أسرى

صلاح حميدة

[email protected]

يخوض الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال هذه الأيام  إضراباً عن الطّعام، ومن المعروف أنّ الأسرى يلجأون لمثل هذا النّوع من الإحتجاج عندما يصلون إلى مرحلة التصاق الظّهر بالحائط فيما يخص المطالبة بتحسين ظروفهم الاعتقالية، والحدّ من التنغيص اليومي عليهم من قبل إدارة السّجون الاسرائيلية، ودفعاً لعمليات القتل البطيء - نفسياً وجسدياً - لهم على مدار السّاعة.

خاض الأسرى جولات كثيرة من الإضرابات والنّضالات داخل سجون الاحتلال حتى حققوا العديد من الانجازات فيما يخص ما ذكر سابقاً، وخطّت هذه الإنجازات بدماء شهداء الحركة الأسيرة، وعذابات وآلام وأمراض مزمنة لأسرى عانقوا فجر الحرية وآخرون لا زالوا ينتظرون.

في السّنوات الأخيرة بدأت مصلحة السّجون الإسرائيلية حرباً شرسة على الأسرى، حرب إذلال وتفتيت للحركة الأسيرة، حرب سحب لكافة الإنجازات التي كانت ثمرة دماء شهداء الحركة الأسيرة، وزاد التّغوّل على الأسرى في ظل حالة من التّرهل والانقسام داخل السّجون وخارجها، مما أفقد الحركة الأسيرة غالبية  المنجزات التي تراكمت لها عبر السنوات السابقة، وكان طبيعياً أن تصل الأمور إلى درجة الإنفجار، والذي يتمثل في ذروته في ما يعرف بالاضراب عن الطعام.

كتب الكثير من الكتاب عن الأسرى وتضحياتهم بزهرة شبابهم من أجل القضية الوطنية، وعن واجبات الشّعب والحركات والمؤسسات والرسميين تجاههم وتجاه أهاليهم، وعن وجوب العمل لتحريرهم وفك قيدهم، وهذه كلها لو أعيد ذكرها ستدخل في باب التكرار، مع أنّها بالغة الأهمية، ومن الواجب على الأفراد والجماعات الاهتمام بها وتفعيلها ميدانياً وإعلامياً ومادّياً واجتماعياً.

عندما قرأت وسمعت في بعض وسائل الاعلام عن إضراب الأسرى، توقّعت تفاعلاً مهماً من الجمهور والاعلاميين والسياسيين - كما العادة - بهذه القضية الهامة، ومع أنّ لقضية الأسرى خصوصية مهمة لدى الفلسطينيين، و القضية التي أسروا من أجلها تعتبر أولوية الأولويات أيضاً، و كان الاضراب عن الطّعام دائماً دافعاً لاشتعال الساحة الفلسطينية على كافّة مستوياتها، إلا أنّه في هذه الحالة كان مختلفاً، فقد تساءلت بعد جولة في شوارع مدينة السياسة والسياسيين الفلسطينية، هل يوجد حقاً إضراب للأسرى في سجون الاحتلال؟.

كان الشّبان ينتشرون بأعداد كبيرة في الشّوارع، والسيارات والتسجيلات تصدح، والرايات تعلوا، والهتافات تتطاير، حتى أنّ أحد الشّبان في مدينة فلسطينية دهس خمسة شبّان بسيارته عن طريق الخطأ - مات أحدهم - عندما كانوا عائدين لبيوتهم بعد تجمّعهم وسط المدينة ليلاً، صعقت عندما علمت أنّ كل هذه التظاهرات والتّجمّعات  الشّعبية والعصبية والرايات والهتافات وما رافقها، لم تكن من أجل الأسرى و لا تضامناً معهم، بل كانت من أجل مباراة كرة قدم بين برشلونة وريال مدريد!!.

من الواضح أنّ ردة الفعل الشّعبية والرّسمية والاعلامية على إضراب الأسرى دون المستوى بكثير، وهذا يشير إلى قضية بالغة الحساسية، يعيشها الشّعب الفلسطيني، حقيقة أنّه شعب يعيش تحت واقع قيود عديدة، تفوق في قدرتها قيود السّجان الذي يحاصره ويحدّ من حركته ويصادر أرضه ويهدم بيته ويهجّره من بلاده و يحتجز أسراه ويتمتع بسادية بأذيّتهم وقتلهم ببطء وينكّل بهم وبأهاليهم.

فالشّعب الفلسطيني  يعيش أسير الارتهان السياسي للخارج، قيد الانتظار ثم الانتظار ثم الانتظار للمشاريع الخارجية، قيد طبخة الحصى السياسية التي لم يكسر قيدها حتى الآن، وأفقدت هذا الشعب المبادرة التي سبق بها قادته دائماً، قيد الشّعور بالعجز عن تغيير الواقع الأليم الذي يعيشه حالياً، ولم يصل حتى الآن إلى مخرج.

 ويعيش جزء لا بأس به من الشّعب الفلسطيني  تحت أسر حالة من التّحوصل على الذات الفردية والعائلية والقبائلية والمناطقية والسياسية، حالة من الأنانية التي تستشري بين بعض فئاته، حالة التّقييم بميزان الأنا فقط، ترفض التّضحية من أجل القضية الجامعة، حالة تسعى للمتاجرة بكل شيء، حالة ترفض الآخر المختلف، حالة تريد من الجميع أن يكون مثلها حتى ولو كانت على خطأ، حالة فريدة من نوعها، كفيلة بالقضاء على كل مقومّات الصّمود ومقاومة العدوان إذا تم الاستسلام لثقافتها الهدّامة التي يتم العمل عليها ونشرها بمنهجية مدعومة بالقهر والمال.

والشّعب الفلسطيني يعيش - في  غالبيته - تحت أسر الأموال  والمساعدات التي تأتيه من الخارج، فقبل أن نعرف المساعدات والأموال الخارجية والمؤسسات الأهلية، ووكالات التنمية الأجنبية، كان المجتمع في أي قرية أو مخيّم أو مدينة يبادر للمساعدة لكل محتاج لها أياً كان، وبلا مقابل، وكان هناك تركيز كبير على العمل الانتاجي والفلاحي، وكان الفلاح والمواطن البسيط يحظيان بمساعدة جماهيرية في إنجاز عملهم وبنائهم وزراعتهم وغيرها، فيما كان يصطلح عليه ( العونة) وهي بالرغم من أنّها حالة رائعة من التّضامن الاجتماعي، إلا أنّها تعتبر دعامة إقتصادية هامة، وبذرة صمود تدعم هذا المواطن البسيط والمزارع وتثبّته في أرضه، وتجعل مسيرته في التّجذّر وفلاحة الأرض ذات جدوى اقتصادية، إضافةّ إلى أثرها الإيجابي نفسياً واجتماعياً وسياسياً.

كما أنّ بناء أي مسجد أو مدرسة أو أي مشروع ذو أهمية، لم يكن يحتاج لجهد كبير لتوفير ميزانيته، بل كان النّاس على بساطتهم وفقرهم في بعض المناطق، يجمعون ما يفوق قيمة المشروع بزمن وجيز نسبياً. أمّا الآن، فالكثيرون ينتظرون المساعدات الخارجية، فبناء أي مشروع يجب أن يكون بدعم خارجي، وتعبيد الطّرق وتمديدات تصريف المياه وبناء المجالس والوزارات وحتى الأندية والمؤسسات الشبابية، غالبيتها أصبحت تنتظر الدّعم الخارجي، بل تبادر بالذّهاب إلى الدّاعمين، وفقدت المبادرة والبذل والعطاء من الأفراد والجماعات والمؤسسات، فهذه الأموال بجانب كونها تنشر صفات سلبية كثيرة في المجتمع، إلا أنّها بذرت بذرة الاتكالية والبعد عن الانتاجية و العمل التّطوعي، والتّوجه نحو الاستهلاك والقروض البنكية والترفيه، ويكمن خطر الخضوع لأسر هذا القيد الاقتصادي، أنّ لقمة خبز وكرامة عيش المواطن الفلسطيني ورفاهيته ومستقبله أصبح رهين هذا المال الخارجي، الذي لا يخفي أنّ له أجندة سياسية تناقض أهداف وطموحات وتطلّعات الشعب الفلسطيني، كما أنّ هذه الأموال من الممكن أن تنقطع في أي وقت تبعاً لمصالح من يقدّمونها، وبالتالي سيواجه الفلسطينيون حينها حالةً من الضّمور والانتكاسة والضّياع، الذي قد يؤدي إلى انهيار كامل للمنظومة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقيمية، ويؤدّي لهجرة هائلة من الأراضي الفلسطينية باتّجاه الخارج.

والشّعب الفلسطيني - أو بعض قطاعاته - يعيش تحت أسر ثقافة دخيلة عليه، وهي ثقافة الأخذ بلا مقابل، وبلا دفع ثمن، وبلا بذل جهد يوازي ما قبض أو خدم من خدمات، وهذه الثّقافة دخيلة على المجتمع ولم نعرفها إلا منذ ما يقارب العقد ونصف من الزّمن، ففي مناطق كثيرة من الأراضي الفلسطينية - المخيمات وبعض قرى محيط القدس في الضّفة الغربية على سبيل المثال - يرفض أصحاب البيوت والمصالح الأخرى دفع فواتير المياه والكهرباء، بل يبالغون في الاستهلاك لهذه الخدمات في كل شؤونهم الحياتية، وحتى الآن لم يتم جباية المستحقات المالية منهم، مع أنّه لا مبرر لذلك، ويتم في بعض الحالات الاعتداء على موظفي الجباية.

وحتى في قطاع غزة، فمن المهم الفرز بين العاطل عن العمل و لا يستطيع دفع الفواتير، وبين من يستطيع ولديه دخل، حتى يتم تسديد المستحقات المالية للخدمات، بدلاً من انتظار تمويل الاتحاد الاوروبي، فهل كان الاتحاد الأوروبي يموّل فواتيرنا قبل الانتفاضة، أو قبل تأسيس السّلطة؟.

أمّا في الضفة الغربية فلا مبرر للإمتناع عن دفع مستحقّات خدمات الماء والكهرباء من قبل المناطق التي ذكرت سابقاً، فقد أدّى هذا الإمتناع إلى ظهور ثقافة سلبية وخطيرة أخرى تهدد المجتمع، فبعض النّاس بدأ يرفض الدّفع من باب أنّ غيره لا يدفع، وبعضهم بدأ يفتي لنفسه بسرقة الكهرباء والماء من  المزوّدين، تحت عنوان أنّ الشركات المزوّدة  للخدمة زادت قيمة  فواتيرخدماتها على من يدفعون عدّة أضعاف،  وهذا يفسّره هؤلاء بأنّه جعل من يلتزم بالدّفع يدفع فواتير من لا يلتزم بها، أي بمعنى آخر أنهم يرون أنّه يتمّ سرقة الشّركات المزوّدة للخدمات من غيرهم، بينم يتم سرقتهم من قبل الشّركات، حسب وجهة نظرهم، وبهذا يقع النّاس تحت أسر ثقافتين دخيلتين، هما ثقافة رفض دفع المستحقّات المتوجّبة عليهم، وتحت أسر ثقافة اللصوصية والسّرقة تحت مسوّغات متعددّة.

و تقع قطاعات هامّة من الشّعب الفلسطيني  تحت أسر هجمة وغزو لمفاهيم غربية تبغي تدمير الأسرة الفلسطينية، وتعزل جيل الشّباب عن التّفكير في قضاياه والسّعي لحلّها، وتعمل على تغييبه وتغريبه ليقاتل من أجل قضايا هامشية بعيدة عن واقعه تماماً، هجمة منظّمة  من مؤسسات أهلية وإعلامية مختلفة، تهدف لفرض أفكار تناقض السّائد في المجتمع من قيم وتقاليد وعقائد وغيرها من الأفكار التي تحافظ على ترابط وتآلف المجتمع الفلسطيني، تسعى لإفساد عقول الشّباب والفتيات، عبر بث بعض الأفكار والممارسات اللا أخلاقية على أنّها حريات شخصية لا يجوز محاربتها والتّصدي لها لا بالقانون ولا بالموعظة.

قد يقول قائل، أنك نقلتنا من قضية الأسرى في سجون الاحتلال، إلى قضية أسر الشّعب الفلسطيني.  صحيح أنّ قضيّة الأسرى مهمّة، بل بالغة الأهميّة، ولكنّها جزء من القضية الأكبر والأشمل، وهي قضية أسر الشّعب الفلسطيني بأكمله، و ليس أسره مادّياً فقط، بل الخطر الأكبر هو أن يستسلم الشّعب الفلسطيني لقيود أسره سالفة الذّكر، فهي قيود تفوق القيود المادية في شدة تأثيرها وخطرها على الشّعب  وقضيته المحقّة، وإذا أراد الشّعب الفلسطيني أن يحرر أسراه، ويحرر نفسه من أسر الاحتلال، فعليه تحطيم القيود المعنوية والثقافية والاقتصادية والسياسية التي تكبّله، فالحرية قبل أن تنال من الخارج يجب أن يشعّ بها القلب والعقل من الدّاخل، ومن المهم أن ينتصر الفرد والجماعة والمجتمع على النّزوات والرّغبات والأنانية والكسل، حينها فقط يكون الشّعب الفلسطيني قد وضع قدمه على سكة التّحرر من أسر الاحتلال.