هذه الفدراليات إلى أين
إبراهيم النعمة
يقف المتأمل في اوضاع العراق حائراً امام ظاهرة الدعوة الى (الفدرالية). فبعد أن كان كثير من الاكراد في شمال عراقنا الحبيب ينادون بها، وإذ بالدعوة نفسها تنطلق من اناسٍ في جنوب العراق بعد ذلك. بيد أن الفارق بين دعوة كثير من الاكراد في الشمال ودعوة بعض من الناس في الجنوب أن الاحزاب في شمال العراق وعدداً ليس بالقليل من الناس تنادي بالفدرالية، ولا ندري ان الناس هناك مقتنعون بها ام أن ضغط الاحزاب السياسيةِ الحاكمة هو الذي يحملهم على هذه الدعوة. وأما في جنوب العراق فإن من يدعو الى الفدرالية ليس بالعدد الكثير اولاً، وان معارضتها قائمة على قدم وساق ثانيا، وأنهم منقسمون في نوعية الفدرالية التي يريدون الحصول عليها: فهناك من يدعو الى فدرالية المحافظة الواحدة أي أن تحصل كل محافظة على فدرالية مستقلة، وهناك من يدعو الى أن تشكِّل كل ثلاث محافظات فدرالية، وهناك من يدعو الى ان تكون المنطقة الجنوبية كلها فدرالية واحدة. وترتفع اصوات الناس هنا وهناك: فهذا يؤيد هذا اللون من الفدرالية وذاك يؤيد اللون الاخر، وتقف اعداد ليست بالقليلة من الناس والجبهات تعارض هذه الفدراليات وتعتبرها لوناً من الوان تقسيم العراق، فإن لم تكن تقسيماً صريحا واضحاً فلا اقل من ان تكون خطوة من خطوات التقسيم. ويقيم هؤلاء المعارضون للفدرالية أدلتهم على الضرر الكبير الذي ينال العراق إن تحققت هنا او هناك، ويأتون بالوثائق الكثيرة من تصريحات اليهود ودهاقنة الغرب على حرصهم على تفتيت العراق وتمزيقه؛ لان تلك كانت امنية من اعز الاماني التي يحرصون عليها. وإن ينس الناس شيئا فلن ينسوا تصريح (ناحوم كولدمان) رئيس المؤتمر اليهودي العالمي فقد صرح في باريس لجمع من الصحفيين قائلاً:
(إذا اردنا لاسرائيل البقاء والاستمرار، فعلينا ان نساهم في تمزيق الوطن العربي الى دويلات طائفية وعنصرية يكون لإسرائيل منها الدور القيادي والطليعي: دويلة درزية على الحدود السورية الاسرائيلية، ودويلة مارونية في لبنان، ودويلة كردية في شمال العراق، ([1]).
هذا مايتعلق في تلك الحقبة من الزمن، وقد كان وضع البلاد العربية والاسلامية أحسن حالاً من وضعها في وقتنا هذا، وأما الان، فيرون أن الوقت قد حان لتمزيق العراق أولاً وتمزيق البلاد العربية والاسلامية بعد ذلك؛ إذ السياسة ليس لها خط مستقيم واحد تسيرُ عليه، بل هي متغيرةٌ وفق تغير اوضاع البلاد.
وإذا كان هؤلاء قد بدأوا بالعراق الان، فإن باقي البلاد العربية على الطريق (والحبل على الجرار) كما يقولون. وقد يعجب القارئ إذا قلت: إن هناك من الناس من تنبأ بهذا التقسيم في العشرينيات من القرن العشرين. فهذا الشاعر محمد مهدي الجواهري قال هذه القصيدة سنة 1929 في فلسطين الجريحة إثر الحوادث الدامية بين العرب والانكليز ومطلعها:
فاضت جروح فلسطين مذكرةً سـيـلحقون فلسطيناً بأندلسٍ ويـسـلـبونك بغداداً وجلِّقةً | جـرحـا بأندلسٍ للآن ويعطفون عليها البيت والحرما ويعطفون عليها البيت والحرما | ماالتاما
ويتركونك لا لحما ولا وضما
وما تنبأ به الجواهري سنة 1929 قد تحقق في فلسطين بعد ذلك، ويتحقق الان في العراق، والمؤآمرات مستمرة على جلِّقَةٍ التي هي دمشق. وقى الله دمشق مما نسج لها من مؤامرات في الليالي الليلاء.
علق الفيلسوف الفرنسي المسلم (روجيه غارودي) على مقال للمنظمة العالمية الصهيونية بالقدس، نشرتها مجلة (كيفونيم) الاسرائيلية وفيها تبيان للاستراتيجية الاسرائيلية في الثمانينات فقال غارودي:
(.. في هذا النص كشف واضح للأساليب التي تنوي اسرائيل اتباعها من أجل التدخل المنظم والعام ضد أنظمة الحكم في جميع البلدان العربية بغية تفكيكها وتفتيتها مما يتجاوز نطاق كل الاعتداءات السابقة. ومشروع بمثل هذه الضخامة تؤيده الولايات المتحدة الامريكية تأييداً غير مشروط وغير محدود…)([2])
وقال وهو يتحدث على مقال المنظمة العالمية الصهيونية بالقدس فيما يتعلق بمصر:
(.. يجب ان يكون هدفنا هو تقسيمها الى اقاليم جغرافية متباينة… فإذا ما تمت تجزئة مصر، وإذا فقدت سلطتها المركزية فلن تلبث بلدان مثل ليبيا والسودان وبلدان اخرى أبعد من ذلك ان يصيبها التحلل، وتشكيل حكومة قبطية في مصر العليا، وإقامة كيانات صغيرة اقليمية هو مفتاح تطور تاريخ يؤخره حاليا اتفاق السلام، ولكنه تطور آتٍٍ لا محالة على الامد الطويل… وتقسيم لبنان الى خمسة اقاليم… يوضح ما يجب ان ينفذ في البلدان العربية)([3])
وجاء في تعليق الفيلسوف الفرنسي غارودي-ايضا-:
(وتفتيت العراق وسوريا الى مناطق تحدد على اساس عنصري او ديني يجب ان يكون هدفا ذا اولوية بالنسبة لنا على الامدِ الطويل، وأول خطوة لتحقيق ذلك هو تدمير القوة العسكرية لتلك الدول…اما العراق فهو دولة غنية بالبترول، وفريسة لصراعات داخلية، وسيكون تفككها اهم بالنسبة لنا من تحلل سوريا؛ لان العراق يمثل على الامد القصير اخطر تهديد لاسرائيل…)([4])
ولا ادري بعد ذلك كله هل ينتبه المخلصون الى ما يراد بالعراق وبالبلاد العربية فيميطوا اللثام عن وجوه الذين يسيرون في المشروع الانكلو امريكي الذي يريد تقسيم العراق تحت مسمى الفدرالية، ام يظلُ هؤلاء يجاملون هذا وذاك على حساب مستقبل البلاد؟
ونعود الى الحديث في الفدرالية فأقول: لا نريد ان نجرد الشعب الكردي ولا مناطق جنوب العراق من الحقوق السياسية فتلك حقوق طبيعية لهم على ان لا يؤول ذلك الى تقسيم العراق مستقبلاً.
إن المعروف عن الفدرالية أنها تتكون من دولتين مستقلتين فأكثر، فيتم الاتحاد بينها لتحقيق المصالح التي يبغونها وتكون الحكومة المركزية هي الشخصية الدولية، والسيادة الخارجية لا تكون الا للحكومة المركزية. ويشترط في الدولتين او الدول التي تتحد في الفدرالية أن لا يقوم ذلك الاتحاد على اساس عرقي او طائفي؛ ذلك لان قيام الدولة على العرقية او الطائفية يؤول الى الانفصال مستقبلاً. ولا ريب ان الاتحاد المذكور يؤدي إلى قوة الدولتين او الدول في المجالات العلمية والحضارية والاقتصادية والسياسية والحربية وغير ذلك. وهذا الذي ذكرناه لا ينطبق على الفدرالية التي ينادى بها في شمال العراق وجنوبه؛ ذلك أن الدولتين اللتين تتحدان كل منهما مستقلة فلا تتكون الفدرالية إذن من دولة ومنطقة تابعة لها بحجة ان هذه المنطقة أو تلك تتكون من قومية واحدة أو مذهب واحد.
ونحن حين ننظر الى منطقة شمال العراق نرى ان الناس فيها يسافرون بجوازات سفر عراقية، أما العملة التي يتداولونها فهي العملة العراقية ايضا، ومن حق اي فرد كان من أيةِ محافظة كانت أن يسافر الى هذه المحافظة او تلك بلا جواز سفر. وهكذا يبدو واضحا ان الفدرالية التي ينادى بها في العراق الآن انما هي لون من الوان تقسيم الحكومة المركزية الى حكومات متعددة، ثم الاندماج في حكومة عامة.
ولا بد لنا ان نشير هنا الى ان وضع التركيبة السكانية في العراق يختلف عن اوضاع اكثر دول العالم وذلك لكثرة القوميات والديانات فيه. فلو قامت كل اقلية عرقية اوطائفية بتشكيل دولة مستقلة لها لتحول العراق الى قبائل كالقبائل العربية في العصر الجاهلي.
بين فدرالية العراق والامارات العربية المتحدة
قد يقول قائل: لقد نجحت تجربة الامارات العربية المتحدة كل النجاح حين تجمعت فيما يشبه الفدرالية، فلماذا لا ينهج العراق النهج نفسه؟ اوَليست تجربة الامارات العربية كانت ولا تزال كذلك من التجارب الناجحة وهي تشبه تجربة الفدرالية.
والجواب عن ذلك: أن الفرق شاسع بين اتحاد الامارات والفدرالية التي ينادى لتحقيقها في العراق؛ ذلك أنّ كل إمارةٍ من الامارات قبل اتحادها مع غيرها كانت صغيرة بل بالغةً في الصغر في مساحتها وفي عدد سكانها فقد يصح أن يطلق عليها آنذاك مصطلح (المشيخات). وكانت كل مشيخة أو إمارةٍ تتناثر اجزاؤها هنا وهناك فقد كان وضع هذه الامارات شاذاً بحق، لكنها حين إتحدت قويت وتطورت من النواحي التعليمية والحضارية والاقتصادية والثقافية والسياسية والعسكرية…واتحاد هذه الامارات-فوق ذلك- تعتبر من الضروريات التي دعا اليها الاسلام حيث دعا الى الاتحاد والتوحد.
اما الفدرالية التي ينادى بها في العراق اليوم، فتختلف عن ذلك فإن العراق دولة واحدة يراد لها باسم الفدرالية ان تقسم الى اقاليم طائفية أو قومية، وتأتي الدعوة بعد التقسيم الى أن تتحد هذه الاقاليم. وكل من يتأمل بهذا الصنيع يرى انه خدمة لإسرائيل ولاعداء هذه الامة.
ولا بد لنا ان نكون صرحاء في كل ما نقول، فإن الفدرالية التي يراد عملها في العراق لم تنبع من مطالب غالبية الشعب العراقي، بل هي نتيجة ضغوط الدول المحتلة، ولا بد أن يدب الخلاف بين هذه الاقاليم فيستقل كل اقليم وحده، وقد تكون قبل ذلك أو بعده حروب أهلية تأكل الاخضر واليابس وتهلك الحرث والنسل، وها هي بوادر تلك الحرب ترفع برأسها هنا وهناك، وكل من يستمع الى نشرة من نشرات الاخبار يرى ذلك واضحاً.
ونحب ان نشير هنا الى ان الفدرالية تتناقض مع الشعار الذي يرفعه دعاتها من المحافظة على وحدة وسلامة الاراضي العراقية. فأيُّ وحدةٍ وأية سلامة للارض مع الفدرالية؟!.
وبعد:
فإن عالم اليوم يسير نحو التّوحد والاتحاد والتحالف، وكلنا نسمع باتحاد جنوب شرق اسيا، ومنظمة الوحدة الافريقية، وحلف شمال الاطلسي، والسوق الاوربية المشتركة وغير ذلك. ونحن المسلمين أولى من غيرنا في الوحدة والتّوحد فإن الله عزوجل دعانا الى ذلك فقال تعالى:
)واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا(
وحبل الله: هو الجماعة والاتحاد وعدم الفرقة.
فهل يعود دعاة الفدرالية الى رشدهم، ويقدموا مصلحة الامة ووحدة البلاد على كل شئ؟
([1])مجلة الاسبوع العربي عدد نيسان 1974
([2]) ملف اسرائيل- دراسة للصهيونية السياسية- تأليف روجيه غارودي ص160
([3]) ملف اسرائيل- دراسة للصهيونية السياسية- تأليف روجيه غارودي ص 163
([4]) ملف اسرائيل- دراسة للصهيونية السياسية- تأليف روجيه غارودي ص163