لا يضرهم من خذلهم

أبو المعتصم بالله يوسف النتشة

[email protected]

لم يعد الصراع الذي تدور رحاه اليوم في الضفة والقطاع كما يحلو للبعض أن يصوره، صراعا بين فصيلين يتنافسان على السلطة، هما حماس وفتح، فلو كان الأمر كذلك لكان من الممكن أن يصل الطرفان لحل وسط ، ولو مؤقتا من باب المناورة والتدرج في تحقيق المكاسب والهيمنة ، أو في أحسن الأحوال من باب حقن الدم الفلسطيني وتغليب المصلحة العامة على الخاصة، وهذا هو المعهود في أي خلاف يحدث بين كل المتخاصمين على وجه الأرض، فكيف بمن يعيشون جميعا تحت حراب أعتى وأبغض احتلال ،يستهدف وجودهم جميعا دون تمييز، إن حلا وسطا لو حصل لما سمح لشقة الخلاف أن تتسع، وللهوة بين الطرفيين أن تزداد، تلك الهوة التي يراد منها أن تهوي بكل منجزات الشعب الفلسطيني وكل أحلامه وطموحاته في الوحدة الحرية والإستقلال، وفي المقابل تحقيق ما تبقى من أهداف الكيان المغتصب،المستفيد الأول من هذا الصراع والذي لايريد أن يرى له حلا ، ولا يسعده بل يروعه أن يرى الشعب الفلسطيني متحدا ،وأذياله من المنتفعين الذين لا مكان لهم في أجواء الاستقرار،لأن مصالحهم ومبرر وجودهم في الصدارة هوانتشار حالة الفوضى والتمزق والفرقة.

 الحقيقة أن ما يدور الآن ، هو أكبربكثير من صراع عابر بين فصيلين،إنه صراع وجود بين معسكرين : المعسكر الذي يدافع عن الحق الفلسطيني والعربي والإسلامي في فلسطين،أرضا وعقيدة وتاريخا وحضارة،هذا الحق الذي لا يتجزأ،ولا مجال فيه للتنازل أو التراجع،وتمثله الحركة الإسلامية وبعض حركات المقاومة الفلسطينية .

 ومعسكر آخر أصبح يقف الآن جهارا نهارا في وجه المعسكر الأول ، يتصدى له ويحاول منعه من المقاومة بل وحتى من إبداء الرأي ، أو أن يكون له أي وجود فاعل على الأرض ، وذلك من أجل مصالح ذاتيه آنية، ومكتسبات شخصية حققتها له حالة أوسلو المشئومة، تلك المصالح التي لايمكن أن تدوم طالما هناك صوت شريف يعلو في الساحة الفلسطينية .

 المعسكر الأول يستند إلى منطق الحق والعدل، ويقف وراءه كل الشرفاء من أبناء الشعب الفلسطيني،ومن ورائهم الشعوب العربية والإسلامية ، أما المعسكر الثاني فيستند إلى غطرسة القوة ، وسياسة فرض الأمر الواقع، ومن خلفه الكيان الغاصب ، والأنظمة التي تدور في فلكه، ويمثله في فلسطين الخانعون والمنهزمون والمندسون والمنتفعون، أولئك الذين يرون أن الحرية والاستقلال تتحققان بمجرد رفع العلم، واكتساب الألقاب السلطوية والنياشين ، وتحقيق الامتيازات الشخصية، وبناء الأبراج والشاليهات والقصور، وتقف على رأسه السلطة – وليس بالضرورة حركة فتح - التي جاء بها أتفاق اوسلو المشئوم ومن يوافقها من كل الإتجاهات.

 إن ما يجري على الأرض اليوم هو في الحقيقة حملة استئصال مسعورة للقضية من جذورها، ولكل ما تبقى من مقومات ما هو فلسطيني : الأرض والإنسان والهوية ، وذلك بهدف إنهاء القضية الفلسطينية بالشكل الذي خطط ويخطط له حكماء صهيون وشياطينهم وأعوانهم،ومن له مصلحة ومنافع خاصة من وراء ذلك، نعم هذا ما يدور الآن بالتحديد.

 فالأرض،الإنسان والهويه ثلاثتها كانت ولم تزل عناصر الهدف الأبعد حتى تكتمل كل أبعاد المخطط الجهنمي المراد تمريره، وعلى امتداد عقود من الزمن كانت الجهود منصبة لتحقيق عناصر هذا الهدف، وذلك من خلال القوة الغاشمة المسلحة بالحديد والنار،التي مارسها ويمارسها المحتلون مباشرة من خلال ملاحقة الفلسطينيين وكل قوى المقاومة داخل فلسطين وخارجها،مع ما رافق ويرافق ذلك من ردع لأية جهة عربية أو غيرها تحاول أن تقف مع المقاومة ولو بالدعم المعنوي،أو من خلال اللوبي الصهيوني الذي لم يعد يسيطر على أروقة الحكم في الدول العظمى وتلك المؤثرة في صنع القرار الدولي فحسب، بل إنه اخترق فوضى النظام العربي بشتى الأسماء والمسميات، حتى أصبح ذاك النظام - ونظام أوسلو الفلسطيني ليس عنه ببعيد– أداة طيعة بيد المحتلين تحمل عنهم –وهي تدري أو لا تدري- العبء الأكبر في المسارعة بتحقيق مآربهم وأهدافهم الخبيثة، الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية، وقد تم لهم جزء كبير مما أرادوا في غفلة من الزمن ، فكيف تم لهم ذلك ؟.

 قبل هزيمة حزيران عام 1967، وهي مااصطلح الزعماء العرب على تسميتها بالنكسة ، كان مجرد الإتصال – العلني- بالكيان اليهودي يعتبر خيانة عظمى،ولم يكن يجرؤ أحد أيا كان موقعه أو مدى ذبذبات صوته – أن يدعو أو يشير علنا إلى إمكانية التفاوض فضلا عن الاعتراف بالكيان الغاصب، حيث كان الشعار المرفوع : تدمير اسرائيل ، وتحرير فلسطين من البحر إلى النهر،وكانت منظمة التحرير الفلسطينية التي أنشئت بقرار من الجامعة العربية تحمل نفس الشعار ، بل إنها قامت على أساسه ، وبعد حزيران وبعد الصدمة التي منيت بها الشعوب العربية بضياع البقية الباقية من فلسطين، وعلى رأسها بيت المقدس والمسجد الأقصى المبارك،تركت تلك الصدمة أثارا رهيبة على معنويات الإنسان العربي ومن ضمنه الإنسان الفلسطيني بالطبع، هذا الإنسان الذي لم يستطع استيعاب النتائج المروعة، مقارنة مع الآمال العريضة التي بنتها وزرعتها في أعماق وجدانه آلة الدعاية والإعلام العربية ، التي جعلت حيفا ويافا منه على مرمى حجر، وجعلت اللاجئين المشردين في مخيمات لبنان وسوريا والأردن وغيرها، يجلون الصدأ عن مفاتيح بيوتهم التي أخرجوا منها في دير ياسين والقسطل وقيسارية وعكا، ويحزمون أمتعتهم استعدادا للعودة التي باتت منهم قاب قوسين أو أدنى !

 بعد حزيران، أصبحت فلسطين كلها في قبضة الغرباء،وتحقق للغاصبين العنصر الأول من الهدف كاملا،وهو السيطرة على الأرض وكامل التراب، ولكن ما زالوا يسمون بقوات احتلال،وما زالوا مرفوضين من البيئة المحيطة، فلا بد إذن من متابعة العمل لإتمام العنصرين الآخرين ، الإنسان والهوية.

 وهنا كان لا بد أولا من استثمار النتيجة النفسية للهزيمة على الطرف العربي لترويضه شيئا فشيئا ، وصولا إلى أن يصبح من يطالب بزوال إسرائيل مجرما يلاحقه القانون العربي فضلا عن الدولي، ويلاحقه حتى من عـُهد إليه بالوصاية على القضية الفلسطينية والتحدث باسمها، وهي منظمة التحرير الفلسطينية.!

 وفي هذه المرحلة التي تلت احتلال كامل التراب الفلسطيني،أصبح الإنسان الفلسطيني هوالمستهدف الأهم بعد ضياع الأرض الفلسطينية، وبات ساحة الهجوم الشرس في انتمائه وهويته،وذلك لتوفير الهدوء للكيان الغاصب داخليا، ولتوفير حسن الجوار عربيا والقبول عالميا،فكان العمل على قدم وساق من أجل إحباط هذا الإنسان، وزعزعة أسس انتمائه،تمهيدا لإبعاده عن جوهر قضيته، وقناعاته بقدسيتها وأولويتها في سلم أهدافه،وبالتالي إعادة صياغته من جديد، صياغة تسمح بتسخيره للمساهمة في تحقيق أحلام المحتلين الصهاينة.!

 وعندما تمكنت آلة الدعاية والإعلام والتدجين والتطبيع الصهيونية تساعدها أذرعتها الممتدة في المنطقة العربية ، وعملاؤها المنبثون داخل فلسطين وخارجها من اختراق الإنسان الفلسطيني هوية وانتماء ً، سهل عليها اختراق المنطقة العربية بأسرها إعلاميا واقتصاديا وثقافيا، وقد بدأت أبرز محطات الاختراق تلك، عندما ظهرت منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، فأدارت الأنظمة العربية للقضية الفلسطينية ظهرها، وبدأت بالتنصل من التزاماتها شيئا فشيئا،ثم تبع ذلك اعتراف المنظمة بالكيان المغتصب وحقه في الوجود ، والذي كان نقيضه أساس قيامها ،بل كان ذلك من المحرمات سابقا ، ويعتبر خيانة عظمى كما أشرت ،هذا الإعتراف أعطى المبرر لكثير من الأنظمة العربية أمام شعوبها لإ شهار اعترافها بالكيان المغتصب،وما تبع ذلك من تطبيع اقتصادي وإعلامي وثقافي مع هذا الكيان،فأصبحت إسرائيل حقيقة واقعة لا جدال فيها في كل مواقع التأثير في العالم العربي كالإعلام والتعليم وغيرها! وفي المقابل فقدت القضية الفلسطينية بعدها العربي والإسلامي، وأصبح اتخاذ أي قرار حتى لو كان مصيريا رهنا بمنظمة التحرير،بل تطور الأمر فيما بعد ليصبح شخص واحد على وجه الأرض هو الذي يبت في القرارات المرتبطة بمصير القضية الفلسطينية!

 هذه الصورة للصراع هي الطابع الذي وصل إليه الوضع فترة إعلان السيد ياسرعرفات قيام دولة فلسطين حبرا على ورق عام 1988في الجزائر، وعلى بعد آلاف الأميال من فلسطين،وقد تزامن ذلك مع الضربات الموجعة والاستنزاف الهائل بشريا واقتصاديا التي منيت به الأمة الإسلامية كلها إثر الحرب العراقية الإيرانية المريرة، ثم جاء غزوالعراق للكويت ، وما تبعه من انقسام العالمين الإسلامي والعربي إلى معسكرين ، ثم بعد ذلك غزو العراق الأول عام 1991، وتدمير قدراته العسكرية، وإمكانياته التي كانت الشعوب العربية والشعب الفلسطيني على وجه الخصوص تعلق عليها آمالا كبيرة،ومع توالي الضربات الموجعة للأمة ، فقد تركت على الإنسان العربي آثارا نفسية مروعة لا تقل عن آثار صدمة جريمة حزيران، وزلزلت أركانه ، وذلك بما سبق تلك الضربات وما رافقها ونتج عنها من انقسام وتشرذم في الموقف العربي من ناحية، ومن انهيار القوة العربية المدخرة عسكريا والتي كان يمثلها عمقها العراق، واقتصاديا والتي كانت تتمثل في دول الخليج من ناحية أخرى.

 ولا بد من الإشارة في هذه المرحلة،بأن الدول العربية قد انشغلت كل بمشاكله وظروفه الداخلية،وغيب المواطن العربي تماما ،وترك الشعب الفلسطيني وحيدا في الميدان، ولم يبق في الساحة كلها من يعرف حدود فلسطين التاريخية كما هي على الخريطة، سوى من ربتهم الحركات الإسلامية هنا أو هناك،وبموازاة ذلك لم يبق في فلسطين من يقول بحدود فلسطين من البحر إلى النهر سوى أبناء الحركة الإسلامية ،إضافة إلى بعض قوى المقاومة التي انحسرت شيئا فشيئا.

 ومع كل تلك التطورات والهزات ،فقد كان الكيان الغاصب يرقب ويراقب، ويدرك تماما مع من ستكون معركته الفاصلة والحقيقية،ويعرف أين هو الخطر الحقيقي، فكان لا بد أن يكون هدف المرحلة القادمة للكيان الغاصب، هو القضاء على المقاومة المتبقية ، والتي لم تعد تتمثل سوى في الحركة الإسلامية، وبقايا بعض فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، وبعض الشرفاء من قدامى حركة فتح.

 لذلك وعلى الفور بعد غزو العراق، بدأ الكيان الغاصب بتحريك أذرعه الأمريكية والعربية لاستثمار الهزيمة العسكرية والنفسية التي حلت بالإنسان العربي من جديد،حيث بدأ وزير الخارجية الأمريكي جيمس بيكر بجولة في المنطقة، من أجل التمهيد لواقع جديد في المنطقة العربية ، وفي فلسطين بالتحديد، تمهيدا للمرحلة القادمة،وهي مرحلة أوسلو، والتي تمت كما خطط لها، وكان من أبرز أهدافها:

 *القضاء نهائيا على قوى المقاومة التي تنطلق من خارج فلسطين ، والتي كانت تتمثل فيما تبقى من منظمة التحرير الفلسطينية ، ،وذلك بعد أن تمت تصفية كل رموز المعارضة الحقيقية لنهج التفاوض والتنازلات ، كأبي إياد وأبي جهاد ، والسماح لمن تبقى من قادتها ورموزها وعلى رأسهم ياسرعرفات بالعودة إلى فلسطين،وإعطائهم الفرصة كاملة في ممارسة بعض مظاهر السلطة والهيمنة ، ولكن ضمن أدق معايير النظرية الأمنية الإسرائيلية، وضمن هذا الهدف تم القضاء على معظم الشرفاء في حركة فتح أو إقصاؤهم أو تحييدهم ،وأخليت الساحة منهم ، وأطلق العنان للوصوليين والمرتبطين بأخطبوط الكيان المغتصب،كما تراجعت معظم فصائل المعارضة في منظمة التحرير، بسبب تراجع المنظمة ،بعد أن تم شطب أهم ركائز وجودها ، وتعديل ميثاقها لينسجم مع إملاءات النظام العالمي الجديد.

 *إنشاء كيان هزيل للفلسطينيين، بلا معابرمستقلة،وبلا حدود،وبلا جيش، وبلا أدنى مقومات الوجود للدول التي تحترم نفسها، وربطه اقتصاديا بالكيان المغتصب، مع الإحتفاظ بالسيطرة الأمنية خالصة للمحتلين، وتنصيب رئيس لهذا الكيان يستمتع بألقاب الرؤساء وامتيازاتهم، ويتنقل تحت حراب الإحتلال وبإذن مسبق من دوائرهم الأمنية، ويروح من رام الله إلى غزة أونابلس وبالعكس ضمن هذا النطاق، ولا بأس لو استمتع أيضا باستعراض حرس الشرف وبعزف النشيد الوطني جيئة وذهابا. كذلك ايجاد سلطة وأنظمة وقوانين، سقفها الأعلى نظريات الأمن الإسرائيلية ، التي تضمن للكيان المغتصب الإستقرار داخليا، والقبول مع جزيل الشكر والإمتنان عربيا ودوليا !

 * السماح لهذا الكيان الهزيل في إدارة الشئون المدنية ، والحياة اليومية للفلسطينيين،

وإطلاق يد سلاطين السلطة يفعلون ما يشاءون ضمن هذا الإطار ، في مقابل حماية أمن إسرائيل! وهذا يعني التصدي لقوى المقاومة وعلى رأسها الإسلامية، والتي باتت كما ذكرنا العقبة الكؤود التي تحول دون استكمال المخطط الصهيوني.

 *إجهاض الإنتفاضة المباركة التي كانت أبرز معالم المقاومة الشعبية العارمة منذ قيام الكيان المغتصب.

 وبالفعل ، فقد قامت السلطة الفلسطينية ضمن المعايبر الأمنية الإسرائيلية، بلا حدود ومعابر مستقلة، وبلا جيش باستثناء أكثر من سبعين ألف رجل أمن موزعين على أجهزة أمنية عديدة ،تلك الأجهزة التي لم نر لها إنجازا في السنين العجاف الماضية سوى حملات الإعتقال التي كانت تتم من وقت لآخر، فيما وقفت تلك الأجهزة موقف المتفرج وفق الاتفاقيات المبرمة طيلة انتفاضة الأقصى ، وكانت قوات الإحتلال ولم تزل تقتحم المدن والقرى وتستبيح الدم الفلسطيني حتى أمام مباني هذه الأجهزة وثكناتها ، فلا تحرك ساكنا .!

 وبالفعل أيضا فقد تم إنهاء الإنتفاضة المباركة الأولى ،وأعطيت السلطة فرصتها للعمل ولو ضمن الحدود الضيقة التي سمح لها بالعمل ضمنها، وأندفع رموز الدولة التي ليس لها حدود بلا حدود لتحقيق المكتسبات والإمتيازات الشخصية،فامتلأت شوارع رام الله وغزة بالسيارات الفخمة التي لم تكن معروفة للمواطن الفلسطيني من قبل، وارتفعت العمارات التي تناطح السحاب،وانتشرت ظاهرة القصور الفخمة ، وأصبحت كلمة مسئول في السلطة تذكرك بكل ما ذكرت، ولم يتحقق للمواطن الفلسطيني شيئا يذكر في التخفيف من معاناته، حتى ضمن الصلاحيات الضيقة التي منحت لتلك السلطة، فلم يستفيدوا من المليارات التي أغدقت عليهم في تحسين الأحوال المعيشية للمواطن المسحوق، لم يقيموا المشاريع والمؤسسات التي تحد من البطالة ، ومن الإعتماد على المحتل في توفير لقمة العيش،لم يسعوا في وسائل إعلامهم إلى محاربة الفساد الأخلاقي وإلى ترسيخ جذور الإنتماء في الأجيال الصاعدة، بل ازداد الأمر سوءا،حتى أصبح المواطن وكأنه يعيش تحت احتلالين ، وأصبحت السلطة عبئا على كاهل المواطن المقهوريضاف إلى عبء الإحتلال.

 والأخطر من ذلك كله أنه وفي عهد السلطة ظهر من يتبنى الشعارات الإسرائيلية باسم السلطة نفسها،والتي من المفترض أن تكون الوصية على القضية الفلسطينية،فإذا ما عادت بنا الذاكرة قريبا لمداولات تشكيل الحكومة الفلسطينية، بعد الفوز الساحق للإسلاميين في الإنتخابات التشريعية ، فقد كان أهم مطالب حركة فتح – العمود الفقري للسلطة - للدخول في حكومة وحدة وطنية، هو انتزاع اعتراف من حركة حماس بحل الدولتين ، وهذا ما يعني اعترافا صريحا بالكيان اليهودي، وبالتالي التنازل عن قرابة ثمانين في المئة من أرض فلسطين ، وأكثر من نصف العشرين في المئة المتبقية للمستوطنات والجدار والطرق الإلتفافية التي تحمي تلك المستوطنات، ثم البدء بالتفاوض اللامنتهي للحل النهائي، حول مساحة لا تزيد عن ألفين وخمسمئة كيلو مترا مربعا، هي البقية الباقية من أصل مساحة فلسطين البالغة سبعة وعشرين ألف كيلو مترا مربعا تقريبا،أي أن المساحة المسموح التفاوض حولها ، اختزلت إلى عشرة بالمئة فقط من مساحة فلسطين التاريخية،وما زالت للمحتلين فيها مطالب وأطماع !

 إذن استطاع مخططوا صهيون بعد سنوات طويلة من العمل الدؤوب ، أن يوجدوا من بين الفلسطينيين من يدافع عن حق إسرائيل في الوجود،ومن يستنكر كل عمل مقاوم ، ويسمه بالإرهاب!

 وفي الطرف الفلسطيني وبعد أربعين عاما أو تزيد من قيام منظمة التحرير الفلسطينية والتي تشكل حركة فتح عمودها الفقري، وبعد أن طافت مشارق الأرض ومغاربها لنصرة الحق الفلسطيني ،كانت غاية منجزاتها على الأرض هي السلطة المنبثقة عن اتفاقية اوسلوالتي نحن بصدد الحديث عنها، والتي أصبحت تطرح الشعارات التي كانت تعتبرها خيانة عظمى، وتتبنى ما يتبناه الطرف المحتل، بل إنها تمارس اليوم في الضفة الغربية بالتحديد وتحت حماية حراب المحتل نفس الممارسات التي يمارسها المحتلون،من مداهمات واعتقالات وإغلاق للمؤسسات الخيرية، التي تعين الناس على الثبات فوق أرضهم،ولقد أصبح من المألوف أن تسمع كل يوم عن اعتقالات ومداهمات جديدة، فتسأل وتتساءل :أهي من قبل المحتلين أم من قبل السلطة! بل ومن المألوف أيضا أن تجد أسرة في رام الله أو بيت لحم – وهي بالعشرات - منكوبة باعتقال رب الأسرة لدى قوات الإحتلال، واعتقال أحد أبنائها أو أكثر لدى الأجهزة الأمنية الفلسطينية.!

 إذن استطاعت آلة الترويض والتدجين الصهيونية أن توجد لها من بين الفلسطينيين من يحمل عنها عبء إكمال مخططاتها ، بل وتبنيها- عن قصد أو غير قصد- ،وهنا كانت الطامة الكبرى، وكان الفيصل بين ما عهد عنها حركات مقاومة أصيلة تحمل الهم الفلسطيني، وتحمل الحق الفلسطيني، وتحمي الدم الفلسطيني، وما آلت إليه لتصبح معاول هدم للحق الفلسطيني،وبنادق وسجون تستبيح الدم الفلسطيني، فباتت همّا وأي هم يضاف إلى الهم الفلسطيني.!

 وبصريح العبارة فإن السلطة الفلسطينية التي نتجت عن أوسلو، أصبحت الآن منتجا مشتركا لسنوات طويلة من العمل الصهيوني الدؤوب ، وما توهمه البعض للحظات – مع الأسف- بأنها ثمرة نضال أربعين سنة للفلسطينيين تحت مظلة المنظمة.

 وهكذا فمن الواضح أن الصراع اليوم بين نهجين وبين معسكرين، ومن الظلم كل الظلم أن نسميه صراعا بين فصيلين فلسطينيين،ومن التجني على الحركة الإسلامية الفلسطينية أن نتهمها بالصراع على السلطة، كما هو حال المنهزمين(أفنجعل المسلمين كالمجرمين ،ما لكم ، كيف تحكمون).فلو كان الإسلاميون كذلك، لما وقفوا عكس التيار العالمي الظالم والجارف،من أجل مبادئهم، ولآثروا الدنية من أجل الوصول إلى مآربهم، ولما تعرضوا للإعتقال والملاحقة من قبل الإحتلال،ولحرق بيوتهم وترويع ذويهم وأطفالهم- وهم قابعون في سجون الإحتلال- من قبل ميليشيات أوسلو!! فكيف يمكن أن يكون هؤلاء طلاب دنيا ومناصب ؟

 نعم إنه صراع بين نهجين: نهج له معسكره الخانع المتآمر المستند إلى قوة المحتل الطارئة الزائلة لامحالة ، والذي تحول إلى أداة طيعة تساعد الإحتلال في تحقيق أهدافه، مقابل وعودات براقة ومكاسب زائلة.

 ونهج راسخ راشد يقف على الحق الثابت، يمثل معسكر المؤمنين الصادقين الصابرين المصابرين المرابطين، وكل شرفاء فلسطين ،من الذين يؤمنون بحقهم ، ويؤمنون بقضيتهم، ويقدمون كل غال ونفيس من أجل أن تبقى قضيتهم شريفة طاهرة طهر أرضهم ومقدساتهم..

 هذا هو واقع الصراع، فما هو المخرج من الوضع الراهن؟

 المخرج لا يكون بوصفة سحرية، ولا باجتماع يتم هنا أوهناك، أوتدخل من هذه الدولة أوتلك بقصد الاستعراض الإعلامي.

 المخرج لا يكون بمجرد توقيع اتفاق حبرا على ورق، مع بقاء الميدان مفتوحا للعابثين والإنتهازيين يفعلون ما يشاءون.

 المخرج أن يتداعى العقلاء والشرفاء في حركة فتح بالتحديد ، وممن تبقى من الشرفاء في منظمة التحرير الفلسطينية ، وأن يخرج هؤلاء جميعا عن صمتهم، وأن يضعوا حدا لزمرة تصر على ركوب الموج ،وحرف المركب عن مساره الصحيح، وأن يعود الشعب الفلسطيني بكل فئاته إلى الإلتفاف حول ثوابته الوطنية، التي يصطلح عليها الجميع،والتي تضمن له كل حقوقه في الأرض والمقدسات والكرامة والمستقبل الحر الواعد.

 المخرج أن يستمر معسكر الحق على موقفه، وأن تقف وراءه قولا وعملا كل الشعوب العربية والإسلامية، لأن هذا المعسكر يمثل الآن الطليعة الصلبة التي تدافع عن وجود الأمة كلها وعن كرامتها ، وعن تاريخها ومقدساتها ومستقبل وجودها، فلا بد أن يعود للقضية بعدها الإسلامي والعربي، ففلسطين ليست ملك هذا الفصيل أو ذاك، وليست ملك مجلس وطني مهترئ يدعى كالطبيب المناوب أبدا عند الحاجة.

 وفي كل الأحوال فإن العاقبة للتقوى،وإن الأرض لله ، يورثها من يشاء من عباده الصالحين،وإن الرهان اليوم على هؤلاء ، الذين يقاومون الحصاروالتجويع في غزة ، والذين يصبرون على أذى الظالمين المفسدين في الضفة ممن يتجبرون ويبطشون بدعم ومساندة من الإحتلال، هؤلاء الذين لا يحزنهم تقلب الذين كفروا في البلاد،ولا يضرهم من خذلهم من أبناء جلدتهم وأهل دينهم في فلسطين وخارجها، ولا من عاداهم من كل قوى الإستكبار والظلم في هذا العالم ، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك، وسيأتي أمر الله وهم كذلك، وما ذلك على الله ببعيد.