لماذا كل هذه الدموع على عين العرب؟
محمد فاروق الإمام
اجتاحت في الأيام القليلة الماضية بعض المدنَ التركية اضطرابات مؤسفة خلفت العديد من القتلى والجرحى وتدمير وإحراق العديد من المؤسسات المدنية، وطالت عملياتُ التخريب المحال التجارية والسيارات، وكان المحرك لهذه الاضطرابات بعض الإخوة الأكراد الذين اندفعوا على غير هدىً، حمية وانتصاراً لما يجري لإخوانهم الأكراد في عين العرب (كوباني) من أحداث دامية جراء الهجوم الذي تشنه داعش عليها بهدف احتلالها، لتكون حلقة الوصل بينها وبين ما تمكنت داعش من احتلاله في الشمال العراقي وشمال شرقي سورية، وفرض أمر واقع للاعتراف بوجودها في المنطقة.
الإخوة الأكراد كانوا يهدفون بهذه الأعمال الفوضوية غير المسؤولة دفع تركيا إلى مواجهة داعش للحيلولة دون سقوط مدينة عين العرب بيدها؛ وتجنباً لوقوع مجازر مفترضة، قد ترتكبها داعش بحق سكانها الذين في غالبيتهم من الأكراد. أما الهدف الحقيقي الذي لم يستوعبه الإخوة الأكراد فهو جر تركيا إلى المستنقع السوري ومواجهة داعش بذريعة "محاربة الإرهاب" الذي جيشت له أمريكا تحالفاً دولياً ضم أكثر من أربعين دولة.
الحكومة التركية كانت تعي الدوافع الحقيقية من وراء جرها إلى هذا المستنقع الذي تخشى أمريكا والغرب الاقتراب منه؛ خوفاً على جنودها مما قد ينتظرهم في مثل هذه الحرب؛ التي خبروها وذاقوا مرارتها في أفغانستان والعراق، ويريدون من تركيا أن تضحي بفلذات أكبادها في حرب لا ناقة لها فيها ولا جمل.
وحتى لا يقال: إن تركيا ترفض مكافحة الإرهاب ومشاركة التحالف الدولي في مواجهته وضعت الحكومة التركية شروطاً للدخول في هذه الحرب، وهذه الشروط تتلخص في:
1-غطاء دولي لشرعية التدخل في سورية 2- إيجاد منطقة عازلة داخل الأراضي السورية 3-فرض حظر جوي في الشمال السوري، حماية لأمنها وحدودها مع سورية التي تمتد لنحو ألف كيلو متر 3- توقف الأكراد عن المطالبة بإقامة حكم ذاتي للأكراد في سورية، والشرط الأخير هو معاملة النظام السوري كمعاملة داعش نظاماً إرهابياً يجب ضربه وإزالته لأنه هو السبب في كل الذي وصلت إليه سورية والمنطقة.
أمريكا والغرب رفضوا حتى الساعة قبول الشروط التركية بحجة أن داعش تهدد العالم وعليهم معالجة أمرها ومن ثم التفكير بالنظام السوري الذي إن سقط الآن فسيترك فراغاً قد تملؤه الحركات الإرهابية والمتطرفة، وهذا الكلام لم يقنع تركيا ولم يقنع السوريين الذين تسفك دماؤهم منذ أكثر من ثلاث سنوات، ولأن النظام السوري هو مفبرك كل هذه الحركات الإرهابية أو مشارك في تصنيعها.
أمريكا والغرب ومن انضم إليهم يركزون في إعلامهم على ما يجري في "عين العرب" كحدث أولي في جميع نشرات الأخبار، وتصوير الحدث على أنه "مأساة العصر" وتناسي ما يجري في مجمل الأراضي السورية من فظائع وجرائم وتدمير على يد بشار الأسد نمرود الشام وجزارها منذ ما يزيد على ثلاث سنوات، خلفت أكثر من ربع مليون قتيل ومثلهم من المفقودين في سجون ومعتقلات النظام السوري، وتهجير أكثر من خمسة ملايين سوري إلى خارج الوطن، من بينهم مليون ونصف قصدوا تركيا التي فتحت لهم صدرها الدافئ متحملة بأريحية وشهامة هذا العبء الكبير، إضافة إلى نزوح أكثر من عشرة ملايين سوري داخل الوطن هائمين على وجوههم يبحثون عن الأمن والأمان الذي بات عزيزاً في سورية، ورافق كل ذلك تدمير ممنهج للمدن والبلدات والقرى التي تمكن من تحريرها الثوار السوريون من قبضة النظام الهمجي والسادي.
الإعلام الغربي يُركّز فقط على معركة "عين العرب" ويذرف عليها
دموع التماسيح للضغط على تركيا لجرّها لمستنقع الحرب في سورية، كما تم تأجيج
التظاهرات لبعض الأحزاب الكردية داخل تركيا بقصد الضغط على تركيا لنفس السبب أيضاً،
الأمريكان يريدون من تركيا تدخلاً عسكرياً بريّاً على الشريط الحدودي داخل سورية
والتضحية بالجنود الأتراك ليكونوا وقوداً لهذه الحرب القذرة لتجنيب الجنود
الأمريكان مثل هذه الحرب غير المضمونة. وبالتالي سيدفع ذلك إلى إذكاء الأحقاد وتفشي
عمليات الانتقام بين الأعراق والطوائف والأديان والمذاهب، وزعزعة الاقتصاد التركي
الذي هو صمام الأمان للاستقرار الداخلي.
من هنا أناشد الإخوة الأكراد الذين عاشوا في هذه البلاد قروناً طويلة كجزء أساسي من نسيج هذا البلد الجميل، الذي حباه الله بالخيرات المتعددة وبالأمن والأمان والنمو والازدهار؛ وهو ما تفتقده الكثير من دول الجوار، ولعل سورية هي المثال الحي الماثل أمامنا؛ التي أحالها نمرود الشام إلى مستنقع آسن وخرائب ومقابر وحروب ومنازعات، فلا تجعلوا من تركيا.. هذا البلد الديمقراطي الرائع المستقر، الذي بات على درجة كبيرة من النمو والحضارة والازدهار؛ أن ينخرط فيما آلت إليه سورية والعراق وليبيا واليمن ومصر، وجنبوه مثل ما حل في تلك البلدان من ويلات وإحن وخراب؛ وما سال فيها من دماء؛ وما زهق فيها من أرواح، وتمثلوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الفتنة نائمة لعن الله موقظها" وقوله صلى الله عليه وسلم: "سَتَكُـونُ فِتنٌ؛ القَاعِدُ فِيها خَيْرٌ مِنْ القَائِمِ، والقَائِمُ فِيها خَيْرٌ مِنْ المَاشِي، والمَاشِي فِيها خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي، مَنْ تَشَرَّفَ لهَـا تَسْتَشْرِفهُ، فَمَنْ وَجَدَ فِيهَا مَلْجَـأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ".