الحزب المستحيل وفقه الاصطياد- 6

الحزب المستحيل وفقه الاصطياد- 6

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

يطرح الحزب المقترح للإخوان المسلمين خطة قصيرة المدى وأخرى طويلة المدى لمعالجة مشكلات المجتمع المزمنة وفي مقدمتها البطالة ، والخطتان في مجملهما لا بأس بهما ، وإن كنت أري ضرورة التركيز      في الأولى قصيرة المدى ؛ على المشاركة الأهلية ، وليس القطاع الخاص المرتبط برجال القروض ، في إقامة المشروعات الصناعية والزراعية من خلال الشركات المساهمة التي تستوعب أكبر عدد من المشاركين من ذوي المدخرات البسيطة  ، ومن يقدرون على تملك أسهم معقولة ، وفقا لما أرساه محمد طلعت حرب في أوائل القرن الماضى ، وحقق إنجازا ضخما ورائعا ؛ ضيعته يد الاستبداد ، وعقلية الاستسلام

إن الشركات المساهمة قادرة على استيعاب كثير من الأموال التي يلجأ أصحابها إلى النصّابين ، وأشباههم ؛ ممن صارت حوادثهم تملأ صفحات الصحف ، وشاشات التلفزة مؤخرا ، حيث يضحكون على الناس ، ويأخذون أموالهم بحجة إعطائهم ربحا كبيرا في زمن قصير ، ثم يهربون بالأموال والآمال ، ويبكي التعساء حظوظهم المنكودة !

عندما يكون مع الشخص مبلغ من المال يريد استثماره ولا يستطيع ، فإن الوعاء " الربوي" في البنوك – وصار معظمها بيد الغرباء – هوالمجال المتاح المضمون أمامه ، وإلا كان وقوعه في أيدي النصاّبين  أمرا طبيعيا . لا تقل البنوك الإسلامية قائمة ، فالربح العائد منها لا يغطى الزكاة ، ويبدو أنها وقعت في قبضة لا ترحم ، تضيق عليها ، أو تقترض أموالها ولا تسددها ، مما جعل نشاطها مجرد تحويلات تتقاضى عنها أجرا أو نحو ذلك ، فقد توقفت تقريبا عن إقامة المشروعات التي تدر ربحا ، ولا تستوعب عمالة مصرية عاطلة .، ومن ثم فإن التوجه إلى إنشاء الشركات المساهمة في المجالات المختلفة ، وإقامتها في المناطق غير الزراعية ، سوف يشجع على المشاركة من جانب جمهور عريض من الناس ، ويستوعب أعدادا هائلة من الشباب العاطل ، ويفسح مجالا للإقامة بعيدا عن الزحام وأخلاق الزحام .

والحلم بوقف الخصخصة جميل جدا ،ولكن السلطة فيما أتصور لا تستطيع في الوقت الراهن أن تؤجل مجرد التأجيل لبيع المشروعات والبنوك والمؤسسات المتبقية ، الناجحة أو الخاسرة ، ولولا تدخل بعض المؤسسات السيادية مؤخرا لتم بيع مرافق مهمة وحساسة مما تبقى ؛ تؤثر على حياة الجموع الفقيرة ؛ والسلطة الآن لا تبحث عن تشغيل الشباب العاطل ، ولكنها تصدر إليه أعدادا مضافة ممن يفقدون وظائفهم وأعمالهم تحت عنوان " المعاش المبكر " ؛ وأعتقد أن التركيز على المواجهات الشعبية لوقف الخصخصة ومعالجة آثارها بطريقة منظمة وفعالة ، ومشاركة النخب وقادة الرأى والفكر والخبراء ، يمكن أن يجعل قطار الخصخصة السريع يبطئ من سيره ، ولتكن هناك دعوة إلى جمعيات أهلية ضد بيع مرافق المجتمع ، فقد تًحقق نجاحا ملموسا مثلما نجحت جمعية حماية المستهلك في لجم عنفوان الفساد السلعي وفضحه ، كما حدث مؤخرا بالنسبة لشركات المياه المعدنية ، أو التي تزعم أنها كذلك ، وعبوات المبيدات الحشرية المنزلية ..

إن الشعب حين يتحرك بوعي يستطيع أن يؤثر في أمور كثيرة ، ولعل التجربة التركية بقيادة حزب العدالة والتنمية من أفضل النماذج التي يجب استدعاؤها باستمرار ، فقد أتاحت للمجتمع التركي إنشاء جمعياته الأهلية التي تعمل في مجالات الحياة المختلفة لصالح الناس عامة ، بحيث أصبحت تشكل كيانا موازيا للسلطة ؛ يحمي الشعب من بطشها وجبروتها، ويهيئ لأفكار متقدمة تخدم جموع المجتمع ، وتفتح أمامه آفاق التقدم والانطلاق .

ولا شك أن الخطة الاستراتيجية التنموية طويلة المدى  لمعالجة مشكلة البطالة تستهدف التنمية المتواصلة ، مع التوظيف الكامل لكل الإمكانات        والجهود من خلال الاقتصاد المختلط الذي يجمع بين القطاع العام    والقطاع الخاص الوطني  ؛ تمثل ضرورة عاجلة وأساسية ، وكنت  أتمنى أن تركز هذه الخطة على الزراعة ، فالبلاد تحتاج إلى رغيف الخبز ، وكوب اللبن وقطعة وطبق الخضار وقطعة اللحم وثمرة الفاكهة ، وهو أمر صرنا فيه – للأسف – نعتمد على أعدائنا وغيرهم اعتمادا كبيرا لدرجة أن الناس صاروا يتقاتلون أمام المخابز على رغيف ، وصارت السلطة على مدى العام تطلق ما يسمى بعثة طرق الأبواب لتمر على عواصم العالم المختلفة ، بحثا عمن يبيع القمح أو اللحم نظير المبادلة ببضائع مصرية أومنتجات محلية غير مرغوبة في الخارج أصلا ، وفي الغالب فإن من لديهم ما نحتاجه ؛ لا يبيعون إلا تحت شروط إذعان مذلّة ، وبعضهم يشترط الدفع النقدي الفوري ( بالعملة الصعبة طبعا ) ! ولم يعد حديث الاختناقات التموينية بخاف على أحد داخل الوطن أو خارجه ، ويكفى أن مصر حققت المركز الأول في العالم للدولة المستوردة للقمح !

ومن ثم فقد تمنتيت من البرنامج الذي وضعه حزب الإخوان المستحيل ؛ أن يركز على قضية الزراعة ومنتجاتها، وما يقوم عليها من صناعات ، وأظن ذلك يتحقق على النحو التالي :

أولا : تشجيع الشركات الأهلية المساهمة ، والأحزاب القائمة وبعضها لا نشاط له غير إصدار الصحف ، وكثير منها يؤيد النظام البوليسي الفاشي نظير المنحة السنوية للأحزاب ، على استصلاح أراضي سيناء ، وزراعتها في حدود الإمكانات المتاحة  ، مع إقامة الحظائر لتربية الحيوانات والطيور الداجنة ( وليس النعام ) وبناء المصانع والمشروعات الممكنة لخدمة الزراعة ، أو خدمة منتجاتها     .

ثانيا : الدعوة إلى إنشاء الجامعة الزراعية في سيناء على الحدود مع فلسطين المحتلة ، وتتكون من كليات الزراعة ومعاهدها في مختلف الجامعات المصرية ،ومنح طلابها وأساتذتها امتيازات السكن والأجر المضاعف ، وإتاحة الفرصة للاستصلاح والاستزراع وتربية الحيوانات والطيور الداجنة ، على أن يمنح الخريج قطعة من الأرض يمتلكها ويزرعها ويقيم في بيت مجاني مجاور لها .

لقد تدنى مستوى المجموع في كليات الزراعة ومعاهدها ، ولأول مرة ينصرف الطلاب عن هذه الكليات وتلك المعاهد لأسباب شتى ، وتكاد الكليات تفرغ من الطلاب في السنوات الأخيرة .. وأظن أن فكرة الجامعة الزراعية ستقضى على ظاهرة عدم الإقبال من جانب طلاب على دراسة الزراعة وتستوعب أعدادا كبيرة من الشباب بعد تخرجهم وتقيم مجتمعا عمرانيا مهما ، يخدم استراتيجية الدفاع عن الوطن ، ويمثل حائط صد أمام غارات العدو النازي اليهودي في فلسطين المحتلة .

ثالثا : الدعوة إلى تأهيل مجندي الأمن المركزي الذي يمثلون عبئا على ميزانية الدولة والأمن أيضا تأهيلا زراعيا وحرفيا ، بحيث يسهمون بعد تسريحهم في عملية الاستصلاح من خلال تخصيص مساحات يتملكونها مثل خريجى الجامعات، فيما سلف من زمان ، ويمكن أن يخدموا مع الجامعة الزراعية ، وخاصة أن مستوى معظمهم الثقافي منخفض ، وكثير منهم من الفلاحين والعمال الذين    يتوقون للتملك والاستقرار..

رابعا : إن إنشاء الشركات المساهمة الصناعية ، التي تنتج مما تحتاجه البلاد ، وإقامة المدن الصناعية في سيناء ، سيحقق أهدافا كبرى ، ليس أقلها تحضير المجتمع البدوي واستقراره ، ومعالجة سلبيات الترحل وغواية العنف ومواجهة السلطة المركزية بفعل المكر الصهيوني .. ونواصل بإذنه تعالى .