المواطن في سورية ونهب المال العام

المواطن في سورية بين نهب المال العام

ونهب المال الخاص

هيثم المالح

منذ فترة ليست بعيدة كتبت مقالاً حول الفساد المستشري في البلاد، وبين العباد، واقترحت خطوات للبدء في مكافحته أولاها وأدناها إلغاء التضخم والتخمة في طروش السيارات التي تزين أبواب المسؤولين، وقلت بـأنني لا أقترح إلغاء هذه الامتيازات، التي تذكرنا بأيام الانكشارية ولكن بالحد منها، ومحاولة تحجيمها.

إذا كانت السلطة راغبة باتخاذ تدبير يؤدي إلى ذلك فعلاً، فلا أسهل من اتخاذ خطوة بسحب السيارات والاكتفاء بوضع سيارة واحدة تحت تصرف المسؤولين، ولا أقول بأن تودع السيارات بعد انتهاء الدوام في مرائب الدولة ـ كما كان أيام الرجعية ـ وإنما تبقى تحت تصرف المسؤول وأسرته وخادمته، ولكن يمكن تقنين الوقود الذي يمنح له بحيث يغطي فترة عمله بينما يدفع هو قيمة الوقود الذي يستهلكه لأغراضه الشخصية. أذكر أن المرحوم شكري القوتلي حين كان رئيساً للجمهورية، كان يرسل سيارة القصر الوحيدة إلى مرآب الدولة بعد نهاية الدوام بينما يستعمل سيارته لأغراضه الخاصة.

فإذا أقدمت السلطة على خطوة، كما ذكرت سابقاًَ فإنها تكون قد بدأت السير في الطريق الطويل الذي يبدأ بخطوة، ثم عليها أن لا تدع الصهاريج الحكومية تزوّد المسؤولين (حتى المتقاعدين) بالمحروقات من أجل تشغيل وسائل التدفئة في دورهم. ولا يقول لي قائل إن هذا غير صحيح. فأنا أسكن في منطقة أشاهد فيها سيارات الصهاريج الحكومية تقف أمام أبواب المسؤولين والمتقاعدين منهم لتزودهم بالمحروقات لتشغيل أجهزة تدفئة بيوتهم.

هذه مجرد أفكار قدمتها في كلمة سابقة، وقد دفعني للكتابة مجدداً حول هذا الموضوع، ما تناقلته الأخبار المحلية حول اتجاه السلطة لزيادة أسعار محروقات السيارات والتدفئة. فقفزت إلى ذهني وأنا أسمع هذه الأخبار، نكتة طريفة يتداولها الدمشقيون أيام الشتاء خاصة، وشتاء دمشق كان شديد البرودة مثلجاً في العديد من الأيام، وفيضان نهر بردى عادي في أواخر أيام الشتاء بحيث يبدأ من الربوة ويندفع نحو دمشق ويصل ارتفاعه أحياناً نحواً من متر فوق الطرقات، في الوقت الذي أضحى اليوم بالبركات التي توزع يميناً وشمالاً، عبارة عن مجرى للمياه الوسخة، لأسباب سبق وذكرتها في مقالات سابقة.

 أعود لأقول إن الدمشقيين يتداولون نكتة، تقول بأن أحد الأثرياء كان يسير بعربته المغلقة ، ولم يكن في تلك الأيام إلا عدد قليل من السيارات، هذه العربة التي يجرها حصان واحد وكانوا يسمونها تك، كان هذا الثري يجلس في العربة ويتدثر ببطانية، فشاهد أحد الجوار الفقراء وبيده وعاء يتجه نحو بائع الفول ليحضر شيئاً لأسرته ليتناولوا فطورهم. نادي الثري هذا الفقير، يا أبو أحمد، فأجابه صباح الخير، فقال له تعال اركب معي في العربة، فتمنع قليلاً ثم وافق ودخل العربة المغلقة وجلس بمواجهة الثري على المقعد المقابل يتأفف من البرد، قال الثري يا أبا أحمد يتحدث الناس عن البرد وأنا (يعني نفسه) لا أشعر بالبرد إلا في رأس أنفي، فأجابه الفقير فوراً: وأنا لا أشعر بالدفء إلا في باب خاتمي.

فالثري المتدثر بالبطانية ويجلس في العربة المغلقة والثلج ينهمر خارجها ويلبس الثياب الشتوية الفاخرة، لم يكن يشعر بالبرد الذي كان يشعر به أبو أحمد الذي لا يكاد يستر جسده سوى بعض الملابس التي لا تقيه البرد. وردت هذه القصة في خاطري وأنا استمع إلى هذا الهدير الذي تهدر به أخبارنا المحلية، وتدفع نحو جنون أسعار أكثر من الجنون الذي يكوي الفقير هذه الأيام. الأسعار في دمشق لا ترحم أحداً، والمتنفذون الذين كدسوا الأموال من كل مصدر لا يحسون بذلك كما الثري الذي ذكرته سابقاً.

وفي دمشق تتضاعف الأسعار أضعافاً عن المحافظات الأخرى والفقير لا يدري كيف يؤمن عيشه، والأثرياء الذين اتخمت جيوبهم بالأموال الحرام المسروقة من جيوب الشعب لا هم لهم سوى زيادة الهوة بينهم وبين الباقين من الشعب غير مكترثين بالأخطار التي تحملها هذه الهوة الكبيرة. السلطة بكل قواها من مجلس الشعب ومجلس الوزراء والقضاء مسؤولون عن الانهيار الذي سيسببه هذا الدفع باتجاه رفع الأسعار وانهيار قيمة الليرة السورية، ووضع الفقراء في حالة من اليأس والإحباط. لقد ساهمت وزارة المالية تحديداً بجنون الأسعار برفعها الضرائب غير المباشرة، والتي ترجع أصلاً على الفقير كما أنها لا تهتم لازدواجية الضرائب التي يعاني منها المواطنون، وفي اتساع الهوة بين طبقتي الشعب بعد أن تم إعدام الطبقة الوسطى نهائياً، وأضحى معظم المواطنين تحت خط الفقر.

 التخمة في حيازة السيارات الحكومية تزداد يوماً بعد يوم ولا نرى سوى أفخم السيارات وأغلاها يسرح بها ويمرح أبناء المسؤولين عسكريين ومدنيين، ويسببون حوادث السير وتتحطم السيارات وتدفع سائر تكاليفها من جيوب المواطنين الفقراء دافعي الضرائب. إنني هنا من موقعي محامياً مدافعاً عن حقوق المواطنين وناشطاً في جمعية حقوق الإنسان أطالب المسؤولين، جميع المسؤولين أن ينظروا لمسألة رفع الأسعار نظرة واقعية ترحم المواطن الفقير وتأخذ على يد الغني الفاسد لتحول بينه وبين الدفع نحو زيادة الهوة بين طبقتي الشعب. إنني أهيب بالرئيس وبمجلس الشعب وبكل مسؤول أن يعوا دقة المرحلة التي يمر بها المواطنون خاصة بعد التدفق الهائل من الإخوة اللاجئين العراقيين إلي سورية، كما أحذر من مغبة أي خطوة تخطوها السلطة تؤدي لزيادة معاناة المواطنين الفقراء، فقد بلغ السيل الزبى وجاوز الحزام الطبيين.

              

    * محامي وكاتب من سوريا.