حمداً لله على سلامتك يا ريس
حسام مقلد *
في حياة كل إنسان لحظات خاصة جداً وحاسمة للغاية؛ لأنها تحدد مصيره في الدنيا وفي الآخرة؛ لما سيترتب عليها من نتائج خطيرة تمسه وتمس من حوله، وتزداد أهمية هذه اللحظات كلما زادت أهمية الموقع الذي يشغله الإنسان، واتسعت دوائر تأثيره في الآخرين... وفي هذه اللحظات يخلو الإنسان لنفسه، وتتكثَّف داخله المشاعر والأحاسيس بدرجة هائلة، وربما يصل المرء إلى حالة مذهلة من الاستبصار الداخلي لِذاته وللحياة والكون من حوله، في هذه اللحظات النادرة، وقبل أن تتبدد تلك الطاقة الإنسانية العارمة التي تولَّدت بفعل ظروف وعوامل متداخلة ومعقدة بشكل كبير ينبغي للمرء أن يراجع نفسه، ويستعيد شريط ذكرياته، ويتأمل واقعه جيدا، وعندئذ تحين لحظة الحقيقة، ومن ثمَّ لحظة الاختيار الصعب أو القاسي أو المر... سمِّها ما شئت لكنها لحظة حاسمة في حياة الفرد والجماعة، ولا بد من اجتيازها بنجاح!!
من هذه اللحظات لحظة الشفاء من مرض خطير، أو داء عُضَال ألَمَّ بالإنسان، أو لحظة موت حزينة ووداع صامت لحبيب مقرب، إنها لحظات انكسار القلب، ولوعة الفؤاد، وتألم الوجدان... وقد جاء في أثر من قبلنا من الأمم أن رجلا قال: يا رب أين أجدك؟! فقال الله تعالى:"عند المنكسرة قلوبهم من أجلي" ومن أجل هذا كان "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" كما في الحديث الشريف الذي رواه أحمد ومسلم وأبو داود ؛ وذلك لأن السجود مقام ذل وانكسار بين يدي الله تبارك وتعالى، ولعله المقام الوحيد الذي يدرك فيه كل إنسان حقيقة كونه مخلوقا ضعيفا يحتاج رحمة ربه عز وجل!!
والحقيقة أنني أتمنى لو استطعت مقابلة فخامة الرئيس محمد حسني مبارك؛ لأقول له: "حمداً لله على سلامتك يا ريس" لا بأس طهور إن شاء الله، شفاك الله وعافاك، وأطال الله في عمرك على طاعته، وأبقاك ذخراً لمصر وأهلها، ولأمتنا الكبيرة، لكن سيادة الرئيس هل تسمح لي بكلمتين؟ وإذا وافق ـ وهذا ظني به ـ فسأقول له:
سيدي الرئيس أنا شاب وُلِدت في عهد الرئيس السابق أنور السادات ـ رحمه الله ـ لكنني كغيري من الشباب لا أتذكر هذا العهد لصغر سني آنذاك، ففي الواقع إذن أنا ابن عهدكم فخامة الرئيس، واسمحوا لي أن أحدثكم باختصار فيما يلي:
· سيدي الرئيس: أسمع ممن عاشوا الخمسينات والستينات والسبعينات أن مصر اليوم شهدت تطورا ملحوظا في مجال العمارة والبناء، وأن مظاهر الرقي والتحديث لا تخطئها عين في كل المجالات، ولابد أن نشير إلى ذلك من باب الإنصاف والموضوعية، وعدم غمط الناس حقوقهم كما يعلمنا الإسلام، لكن جميع الخبراء والباحثين ـ تقريبا ـ يؤكدون على تقلص الطبقة الوسطى وتآكلها في مصر خلال العقود الثلاثة الأخيرة، ويؤكدون كذلك اتساع طبقة الفقراء والمسحوقين عاما بعد عام، في مقابل شريحة محدودة جدا هي التي تجني ثمرات التنمية التي شهدتها مصر، فأين العدالة الاجتماعية؟ وأين التوزيع العادل لثروة البلاد؟!
· سيدي الرئيس: كنت أنا وغيري من شباب مصر الذين تقترب أعمارهم من الأربعين الآن، فما دون ذلك (وهم بالملايين طبعا) فئران تجارب لوزراء التعليم، فكل وزير كان يجرِّب فينا تجاربه بصورة ارتجالية مضطربة وعشوائية(وأستدل على ذلك بكلام معالي الدكتور أحمد فتحي سرور رئيس مجلس الشعب قبل أيام، وهو نفسه كان وزيرا للتعليم) والنتيجة فخامة الرئيس تدني مستويات مخرجات التعليم المصري بصورة لم يسبق لها مثيل (وأتمنى الرجوع للمصادر الحكومية الرسمية ذاتها للتأكد من ذلك) فإلى متى يستمر هذا المسلسل المؤلم؟ وما هي مصلحة مصر في تسطيح الوعي لدى أبنائها بهذا الشكل المخيف رغم أنهم رأسمالها الحقيقي وعُدتها الأولى لمواجهة المستقبل...؟!!
· سيدي الرئيس: أنا وغيري من الغالبية الساحقة من أبناء مصر المحروسة التي كانت سلة غذاء الإمبراطورية الرومانية قرونا عديدة نقف صفوفا طويلة وطوابير لا نهاية لها للحصول على رغيف خبز، أو اسطوانة غاز، أو تذكرة مواصلات... وغير ذلك من أساسيات الحياة، فلِمَ كل هذه المعاناة؟ (ونقول: معذرة لمن يتعللون بكثرة العدد، فعددنا لا يعد شيئا إلى جوار الصين والهند واليابان أو حتى البرازيل ... وكلها دول متقدمة تقنيا، واقتصادياتها الحديثة متينة جدا، وأقلها نمواً أفضل منا بمراحل).
· سيدي الرئيس: أنا وغيري من الغالبية الساحقة من أبناء مصر المحروسة نعاني من أمراض كثيرة ومتنوعة في الكبد والطحال والكلى والمرارة والقلب... بسبب أكل المنتجات الزراعية المسرطنة، أو تناول الخضراوات التي تُروى بمياه الصرف الصحي( واسألوا التقارير الحكومية تخبركم عن كل هذا بالتفصيل) فَلِمَ يحدث ذلك؟ ولمصلحة من إنتاج أجيال هزيلة ضعيفة تنخر فيها الأمراض والأوجاع بهذا الشكل المفرط الذي تجاوز كل الحدود؟ ولماذا نتعاون مع إسرائيل في هذا المجال الحيوي المهم فضلا عن غيره من المجالات؟!!
· سيدي الرئيس: أنا وجميع أبناء مصر المحروسة تقريبا يتضاءل فينا الأمل في الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي ...، وأقول يتضاءل ويخبو شيئا فشيئا ولا أقول (فقدنا) لأننا ولله الحمد شعب مؤمن ولا نعرف اليأس فـ" إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ " [يوسف : 87] وسبب ذلك أننا نرى الفساد يستشري ويتعملق ويتغول ويتوحش ويكاد يفترس الجميع!! (واسألوا منظمات الشفافية الدولية لتعرفوا حجم الفساد في مصر وبر مصر... !!) فلمصلحة من توصيل الشباب لهذه الحالة من التأزم والضيق وعدم الانتماء؟!!( واسألوا خفر السواحل لتعرفوا على وجه الدقة عدد الشباب المصري الذين ماتوا بحثا عن فرصة للهجرة خارج مصر).
· سيدي الرئيس: أنا وجميع أبناء مصر المحروسة نلمس شدة فساد المنظومة الإعلامية المصرية الرسمية والخاصة، وتقديمها لبرامج وأفلام ومسلسلات ومواد إعلامية غزيرة أقل ما توصف به أنها تحرض على الإباحية والانحلال وتروج للعري والتفسخ...!! فلمصلحة من يحدث كل هذا في بلد متدين؟ (انظروا إلى حجم الجرائم والفساد الأخلاقي، لتعرفوا بشاعة ما يجري وأثره الخطير في تدمير قيم المجتمع...!! واسألوا معالي الدكتور زكريا عزمي الذي اعترض بنفسه على فساد المنظومة الإعلامية المصرية الرسمية والخاصة، في مجلس الشعب المصري بعد الموسم الإعلامي لرمضان 1430هـ /2009م، وأبدى امتعاضه وانزعاجه الشديد من هبوط وتدني وإسفاف محتوى ومضمون كثير من المواد الإعلامية التي قدمها التليفزيون المصري الرسمي خلال هذا الموسم!!!).
· سيدي الرئيس: أنا وجميع أبناء مصر المحروسة نعرف حقيقة ما يجري في الانتخابات المصرية على كل المستويات بدءا من انتخابات الاتحادات الطلابية حتى انتخابات مجلس الشعب...!! فلماذا تنفق الأموال الطائلة على مثل هذه الانتخابات الشكلية؟ وإذا كانت العملية مجرد ديكور فَلِمَ الإصرار عليها؟! والله العظيم أنا أتساءل هنا بكل جدية وليس لمناكفات سياسية فلست مرشحا لأية انتخابات، أليس من الأجدى أن تنفق الملايين التي تهدر في مواسم الانتخابات على توفير فرص عمل للشباب، أو بناء مدارس ومستشفيات، أو رعاية الفقراء واليتامى والأرامل والمساكين، أو تزويج آلاف الشباب والفتيات؟! وكيف توصف انتخاباتنا بأنها نزيهة والعالم كله يرى على الهواء مباشرة في بث حي مباشر من جميع أنحاء الجمهورية عمليات التضييق والمنع والترهيب التي تحصل للناخبين؟ وهل سينسى العالم الصورة الشهيرة لنسوة مصريات شريفات عفيفات يضربن أو يسحلن، أو يدخلن مقار لجان الانتخابات عبر النوافذ بعد تسلقهن للسلالم الخشبية التي ربما انقرضت في أنحاء مختلفة من العالم؟!!!
· سيدي الرئيس: أنا وجميع أبناء مصر المحروسة نرى بيع القطاع العام بأسعار زهيدة للغاية لا تساوي القيمة السوقية لحظة البيع (واسألوا خبراء الاقتصاد الوطنيون) ونشاهد بيع الغاز المصري للعدو الذي دنس مقدساتنا، وقتل أبناءنا وأسرانا، ولا يزال يقتل إخواننا ويذل كرامتهم، ويرفض سلامنا ويخرج لنا لسانه قائلا: لن أسالمكم، وسأحتل عقولكم قبل احتلال أراضيكم... فلِمَ نرضى بهذا الذل وهذا الهوان؟!
· سيدي الرئيس: أنا وجميع أبناء مصر المحروسة نرى ما يحدث في قطاع غزة الباسل رمز العزة وبشير النصر بإذن الله تعالى، ونتألم كثيرا لما يجري، ولا نصدق أبدا أنكم ستسمحون بتجويع أهلنا في غزة من أبناء الشعب الفلسطيني، لكن ما تتناقله وسائل الإعلام العربية والدولية من مأساة هذا الشعب البطل الأبي يدمي قلوبنا، وأنباء السور الفولاذي والجدار العازل بين مصر وغزة تُشعرنا بالخجل والعار، فمصر طوال عمرها هي الملاذ والملجأ لجميع أشقائها... ألم يلجأ أخوة يوسف إلى مصر لما حلت المجاعة بهم؟! ألم تكن مصر على مر التاريخ الأم الرؤوم والأخت الرحيمة والسند الداعم لكل من قصدها لائذا مستغيثا؟! فهل تسمحون سيدي الرئيس بتغيير كل ذلك لأسباب طارئة وظروف استثنائية لن تدوم؟! سيدي الرئيس: أنا في هذه الجزئية لا أتكلم من واقع العاطفة، بل أتكلم بكل برجماتية من منطلق الحرص على مصر وسمعة مصر؛ حتى لا يذكر التاريخ أنها خنعت يوما ما وطأطأت رأسها، ووضعت خدها تحت حذاء عدوها الصهيوني واستسلمت له؛ كي يطأ هامتها ويستذلها ويستبيح حرماتها وحرمات شعبها وأمتها، سيدي الرئيس: كلي ثقة في حكمتكم وأنكم ستوقفون هذه المهزلة في الوقت المناسب اليوم قبل غدا، كلي ثقة أنكم لن تدعوا مرحلة استثنائية وستزول حتما بإذن الله تعالى تسيطر علينا وتتحكم في قراراتنا المصيرية، سيدي الرئيس: أعلم تمام العلم حرصكم على الأمن القومي المصري وعلى مصلحة أبنائكم أبناء مصر، وأؤكد لكم سيدي الرئيس: أن دعمنا لأشقائنا في غزة من صميم الأمن القومي المصري، فضلا عن كونه من صميم الكرامة والعزة المصرية التي سجلها التاريخ، وسيكون التفريط في هذا الجانب لأية أسباب مهما كانت طعنة قاسية لمصر وانتقاصا من قامتها العالية ومكانتها التاريخية الخالدة... وتصوروا معي كيف سيكون شعور المصريين بعد قرن أو قرنين مثلا ـ إن أراد الله تعالى ـ وهم يقرؤون أن أجدادهم وعددهم كان يناهز المئة مليون مصري في منتصف القرن الخامس عشر الهجري / بدايات القرن الواحد والعشرين الميلادي خافوا من بضعة ملايين يهودي كانوا يحتلون فلسطين، فشاركوا في حصار مليون ونصف مليون فلسطيني في غزة بجدار فولاذي يمتد ثلاثين مترا تحت الأرض ويرتفع مثلها فوق الأرض، وأنهم رضوا بشن اليهود حروبا مروعة ومجازر بشعة ضد أخوتهم الفلسطينيين العزل الأبرياء؛ لمجرد خلاف سياسي مع فصيل هنا أو فصيل هناك، أو خوفا من تهديدات اليهود المستمرة لمصر وشعب مصر...!!!!!!!!!
سيدي الرئيس لن أثقل عليكم أكثر من ذلك، لكنني فقط أدعوكم إلى جلسة هادئة مع الذات، ومراجعة شاملة لشريط الذكريات، ونظرة عميقة إلى مستقبل الملايين من أبنائكم وأبناء أمتكم... ألا يستحق هؤلاء حياة كريمة؟! ألا يستحق هؤلاء مستقبلا أفضل؟! ألا يستحق هؤلاء أن يعيشوا بسلام على أرضهم مرفوعي الهامة؟ أم أن السلام لابد أن يكون مغموسا بطعم الذل والمهانة والاستسلام؟! أليس من حق هؤلاء سيدي الرئيس أن يمتلئوا أملا وتفاؤلا بمستقبل أفضل لهم ولأولادهم؟! لماذا سيدي الرئيس لا تحميهم ممن يغتال أحلامهم؟! لماذا سيدي الرئيس تدعهم يحرموننا البسمة الصادقة والأمل المشرق؟! سيدي الرئيس ليتك تمنحنا هذه الفرصة الأخيرة لنكون شعبا حرا أبيا كريما يعيش عزيزا ويموت عزيزا، لا يموت غرقا في أعماق المتوسط على أعتاب أوربا بحثا عن رغيف خبز أطعمته مصر قرونا طويلة لشعوب العالم دون منة منها أو إذلال لأحد!! وألف حمد لله على سلامتك يا ريس.
* كاتب إسلامي مصري