جريمة قتل قابيل لهابيل لا تزال مستمرة
محمد فاروق الإمام
[email protected]
عرض الله سبحانه وتعالى قصة قابيل وهابيل في القرآن الكريم في
سورة المائدة، وهي الجريمة الأولى التي عرفتها البشرية (القتل)، وهي
جريمة كل عصر منذ أن بدأت في ذلك العهد السحيق وحتى يومنا هذا، فلا يكاد يخلو منها
بلد، ولا تكاد تمر فترة إلا ونصدم بمثل هذه الفاجعة؛ أخ يقتل أخاه سواء كان أخوة في
الدم أو الوطن.
يقول
المولى تبارك وتعالى في عرض هذه القصة: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ
بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ
يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ
مِنَ الْمُتَّقِينَ*لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ
بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ*
إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ
النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ* فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ
أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ* فَبَعَثَ اللّهُ غُرَاباً
يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا
وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ
أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ). (المائدة: 2731).
جاءت هذه القصة في القرآن الكريم لتكشف عن بشاعة الجريمة وفجورها، وهي تقدم أنموذجا
لطبيعة الشر والعدوان، بل إن صح
التعبير هي نوع من العدوان الصارخ الذي لا مبرر له كما تقدم، وترسم في الوقت نفسه
الجريمة المنكرة التي يرتكبها الشر والعدوان الصارخ الذي يثير الضمير الإنساني.
يقول المفسرون إن هذه الآيات جاءت في أعقاب حديث طويل عن رذائل بني
إسرائيل مع موسى عليه السلام، الذين امتنعوا عن طاعته وقالوا له بكل وقاحة وسوء أدب
(فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)، فتأتي هذه
الآيات وما بعدها تخفيفا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصابه من قومه، مؤكدة
أن الذين يخالفون أنبياءهم إنما يسلكون الطريق نفسه الذي سلكه قابيل في عدوانه على
أخيه هابيل.
وملخص القصة – كما روى المفسرون وأصحاب السير – أن آدم عليه السلام كان
يزوج ذكر كل بطن بأنثى الآخر، وأن هابيل أراد أن يتزوج بأخت قابيل، وكان أكبر من
هابيل وأخت هابيل أحسن، فأراد قابيل أن يستأثر بها على أخيه، وأمره آدم عليه السلام
أن يزوجه إياها فأبى، فأمرهما أن يقربا قرباناً، فقرب هابيل جذعة سمينة، وكان صاحب
غنم، وقرب قابيل حزمة من زرع من رديء زرعه، فنزلت نار فأكلت قربان هابيل وتركت
قربان قابيل، فغضب قابيل حسداً من أخيه هابيل وقال له: لأقتلنك حتى لا تنكح أختي.
فقال هابيل: إنما يتقبل الله من المتقين، وكان آدم مباشرا لتقريبهما القربان
والتقبل من هابيل دون قابيل، فقال
قابيل لآدم: إنما تقبل منه لأنك دعوت له ولم تدع لي، وتوعد أخاه فيما بينه وبين
نفسه، فلما كان ذات ليلة أبطأ هابيل في الرعي، فبعث آدم أخاه قابيل لينظر ما أبطأ
به، فلما ذهب إذ هو به، فقال له: تقبل منك ولم يتقبل مني، فقال: إنما يتقبل الله من
المتقين، فغضب قابيل عندها وضربه بحديدة كانت معه فقتله، وقيل: إنما قتله بصخره
رماها على رأسه وهو نائم فشدخته، وقيل: بل خنقه خنقاً شديداً وعضه كما تفعل السباع،
فمات.
هذا هو مجمل القصة التي أوردتها
الآيات الكريمة، وهي تدل على ما بين الأخوين من فارق أخلاقي واضح، يؤكده قول هابيل
التقي:
)إنما
يتقبل الله من المتقين)، أي إن الله
تعالى يتقبل الطاعات والصدقات من عباده المتقين الذين يخشونه في السر والعلن، بل إن
هابيل انتقل من وعظ أخيه بتطهير قلبه إلى تذكيره بما تقتضيه وشائج الأخوة بينهما من
علاقة سمحة، فقال له: (لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ
بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ)، وحجة هابيل في ذلك قوله: (إِنِّي أَخَافُ
اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)، ولم يكتف هابيل بكل ما قاله لأخيه ليردعه عن جريمته،
واستمر في وعظه، محذراً إياه من المصير المظلم الذي ينتظره إذا صمم على رأيه،
بقوله: (إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ
النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ) لأن ذلك هو العقاب الإلهي العادل الذي
يستحقه الظالمون الذين ظلموا أنفسهم وظلموا غيرهم أيضاً.
والغريب في الأمر
أنه رغم كل هذه التحذيرات وتلك النصائح، لم يرتدع قابيل عما انتواه بل صمم على
ارتكاب الجريمة النكراء، وهو ما يصوره قوله تعالى: (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ
قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، نعم سولت له نفسه
الأمارة بالسوء تلك الكارثة، وشجعته على القتل، ليصبح من الخاسرين في الدنيا بفقد
أخيه وفي الآخرة بتلقي عذاب الله الأليم في نار جهنم والعياذ بالله.
لكن
الأمر لم ينته عند هذا الحد، فبعد أن فعل قابيل فعلته، لم يدر ماذا يفعل بجثة
القتيل، لأنها المرة الأولى التي يقتل فيها إنسان، والمرة الأولى أيضاً التي يتم
فيها دفن واحد من البشر، فما كان من المولى عز وجل برحمته الواسعة إلا أن:
(فَبَعَثَ اللّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي
سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا
الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ)، نعم أرسل
الله له الغراب يحفر وينبش في الأرض بمنقاره ورجليه ليعلمه كيف يدفن جثة أخيه الذي
قتله بعد أن أصبح عرضة للتعفن والتحلل.
هنا، وهنا فقط، شعر قابيل بالحسرة
والندم، لأنه لم يصل إلى ما فعله الغراب واهتدى إليه.
ولهذه القصة دلالات لعل من أهمها (رذيلة الحسد)، و(رذيلة الأنانية)، و(رذيلة
الاستئثار)و(رذيلة الطمع والجشع) و(رذيلة الاستكبار والاستعلاء) و(رذيلة الاستبداد
والبغي والتسلط)، وكم في مجتمعاتنا العربية والإسلامية من يحمل في جوفه مثل هذه
الرذائل، التي تمكنت في نفسه حتى أعمت بصيرته، فلم يعد يرى إلا نفسه دون العالمين
ظلماً وعلوا، فيقصي وينفي ويبعد شركاءه في الوطن، أو يرمي بهم في غياهب السجون
والمعتقلات!!