ماذا فعل حافظ الأسد
د.خالد الأحمد *
1
لاجدال في أن حافظ الأسد ظاهرة كبيرة جداً في التاريخ العربي والإسلامي ، ولاشك انه ترك بصمات شريرة وقاتلة على المنطقة العربية كلها ، مازالت بلاد الشام تـتنرنح من أثـر الضربات الموجعة التي ضربها حافظ الأسـد ، لذلك سوف أسلط الضوء على هذه الظاهرة ، مع بعض التحليل ، لأن معرفة الماضي شرط ضروري للتخطيط لأجل مستقبل مشرق ، وكي لا يعيد التاريخ نفسه ، عندما نكون سلبيين إلى أبعد الحدود . وهل تنفعنا هذه المعرفة !!؟ لماذا نشقى من أجلها !!!؟ وجوابي على ذلك أن حافظ الأسد شخص غير عادي ، في جسمه ، وفي عقله ، فقد أعطاه الله عزوجل قدرات جسدية وذهنية كبيرة ، وسيجعلها حجة عليه يوم القيامة لأنه لم يستخدم هذه القدرات في طاعة الله ، بل استخدمها في معصية الله وتنفيذ مخططات أعداء المسلمين في ضرب المسلمين وتمزيقهم ، واستخدمها في عبادة الذات . ومن دراسة حياة حافظ الأسد لاشك أننا سننبهر بإنجازاته الشخصية ، فقد ارتقى سلم المجد الدنيوي من ابن فلاح فقير في الجبل إلى رئيس بل ملك سوريا ، التي ورثها بعده لأولاده . ودراسة حياة هذه الشخصية تعرفنا بالنقص الكبير الذي اتسم بـه معاصروه ، الذين استطاع أن يضحك عليهم ، ويسخرهم لمصلحة مخططه الذي تفانى من أجله كي يضرب الحركة الاسلامية في بلاد الشام ،ويحقق ماطلبه أعداء الأمة، كل ذلك من أجل عبادة ذاتـه . وافد على القرداحـة : جده سليمان ، سليمان الوحش ، وقد منح هذا اللقب بعد أن تغلب على المصارع التركي ، ولم نعرف له لقباً قبل لقب الوحش الذي منحه إياه المتفرجون حول حلبة المصارعة.
(( باترك سيل ، الصراع على الشرق الأوسط . وكل معلومة في هذا البحث لايذكر مرجعها فإنها منقولة من هذا الكتاب ، أو من كتاب (فان دام ) الصراع على السلطة في سوريا ، لأن المادة الأساسية لهذا البحث هي خلاصة لكتاب باترك سيل ، وقد وضعت الهوامش ضمن المتن كي لاتضيع )) . وأستنتج من هذا الخبر أنه كان وافداً على المنطقة ، ولم يكن معروفاً لدى الجمهور ، لذلك لم يعرفوا له لقباً ، فلقبوه ب (الوحش ) لأنه كان قوي البنية جداً ، حتى غلب ذلك المصارع التركي الذي لم يكن يقهر قبل ذلك . وعجبي من (باترك سيل ) كيف فاته أن العرب يعتزون بأنسابهم ؛ فلم يذكر لنا سليمان مَن ، وابن مَن ..!!؟
ومن حياتي في الريف ، كنا نسمي الأجير الذي يفد إلى قريتنا من منطقة أخرى باسمه الأول ونناديه باسمه الأول فقط ، ولو بقي عدة سنوات في القرية ، وهذه خبرة اجتماعية يعرفها أبناء الريف ، ولو سئلنا عن اسم أبيه نقف حيارى ، لأن أحداً من القرية لايهمه معرفة اسم أبيـه وجده ،إذ لايخطر في ذهن أحد مصاهرته ... سكن سليمان الوحش عند مدخل القرداحة ، وكان معروفاً أنه ليس من أهل القرداحة ، وسميت أسـرته ببيت (الحَسَنَة ) أي الصدقة ، لأن أهل القرداحة كانوا يتصدقون عليهم ، لأنهم أفقر سكان القرية ، حيث لا أرض لهم ( هذه المعلومة قالتها لي الدكتورة سلمى بنت الشيخ عبدالرحمن الخير ، من كبار أسر القرداحة ، في الجزائر (1975م) . ( وكان سليمان رجلاً ذا قوة وبسالة خارقتين ، وقد أكسبته هاتان الصفتان في القرية مكانـة جعلته وأسرته في مصاف الأسـر القويـة البارزة ، وبمـرور الزمن أصبح يمارس السـلطة التي كسبها بقوتـه الجسديـة ، فصار ( وسـيطاً ) للمصالحـة بين المتخاصمين ( باترك سيل ، ص 14 ). . علي سـليمـان الأســد : ورث علي سليمان المولود عام (1875م) ؛ كثيراً من صفات أبيه ، فكان قوياً وشجاعاً ، واستمرت مكانته كوسيط لفض المنازعات ، وساعد اللاجئين الأرمن المعدمين الذين انتشروا إلى الجنوب بأعداد كبيرة عندما سلمت فرنسا اسكندرون لتركيا .
وصار عنده عدة حقول لأن الأرض يومذاك لمن يصلحها ، فيرفع الحجارة ويمهد سطحها ويزرعها ، وساعدته قوتـه الجسدية ، وساعده في ذلك أخوه (عزيز ) وأخواته ( جنينة ، وغالية ، وسعدى ) ، والمرأة في الريف السوري يومذاك تعمل كالرجل . تزوج علي سليمان مرتين أنجب من الأولى ثلاثة أولاد وبنتين ، ثم أنجب من الثانية خمسة أولاد وبنت واحدة . وكانت الثانية (ناعسة ) تصغره بعشرين عاماً .
واستطاع علي سليمان أن يتحول من فلاح بسيط إلى أحد الوجهاء ، وكافأه أهل القرداحة بأن طلبوا منه تغيير اللقب من الوحش إلى الأسـد في عام (1927) . كان علي سليمان الأسد من القلة المتعلمة (!!!) وكان مشتركاً في جريدة تصل إليه متأخرة عدة أيـام ، فكان الرجل الوحيد في القرداحة الذي تابع أخبار الحرب العالمية الثانية في مدها وجزرها محدداً بدقـة أماكن المعارك على خريطة جدارية (!!!) في الغرفة التي كان حافظ ينام فيها وهو صبي .
كان علي يحترم التعليم والكتب [ والعجب كذلك أن باترك سيل فاته أن يذكر أين تعلم علي سليمان الوحش ( الأسد ) ، وقد ذكر فيما بعد أن أول مدرسة ابتدائية افتتحت في القرداحة كان ذلك في الثلاثينات ، وبسبب ذلك حرم أولاد علي سليمان الثمانية الأول من التعليم ، أما حافظ فقد تأخر مدة سنتين حتى افتتحت المدرسة في القرداحة ، فكان يكبر أقرانه في الفصل في العمر لهذا السبب ، وهذا يؤكد أن علي سليمان لم يتعلم في القرداحة ، فأين تعلم إذن !!!؟ وهو ليس فقط يقرأ ويكتب ، بل يشترك في جريدة تصله في البريد إلى القرداحة ، كما أنه يحب الكتب ، وفي بيتـه خريطـة ، يشرح فيها لجلسائه تطورات الحرب العالمية الثانية ، ....!!!
وكنت أتمنى لو أن باترك سيل ، أو غيره من الباحثين يتمكن الآن من معرفة هذه الأجوبة ، وعجب مرة أخرى من باترك سيل كيف يستحمر عقول القراء ، فيذكر أن علي سليمان كان متعلماً ، ولايكلف نفسه عناء البحث عن المكان الذي تعلم فيه ، بل يذكر لنا أن أولاده الكبار حرموا من التعليم لأن القرداحة كانت خالية من أي مدرسة قبل الثلاثينات ، وأن حافظ نفسه دخل السنة الأولى في الثامنة أو التاسعة من عمره . وهكذا أضاف باترك سيل عدة أمور غامضة منها :
1 ـ ماهو لقب سليمان قبل أن يكون الوحش ، ومااسم والد سليمان وجده ..!!!؟؟؟
2 ـ أين تعلم علي سليمان الأسد!!!!؟؟ ؟
3 ـ من أين جاء سليمان إلى القرداحـة ، ومن المؤكد أنه ليس من أهل القرداحة ] . وصمم علي سليمان الأسد على أن يتيح لأبنائه الصغار فرصة التحصيل الثقافي ، إذ أن أولاده الثمانية الأول لم يحصلوا على أي تعليم يذكر لعدم وجوده في القرداحة يومذاك . حـافظ علي سـليمان الأسـد : ولد حافظ في (6 /11/1930) ، وهو الولد الرابع لأبيـه، (يروي ضابط متقاعد أنه كان له زميل في الكلية العسكرية ضابط يسمى ( غسان علي سليمان الأسد ) ، شقيق لحافظ الأسد ، وهو شبيه بحافظ بشكل كبير في جسمه ، ورآه ثانية عندما كان برتبة ( مقدم ) .. ولا أحد في سوريا يعرف هذا الشخص !!!!؟ أين هو !!! وماذا فعل !!! وهذا غموض آخر يضاف إلى عدة أمور غامضة سابقة) .
وحافظ الولد الثالث لأمـه ، وكان أبوه في الخامسة والخمسين من عمره ، أما أمـه فكانت في الخامسة والثلاثين ، وعاش حافظ في صخب عائلة كبيرة ، فلم يكن تاسع أولاد علي سليمان فحسب ، بل إن عمـه (عزيز ) كان يعيش بجوارهم على الطريق [ انتبه (على الطريق ) ـ هكذا يكتب باترك سل ـ يعني عند مدخل القرداحـة ، كما روت لي الدكتورة سلمى الخيّر . حيث وفد سليمان على القرداحة ، وبنى عند مدخل القرية أي خارجها ] . .
ومعـه أولاده السبعة ، كما أن إخوته الخمسة الأوائل غير الأشقاء الذين ولدوا قبل الحرب العالمية الأولى ، فقد كانوا بمثابة الأعمام والعمات بسبب فارق السن ، وكان أولادهم المتكاثرون يضيفون وجوهاً جديدة لعائلة الأسد المتنامية [باترك سيل ، ص 19، ولاحظ المتنامية أي التي بدأت من سليمان ، وصار التكاثر مرغوباً جداً عندهم ، وهذا يفسر لنا الرغبة المحمومة عند رفعت بالتكاثر ] .
عمل حافظ في طفولته في القرية وساعد في إرواء المحاصيل أو قطف الفواكه ، وفاتته سنتان من سن التعليم حيث لم تكن في القرداحة أية مدرسـة .
وفي الثلاثينات أدخل الفرنسيون التعليم إلى القرى النائية للمرة الأولى [ ليس صحيحاً ما يقوله باترك سيل ، ويبدو أن الفرنسيين اهتموا بالقرداحة وأمثالها بشكل خاص ، أما في قرى السـنة ، فأول مدرسـة في ريف حماة ( السني ) كانت عام (1948) وكان مختار القرية من أصدقاء كبار الإقطاعيين ، حتى تمكن من الفوز بهذه المكرمة ، أما في قرية الكاتب وهي من القرى الصغيرة الفقيرة النائية فقد فتحت فيها المدرسة الابتدائية للمرة الأولى عام (1966) م .] ، وفتحت ابتدائية في القرداحة ، وتمكن علي سليمان من إدخال أولاده حافظ وجميل ورفعت فيها، لأن علي صار من وجهاء القرية . ويبدو أن هذه المدرسة كانت تدرس الصفوف الثلاثة الأولى فقط ، لذلك أرسل حافظ إلى اللاذقية في العام الدراسي (1939 ـ1940) للدراسـة ، عاش مع أخته المتزوجـة ثلاثـة شـهور ، ولما نقل زوجها ، اسـتأجر له أبوه غرفـة في منزل متواضع لأحد معارفـه ، وفي ذلك الحين كان ثلاثة أرباع سكان اللاذقية من السـنة ، والربع الباقي من المسيحيين ، وكان عدد العلويين لايتجاوز بضع مئات ، وهذه المـدة جعلته يكبر بسرعة ويعتمد على نفسـه ( باترك سل ). عاد حافظ وأكمل دراسته في القرية حتى حصل على الابتدائية عام (1942م) ، وكان معه ثلاثة من القرداحة فقط ، ولم تكن سوى ثانوية واحدة في الساحل السوري كله ، وكان دخولها بشق الأنفس ، ولايدخلها إلا الطلاب المهرة مثل حافظ الذي كان متفوقاً في المدرسـة .
( لقد ورث حافظ تراثاً هاماً عن جده وأبيه ، فقد ولد في عائلة كانت تعمل جاهدة لتحسين أحوالها ، على الرغم من أن عشيرتهم كانت أصغر وأفقر من غيرها كانوا يغتنمون كل فرصة من أجل تحسين مكانتهم ) [ باترك سيل ، ص 28 . وفي كشف أعده ضابط بريطاني عام (1942) يوضح أن عائلة علي سليمان تترأ س عشيرة (العيلة ) الفرعية من قبيلة (الكلبية )!!!!؟ ، بينما يقول (فان دام ) أنهم فرع من عشيرة المتاورة !!!! ؟ ، وهو مركز متواضع ولكنه حقيقي ، ذلك أن آل الأسـد كانوا قد حققوا لأنفسهم منزلة في قريتهم ، ولكنهم كانوا لايزالون أقل تأثيراً من أسر القرداحة البارزة مثل : آل حسون ، وعثمان ، والخيـّر ] .
ولما كان حافظ في الخامسة والعشرين ، كان والده في الثمانين ، لذا أخذ حافظ على عاتقه بعض المسؤوليات العائلية ومنها مساعدة والدته في تربية أخوية الصغيرين (جميل ورفعت ) ، وهكذا صار جميل ورفعت ينظران لحافظ كالوالد الصارم المطاع الذي أخذا يطلبان موافقته ، ولكنهما كانا يحبان أن يتحديـا سلطته ، وكان حافظ أول فرد من العائلة يخلف عالم القرداحة وراء ظهره ، وخرج إلى معترك الحياة . دخلت الحامية الفرنسية اللاذقية في (6/11/1918) أي بعد شهر من رحيل العثمانيين ، أما المناطق الداخلية فلم تدخلها إلا بعد سنتين كاملتين ، وفي هذا مؤشر واضح على اهتمام فرنسا بالأقليات عامة وبالعلويين خاصة ، ولاغرابة في ذلك فقد عرفت فرنسا أن الأتراك كانوا قاسين في تعاملهم مع العلويين ، وهذا يجعلها تتصرف ليكون العلويون أنصاراً لها ، ويساعدونها في حكم البلاد .وكانت إحدى أدوات الإغراء الفرنسية الكبرى تجنيد شباب العلويين في قوات المشرق الخاصة ، وهي قوة محلية أنشأت عام (1921) تحت إمرة ضباط فرنسيين ليخدم فيها العلويون والشركس والأرمن ، ووصل عدد المجندين إلى (14000) في منتصف الثلاثينات ، وكانت مهمتها قمع الاضطرابات في أي مكان من البلاد ، وأدت الخدمة العسكرية مع الفرنسيين إلى بداية تأسيس تقليد عسكري علوي سبب صعود الطائفة فيما بعد . وكان القليل من العلويين ممن أيد الفرنسيين مثل أسـرة (كنـج ) [ باترك سيل ، ص 38 ] .
لذلك ارتقت هذه الأسرة وارتقى زعيمها إبراهيم كنج ( زعيم قبيلة الحدادين ) ليصبح من كبار أثرياء الجبل وملاكـه . أما معظم العلويين في الجبال فقد ظلوا يعانون الفقر المدقع حتى نهاية الحرب العالمية الثانية ، وأدى الفقر إلى أعمال وممارسات ، منها أن تعمل بناتهم خادمات في بيوت الطبقة الثـرية في اللاذقية أولاً ، ثم غيرها ، من سن السادسة أو السابعة ، ولمدة عشر سنوات ، أو مدى الحياة ، ولعل هذه المحنـة عند العلويين بدأت عام ( 1921) عندما فر ض الفرنسيون غرامات جماعية على القرى الثائرة ، ولكي يدفعوها باع الفلاحون خرافهم وأراضيهم واضطروا أن تعمل بناتهم خادمات ، ولم يبق في اللاذقية كلها عائلة ثريـة بدون خادمة علوية صغيرة ، وحتى عام (1950) كان هناك حوالي عشرة آلاف بنت علوية يعملن كخادمات في المنازل بدمشق . غير أن ما لايعترف به أحد إلا نادراً هو أن الخدمة في البيوت كانت نوعاً من التعليم ، إذ أنها فتحت آفاقاً أوسع فقد اتضح أن بنات الجبل أخذن يتأقلمن بسرعة مع حياة المدينة ؛ فتعلمن التكلم بالفرنسية ، وظلت سرعة التكيف خاصة علوية [ باترك سيل ، ص 44 . والذي لم يذكره سل هو أن هذه الخادمات قمن بمنعطف تاريخي كبير جداً وهو التوسط لأقربائهن في دخول الجيش عامة ، والكليات العسكرية خاصة .] . يتبع
* كاتب سوري في المنفى باحث في التربية السياسية