لماذا تغير خطاب الرئيس السوري
لماذا تغير خطاب الرئيس السوري؟
خالد الدخيل
في حديثه المطول لتلفزيون الـ"بي بي سي" الأسبوع الماضي كان لافتاً أن الرئيس السوري تفادى طوال الحديث استخدام كلمات أو عبارات تحمل خطاب ما يعرف بدول أو جبهة "الممانعة". تفادى بشكل متعمد كل ما له صلة بمصطلحات الحرب المقاومة. كان الرئيس واضحاً في تلميحه وتصريحه بأن سوريا لن ترد على الغارة الإسرائيلية. جاء كلام الرئيس الأسد هادئاً ومسالماً، وبعيداً عن لغة التحدي والمجابهة التي اتسمت بها خطاباته وأحاديثه منذ عام 2005. وهذا لافت لأن المقابلة حصلت بعد الغارة الإسرائيلية على سوريا في السادس من سبتمبر الماضي، ولأنها كانت مخصصة في أغلبها للحديث عن هذه الغارة تحديداً. من هذه الزاوية يشكل حديث الأسد الرد الرسمي، ومن أعلى سلطة في سوريا على الغارة الإسرائيلية.
كانت عادة الرئيس بشار أن ينطلق في كل خطاباته من مبدأ "حق المقاومة"، ومبدأ الندية، وضرورة القدرة على مواجهة اعتداءات وتجاوزات العدو. هل تغير كل ذلك أو بعض من ذلك بعد الغارة الإسرائيلية الأخيرة؟ أم أن تغير خطاب الرئيس بعد الغارة لا يعكس تغيراً في السياسة بقدر ما يعكس تغيراً في التكتيك؟ في حديثه اعترف الأسد إن الإسرائيليين قصفوا في غارتهم "مبنى عسكرياً غير مستعمل"، وهذا أول تأكيد سوري لما حدث. من قبل كانت سوريا تقول إن الطائرات الإسرائيلية اخترقت المجال الجوي السوري، واضطرت لإلقاء ذخيرتها بعد تعرضها للدفاعات الجوية السورية. ومع الاعتراف جاءت إجابات بشار الأسد على أسئلة التلفزيون البريطاني تحمل لغة التهدئة، وتدفع باتجاه الابتعاد عن المجابهة. ربما أن حديث الأسد الأخير يحمل تغيراً في السياسة السورية، وربما يحمل تغيراً في التكتيك السوري مع الالتزام بالسياسة نفسها. لكن الأكيد هو أن الحديث، ورغم اعتراف الرئيس فيه بأن الطائرات الإسرائيلية هاجمت موقعاً عسكرياً داخل سوريا، إلا أنه أضاف إلى الغموض المحيط بهذه الغارة، ولم يساعد في توضيح حقيقتها، وطبيعة الأهداف التي كانت وراءها. بل إن الحديث أضاف غموضاً آخر يحيط بطبيعة السياسة السورية نفسها في عهد الأسد الابن.
لا يمكن تناول حديث الرئيس السوري بمعزل عن ثلاثة مؤشرات أو تطورات في المنطقة ذات صلة. الأول هو إغلاق جبهة الجنوب اللبناني بعد حرب يوليو من العام الماضي، وبالتالي صعوبة، إن لم يكن غياب خيار الرد السوري على إسرائيل من خلال هذه الجبهة، ومن خلال الاستعانة بالمقاومة اللبنانية، أو "حزب الله". ثانياً أن حديث الرئيس وتأكيده على حدوث الغارة، وعلى قصفها لموقع عسكري سوري يشير إلى أن حجم الغارة، وحجم الهدف الذي قصفته كان كبيراً وداخل العمق السوري. وإذا كان هذا صحيحاً، فهو يؤكد أن إسرائيل أرادت بغارتها توجيه رسالة إلى القيادة السورية بقدرة سلاحها الجوي على الوصول إلى أي مكان في سوريا. اللافت أن هذا حصل بعد نجاح المقاومة اللبنانية العام الماضي أمام إسرائيل، وهو النجاح الذي احتفى به الرئيس بشار كثيراً. مرة أخرى، السؤال: هل التهدئة السورية، والتعتيم السوري على الغارة إقرار ضمني بوصول الرسالة؟ أم محاولة للتضليل، وكسب الوقت لدراسة الخيارات المتاحة؟ وضعت الغارة الشعار السوري عن المقاومة موضع اختبار حقيقي ومباشر. فبعد إغلاق جبهة الجنوب اللبناني، وإقدام إسرائيل على ضربة عسكرية في العمق السوري، هل تذهب دمشق إلى خيار المقاومة من الجولان؟ أم تذهب إلى خيار مواجهة عسكرية تقليدية؟ أم أنها ستأخذ خياراً ثالثاً؟
في حديثه كان تأكيد الرئيس على الخيار الثالث. يقول الأسد "لدينا أدواتنا للرد... ربما سياسياً وربما بطرق أخرى... لكن يبقى من حقنا الرد وبطرق مختلفة. إذا أردنا أن نرد عسكرياً فان ذلك يعني أننا نعمل طبقاً للأجندة الإسرائيلية... وهذا شيء لا نريد أن نفعله. هذا يعني أننا مستعدون لإضاعة أي فرصة من أجل تحقيق السلام في المستقبل القريب... وهذا شيء لا نريد له أن يحدث". بعبارة أخرى، سوريا لن تنجر إلى اللعبة العسكرية الإسرائيلية، وبالتالي فإن ردها سيكون سياسياً، وليس عسكرياً. في هذا الموقف الكثير من الحكمة، لكنها حكمة قد تفتقد إلى عنصر الشجاعة، وذلك حسب معادلة الرئيس بشار نفسه عن تزاوج العنصرين معاً، وأنه لا يمكن الفصل بينهما. التطور الثالث والمهم هنا هو الصمت العربي إزاء الغارة الإسرائيلية، وهو صمت لافت حقاً. لكن اللافت أيضاً وبالحجم نفسه هو الصمت السوري تجاه الصمت العربي، ثم حديث الرئيس بشار بعد الغارة الإسرائيلية، وبعد الصمت العربي عن ضرورة التمسك بالسلام والابتعاد عن السقوط في فخ الاستفزازات العسكرية الإسرائيلية. هل يمثل هذا مؤشراً على تحول سياسي في أعلى هرم السلطة السورية في اتجاه التأقلم مع البيئة السياسية للمنطقة؟ أم أنه انكشاف للسياسة ذاتها أمام حقيقة الوضع العسكري والسياسي للمنطقة، وخاصة أمام توازنات القوة فيها؟ في كلا الحالتين يشير حديث الرئيس بشكل واضح إلى أنه لا يريد لنظامه ولا لسوريا أن تكون ضحية ثانية لمغامرة أخرى غير محسوبة. هل هذا هو تفكير القيادة السورية؟
هناك تطور رابع تتناقله بعض المصادر، وبحكم طبيعته فهو تطور غير معلن رسمياً. حسب هذه المصادر أقدمت إدارة بوش مؤخراً على فتح قناة اتصال غير معلنة، وعلى مستوى منخفض، مع الحكومة السورية. هدف هذه القناة هو محاولة الإدارة اختبار فرضية مدى استعداد القيادة السورية، وبعيداً عن الأضواء، لتغيير طبيعة علاقتها مع طهران، ومع جماعات المقاومة التي تعتبرها الإدارة جماعات إرهابية، مثل "حماس" في فلسطين و"حزب الله" في لبنان. يتبنى هذه الفرضية تيار داخل الإدارة يرى ضرورة التحدث إلى السوريين كجزء من الاستعداد لاحتمال مواجهة عسكرية مع إيران. في هذا الإطار تكتسب الغارة الإسرائيلية أكثر من معنى. ربما أنها كانت لضرب منشآت نووية أو شحنة أسلحة أو اختبارا للدفاعات السورية، أو كل ذلك معاً. في كل الأحوال شكلت الغارة أداة ضغط وتهديد لما يمكن أن يواجهه النظام السوري. هل كانت الغارة، بهذا المعنى، مكملة للقناة الدبلوماسية، أو جزءاً من سياسة الجزرة والعصا؟ ما هي الرسالة التي أرادت إسرائيل إيصالها لسوريا؟ يقول الأسد "هم يعرفون الرسالة التي يريدون إرسالها وعليهم إعلان ذلك". لكن حديثه الأخير يعطي الانطباع بأنه تلقى وفهم الرسالة.
في إجابته على سؤال عن التوتر الذي خلقته الغارة قال بشار: "هذا لا يعني أنه ليس هناك نافذة أمل... ما زال بإمكاننا العمل من أجل السلام كي نحول مسار الأمور في الاتجاه الصحيح... وباتجاه السلام". السؤال الأهم في الحديث جاء على الشكل التالي "لماذا يشنون (الإسرائيليون) غارة تنطوي على مخاطر كبيرة... إن لم يكونوا يستهدفون هدفاً على جانب كبير من الأهمية..؟". لم يكن أمام الرئيس إلا تفادي السؤال، وإحالته إلى الإسرائيليين، قائلاً "نحن في سوريا نعمل من أجل تحقيق السلام في المنطقة... وقد كان ذلك مفاجئا بالنسبة لنا وبالنسبة للعالم. لماذا فعلوا ذلك... لا أحد يعرف. ما الهدف..؟".
ما قاله الرئيس لتلفزيون الـ"بي بي سي" لا يتسق مع ما كان يقوله من قبل، مما يطرح أكثر من سؤال، ويوحي بأمور تحتاج إلى شيء من الإيضاح. في خطابه العام الماضي بعد نجاح المقاومة اللبنانية في الصمود أمام إسرائيل، كان الخطاب مختلفاً. حينها قال بشار "يسعدني أن ألتقي بكم في هذا الشرق الأوسط الجديد... جديد بإنجازات المقاومة... شرق أوسطهم المنشود المبني على الخنوع والمذلة... قد أصبح وهماً، بل انقلب إلى نهضة شعبية عارمة... وبرفضها لكل ما قدم لها من حجج تبرر بقاءنا أذلاء خانعين ونقتل صامتين". وفي خطابه أمام المؤتمر الـ22 للمحامين العرب كان بشار مباشراً في سخريته؛ "عندما كنت ألتقي ببعض المسؤولين الأجانب... كانوا ينتقدون المواقف السورية ويتهمونها بالتطرف وكانوا يقولون إن خطاب الرئيس بشار الأسد متشدد... اليوم سأكون هادئاً. سأكون أكثر هدوءاً". لكن هدوء خطاب الرئيس لم يحدث إلا هذه السنة، وبعد الغارة الإسرائيلية، وما ترافق معها من تطورات. ماذا يعني ذلك؟ هل بدأت القيادة السورية تشعر بوطأة عزلتها بعد الغارة؟ هل انتابها شعور بخطورة الموقف، وأنها ربما تكون المنطلق لأية مواجهة عسكرية مع إيران؟ هل اختارت التهدئة تأكيداً لرغبتها في التفاوض بدل المواجهة العسكرية؟ أم أنها تفعل ذلك كسباً للوقت لاستكمال أمور لم تستكمل بعد؟