه كثيرا، مع كل الاسف، ليس فقط من اجل العراق ولكن من اجل امريكا نفسها ومن اجل مطالب العالم الأخلاقية.

الفرق بين الحرب والحرب الاستباقية:

ان اسباب الحروب عديدة ولا يمكننا احصاؤها، ولكن جميع الحروب، في نهاية الأمر تسمى حروبا، حيث تعني هذه الكلمة الخراب وتعني ايضا الأمر العظيم، او الخراب العظيم، كما تعني كلمة الحرب باللغة الفرنسية الأمر الثقيل. لذلك كان يجب على العالم، لو كان عالما متمدينا ومتحضرا وصالحا وإنسانيا، ان يعمل ما باستطاعته ان يتفادى الحروب ويهرب منها ويستعيض عنها بالحوار، ليس بالحوار الذي فيه يفرض القوي ارادته على الضعيف، بل بالحوار المبني على قوانين العدل التي يجب ان تفرضها على جميع المتحاورين منظمات كفوءة وغير منحازة لأحد، ولاسيما اذا كان هذا العدل نفسه يتعلق بالصفات البشرية التي نجدها عند كل البشر، ومنها صفة احترام كرامة الانسان الانسانية وصفة العدل بمعنى احبب لغيرك ما تحبه لنفسك، وصفة المحبة والتسامح والعيش المشترك بسلام الخ...

اسباب الحروب وأنواعها:

ربما جاءت الحرب، كل حرب، لثلاثة اسبـاب، بغض النظر عن عدالتها وشرعيتها من عدمهما. فهناك سبب اول يعود الى نزاع بين دولتين على ملكية او حقوق مهمة، سواء كان هذا الحق مسلوبا من قبل احدى هاتين الدولتين او تكون احدى هاتين الدولتين مزمعة ان تستلب هذا الحق، او تكون احدى هاتين الدولتين قد قررت انتزاع حقها المسلوب عن طريق الحرب.

اما السبب الثاني فيأتي بسبب رغبة احدى الدول في السيطرة عن طريق الحرب على دولة اخرى اضعف منها، او على الأقل تعتقد انها اضعف منها. وهنا غالبا ما يسبق مثل هذه الحرب تدخل سياسي من قبل الدول القوية في شؤون الدول السياسية الأخرى، او تحدث بين الدول القوية والدول الأخرى تحرشات عسكرية من حين لآخر، مما يجعل مجال الحوار ضيقا بين هذه الدول، وتقع الحرب بسبب هذه الحالة. كما اننا نشهد في ايامنا ما يمكن ان نسميه الحرب بالنيابة وحرب الارتزاق اللتين لهما خصوصيتهما ايضا، ولكنهما تدخلان في التعريف اعلاه.

وأخيرا، وليس آخرا،

يأتي السبب الثالث وهو ما بدأ الناس يسمونه بالحرب الاستباقيـة او الحرب الوقائية. فهذه الحرب تعني مبدئيا، وفي احسن احوالها، ان تمنع دولة، عن طريق الحرب، حربا وشيكة عليها او ضررا كبيرا لا يمكن تفاديه الا عن طريـق الحرب. غير ان مثل هذه الحرب، وبهذه المواصفات نادرة جدا، بل ربما مستحيلة في زمننا، لاسيما وأننا نعلم، علـى سبيل المثال، ان حروب اسرائيل على الدول العربية لم تكن من هذا النمط ابدا، وانما كانت مجرد عدوان يشبه عدوان الأمريكان على الدول الضعيفة، علما بأن هذا العدوان كان يعتمد على المباغتة كما كان يعتمد على الفارق النوعي الكبير بين سلاح اسرائيل وسلاح الدول المعتدى عليها، في حين ان هذه الدولة الباغية المسنودة من قبل اشرار العالم كانت ولا زالت تقول للعالم بأنها عملت حربا استباقية. فقد شنت اسرائيل حربا على مصر بحجة خطاب يقال ان المرحوم جمـال عبد الناصر كان قد قال فيه بأنه سوف يلقي اسرائيل في البحر اذا اعتدت على مصر، وشنت حربا مدمرة على لبنان بحجة ان حزب الله اختطف جنديين اسرائيليين، في حين ان اسرائيل كانت تخطف كل شهر عشرات اللبنانيين وغير اللبنانيين.

وبما انه لا توجد اليوم حروب استباقية حقيقية وشرعية فان حرب بوش على العراق لم تكن حربا استباقية بمفهومها الحقيقي ولكنها كانت حربا استباقية بمفهوم السيد بوش العدواني التضليلي: فقد كان السيد بوش قد قرر ان يحتل العراق، اما الحجج فقد فتش عنها فيما بعد، او اختلقها اختلاقا بشكل عدواني، يشبه ما كان الذئب قد عمله مع الحمل المسكين. فقد كان الذئب في القصة المعروفة قد قرر ان يأكل الحمل، فاختلق قصة تعكير الماء عليه لتكون حجة لأكله.  فلما قال له الحمل: يا سيدي انت تقف على الضفة العليا من النهر وانأ اقف على الضفة السفلى، قال له الذئب: اذا لم تكن انت فقد كان ابوك. وهكذا لم يفد برهان الحمل مع الذئب القوي، وكانت النتيجة ان الذئب اكل الحمل حسب قاعدة حجة الأقوى التي تنتصر دائما.

وهنا نتوقف قليلا لنسأل ونقول:

ترى الم تكن حرب السيد بوش على العراق من هذا القبيل تماما ووفق القاعدة المذكورة التي جعلت الذئب يفترس الحمل على الرغم من حججه الدامغة؟ نقول نعم كانت كذلك، مع فارق ان المفترس هنا لم يكن مجرد حيوان افترس الحمل لأنه كان جائعا، لكنه كان انسانا من بني البشر، وكان عليه ان يتصرف مع الآخريـن تصرف البشر، في حين آثر ان يتصرف مع العراق تصرف وحوش الغاب الذين لا تنظمهم سوى شريعتهم الخاصة التي تسمى شريعة الغاب.

فما حدث عند السيد بوش الذي كان يحمل صورة آدمي تخفي وراءها وحشا ضاريا انه  افترس العراق المسكين بحجة كاذبة ومختلقة هي حجة امتلاك العراق اسلحة دمـار شامل، هذه الاسلحـة التي لم تنفع كل فرق التفتيش لإقناع السيد الذئب المفترس، بأن حجته كانت باطلة وأنها لم تكن تصلح لاحتلال العراق، فبقـي مصرا على القول بأن ما عمله كان حربا وقائية ( استباقية ) شرعية، مع ان هذه الحرب لم تكن اكثر من غزو وعدوان حقيقي لا يملك اية شرعية، كما كانت اطالة الحصار على العراق عدوانا سافرا تبنته الأمم المتحدة بجبن وخبث ونذالة، مع شديد الاسف.

غير ان الحرب على العراق كانت حربا استباقية من وجهة نظر اخرى معلنة وغير معلنة، الا وهي منع العراق من ان يصل مصاف الدول القوية ومن ان يتجاوز جدار دول العالم الثالث. وبما ان السلاح هو المعيار الأساسي لدى الدول العظمى المستبدة التي تحكم من خلاله على تقدم اية دولة، فان صناعة السلاح كان مؤشرا على خطورة العراق، كما صرح بذلك اقطاب الدول العظمى في اكثر من مناسبة، ولاسيما بعد اطلاق صاروخ العابد وصنع الطائرة الرادار عدنان واحد وعدنان 2، فضلا عن الصواريخ بعيدة المدى الذكية التي كنا قد بدأنا نصنعها او نطورها.

وفي الحقيقة نحن لم نكن نملك اسلحة دمار شامل ولا شيئا من هذا القبيل، لكننا كنا قد اصبحنا على وشك ان نخرج من تبعية الغرب المعتدي، على الرغم من الحروب التي دفعنا هذا المحتل العدواني اليها. وبما ان تقدمنا ومنجزاتنا الشرعية لم ترق لأعداء الشعوب ومضطهديهم، لذلك ارادوا القضاء على هذه المنجزات فـي مهدها، وكانوا بالتالي مضطرين الى التخلص من الأيديولوجية التي حققت هذه المنجزات والعقول التي اخرجتها للوجود والقيادة السياسية التي تم كل شيء تحت اشرافها.

اما وان يعتبر المحتلون ما عملوه من جرائم وكأنه من متطلبات الحرب الطبيعية فذلك تضليل آخر غايته الافلات من العقاب، كما انه اصرار على نجاح المحتل في احتلاله غير الشرعي من خلال استخدام اقذر الوسائل و اكثرها همجية ووحشية، لكي تأتي بنتائج تدميرية على كل المستويات، كتلك التي يعرفها العدو والصديق والتي وضعت لها احصائيات وجداول.

من اوصل المحتلين الى هذا العدوان؟:

جوابا على تساؤل هذه الفقرة نقول بأن الذي اوصل المحتلين الى هذا العدوان هو تحليل سياسي استفاد منه الاوربيون المستعمرون القدامى والمستعمرون الجدد الأمريكان بعد ان أخذوا درسا من الثورات التحريرية التي قامت بعد نهاية الحرب العالمية الأولى. فقد كان المستعمرون يصفون بالمتمرد كل من حاول ان ينتفض على المستعمر، وكانوا يتعاملون مع هذا المتمرد بقسوة متناهيـة تصل فـي غالبية الأحيان الى الاعدام في الساحات العامة، لإعطاء درس للمقاومين الآخرين، حتى صارت هذه العقوبات وكأنها هي بذاتها حربا استباقية بمعناها غير المشروع الوحشي.

اما مثل هذه الحرب ووسائلها القذرة فكانت تمارسها كل دولة مستعمرة على حدا مع متمرديها المزعومين، احيانا بشكل مباشر وأحيان اخرى على يد المتعاونين معهم والذين يقومون بالجرائم ضد المقاومين بالنيابة عن المحتل وأحيانا اخرى تتم محاربة المقاومة شراكة بين المحتل نفسه وبين المتعاونين، كما يحدث ذلك حتى هذا اليوم في العراق وفي افغانستان. والجدير بالذكر هنا هو ان جرائم كثيرة حدثت بيد المحتلين في كل مكان احتلوه: في العراق وفي سوريا وفي مصر وفي الجزائر، وفي الهند وفي كثير من الدول الأفريقيـة. الا ان الدول المستعمرة لم تقدر ان تصمد امام التيار التحرري الجارف فاضطرت في نهاية الأمر الى التسليم بالأمر الواقع وإعطاء المقاومة بعض او كل مطالبها.

اما اليوم فقد حدث شيء جديد في العالم، مع دخولنا حالة العولمة الشريرة. ففي كثير من الدول حلت الهيمنة السياسية والهيمنة الاقتصادية محل الهيمنة الاستعمارية ومحل الاحتلال القديم، حتى صارت هذه الهيمنة ظاهرة معروفة وسبيلا عاما ينظم العلاقة الجائرة بين اقوياء هذا العالم وبين ضعفائه. وعليه فقد كان من الطبيعي ايضا ان تقوم مقاومـة متعددة الأشكال والأبعاد بوجه مستعبدي الشعوب، فحدثت في العالم كله مثل هذه المقاومة، سواء كان ذلك على شكل مقاومة مسلحة مباشرة او كان ذلك على شكل مقاومة الأنظمة الخاضعة للهيمنة الغربية، او كان ذلك على شكل مقاومة سلمية تعتمد على النشاط الحزبي المكشوف، مثل حركة كفاية في مصر.

من هنا كان من الطبيعي ايضا ان يشعر المهيمنون على مقدرات الشعوب الضعيفة بخطورة المقاومة الناشئة بوجههم، كما كان من الطبيعي ان يتحد اقوياء العالم بوجه هذه المقاومة لإجهاضها، وكأن بقاء الدكتاتوريات الخاضعة لمصالح اقوياء العالمة مصلحة وطنية يقوم العولميون بحمايتها بكل ما اوتي لهم من قوة مسلحة وغير مسلحة.

وهكذا اعطى القتلة لأنفسهم الحق بأن يقتلوا ويصفوا بكل الوسائل اية معارضة لهيمنتهم دون ان يطولهم العقاب، كما يحدث عندنا في العراق حيث يصفى المقاومون او من يشتبه بهم عن طريق مسدسات كاتمة الصوت والعبوات اللاصقة وبغير ذلك بشكل منهجي مدروس. علما اننا نعرف الجاني من المجني عليه. كما يمكننا ان نتأكد من ان القتلة سيندحرون في نهاية الأمر مثلما اندحر جيل القتلة المستعمرون منذ بداية الربع الأول من القرن العشرين، ولن تفيد همجية اعداء الشعوب في صون امتيازاتهم الا قليلا، لأن الله ( القانون الاجتماعي ) يهمل ولا يهمل.

امريكا والعروبة:

من المعروف ان اول من طالب باستقلال العراق المحتل من قبل الانكليز كان المتعلمون من الطبقات البرجوازية الصغيرة فضلا عن العشائر. وقد تمكنت هذه الشرائح من الشعب من تحرير شعوبها من الاستعمار بشكل كفء على الرغم مـن التضحيات الجسيمة التي قدمتها.

غير ان الذي حدث هو ان المستعمر خرج من الباب مضطرا ليدخل من الشباك في غفلة من الشعب العراقي الذي لم يستطع الحفاظ على استقلاله، لأسباب لا نريد الخوض فيها الآن، ومنها حالة الجهل التي كانت سائدة في عراق ما قبل الاستقلال. لكن التقدم الحضاري والعلمي في العراق، على بساطته، وتغلغل الأيديولوجيات الماركسية في مناطق كثيرة من العالم، ومنها مناطقنا العربية، فضلا عن  بدايات واضحة للشعور القومي في العالم الثالث ومنه العراق، صارت سببا لقيام ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 على ايدي الضباط الأحرار الذين كانوا قد اسندوا قيادة الثورة لعبد الكريم قاسم، الذي سرعان ما وقع تحت الهيمنة الشيوعية التي ملأت الدنيا ضجيجا فارغا ودماء، تحت شعار دكتاتورية العمال الديمقراطية، في دولة لم يكن فيها عمال بالمعنى الحصري للكلمة.

الا ان هذا الشعور القومي، ومن خلال مجريات كثيرة عندنا في العراق وفي العالم الثالث ازداد بشكل كثيف لا يصدق، حتى انه صار السبب الاساسي لكثير من الاحداث التي حدثت في العراق، ان كان ذلك مع الشعور القومي هذا او ضده. ولذلك انقسم عالمنا العراقي الى من كانوا مع هذا الشعور القومي المطالب بحقوق الوطن بكل ابعاده القومية والاجتماعية والساعي الى هذه الحقوق والمناضل من اجلها وبين من كان مع اعداء هذا الشعور القومي العصي على النهب الأمريكي، لأننا نعرف ان هذا الشعور القومي هو انا الوطن وهويته وذاته التي كان الاعداء يريدون محوها وتحويل العراقيين الى شعب بلا هوية، يقبل ما يفرض عليه الاعداء بسهولة مقابل شيء من الأمان ولقمة العيش.

بعد هذا نفهم ان تكون العروبة الوحش الاسود La bête noire الذي يقض مضجع المعتدين والطامعين بالعراق. حتى صار القضاء على العروبة هدفا استباقيا للمجرمين الطامعين بخيراتنا. كما كان قد صار القضاء على حزب البعث هدفا رئيسيا من اهداف المعتدين العولميين وعلى رأسهم المعتدي الأمريكي، مهما كلف الأمر وبأية وسيلة كانت مهما كانت غير شرعية وقبيحة. اما السبب في هذا العداء الاصم والأعمى والأسود لحزب البعث فيعود الى ان حزب البعث في العراق كان يمثل التوجه العربي والهوية العربية احسن تمثيل، كما ان صلابة حزب البعث العراقي كانت سببا كبيرا لهذا  العداء بحيث صار المجرمون يهللون عندما يقتلون بعثيا اعزل في حين انهم يقيمون الدنيا ولا يقعدوها عندما يقتل نكرة اجرب، او مجرم من جماعتهم، او من جنودهم.

لذلك نجد كيف فتح الأمريكان ابواب جهنمهم على البعثيين العزل وعلى دولتهم، وكيف دمروا ونهبوا تراث العراق وشوامخ حضارته، كما فعل هولاكو من قبلهم، وبأية نذالة قتلوا رئيس البعث وقيادته المخلصة، وكيف تعاملوا مع البعثيين في سجونهم وزنزاناتهم العدوانية. اما الذين بدؤوا يأخذون مكان البعث في الجهاد من المؤمنين المسلمين فان نصيبهم من الاضطهاد والقتل ليس اقل من نصيب البعثيين الذين تعرضوا لضربة المحتل الاولى.

وعليه لا نملك سوى ان نقول بأن ما يفعله المحتلون، سواء كان ذلك في عهد السيد بوش ام في عهد السيد اوباما، ليس غير جريمة منظمة وإرهـاب دولة يسمونه الحرب الاستباقية، مع ان التسمية الكاذبة وحدها لا تكفي لغسل هذه الجرائم التي ستبقى تلاحقهم بألف شكل وشكل، مهما استخدموا من وسائل للتملص من العقاب.