الرفض والقبول خياران متقابلان

الرفض والقبول خياران متقابلان

ولكل منهما متطلباته

د. عناد السرخي

[email protected]

تحظى الحروب باهتمام البشرية الخاص على المستويين الشخصي والجماعي للقوى المتصارعة،تديرها القوى السياسية صاحبة القرار، ويخوض غمارها البشر بما عرف عن طبيعتهم،فهي اذا ليست مجموعة تناقضات، بل نشاط عنيف لعصف سياسي تحكمه الاهداف التي تحرك العملية الحربية بهدف اخضاع الخصم الى درجة اذلاله، ومن ثم خضوعه واستسلامه،وبالتالي انصياعه الكامل لشروط المنتصر.العمليات الحربية محورها العنف المطلق بعيدا عن الغايات السامية التي تشن من اجلها ايا كانت وبأي فلسفة صيغت، وهي في النهاية اسلوب لتحصيل انجازات او استحقاقات باسلوب همجي ،ما يعني انها ليست عمليات عبثية او نزوات لقوى مجنونة ،لا هدف لها سوى استعراض العضلات الميكانيكية كما لو كانت المسألة عملا بلطجيا لشلة من الزعران في هذا الزمن التكنولوجي الصاخب،الذي من شأنه ان يقلب معادلات الرجولة والشجاعة والمبادئ والعقائد الى عجز مطلق ،متى كان للقوة لسان واذرع ووسائل لا نقوى على مقاومتها ولا نملك ما يوازيها كفاءة.

طبيعة الحروب وقوانينها هي مادة ازلية في المضمون والشكل والنتائج والاسلوب.انها دماء ودمار لا رحمة فيها،يختلف شكل ادواتها ،تتطور قوتها ومدى سرعتها في حسم النتائج،وتتجاوز في كل المقاييس الطبيعية البشرية قدسية الانسان كروح، كونها الواجهة التي تحدد نهايته بالاذعان المطلق لاستحقاقاتها ،فهي اذلال وقتل وتجويع ومصادرة للحريات بأبسط اشكالها.قبل صناعة البارود كانت الحروب منازلات تعبر عن نوازع الانسان المجرد الذي يسعى لتحقيق غايات محدودة الاهداف بأدوات حية المشاعر ،فيها القوة والحاجة والرغبة الشخصية بالثأر كما فيها الخوف والاقدام، لهذا وجد المتصارعون في ساحة المعركة حاجة ماسة للتعارف على الكثير من معايير هذه المنازلات واحكامها ،حتى باتت اصول واخلاق. من راجع السيرة الذاتية لهذه العلميات الحربية على اختلاف مسمياتها بدءا من الغزوات والى الفتوحات الاسلامية مرورا بالحروب الاهلية ،التي سبقت تكوين الجيوش ونشوء الدول الاوروبية الحديثة،لا بد وان يلاحظ روح الانسان وعمق نوازعه كما في قابيل وهابيل.

اختلف مفهوم الحرب كما اختلفت ادواته وصانعوه، فالقرار السياسي غدا في ايدي من لم يقد الحروب، بل ربما في ايدي شلة من الجبناء والمرضى النفسيين ،لان قوة التدمير لا تتطلب الشجاعة بقدر ما تتطلب الحكمة او المغامرة، فمتى فقد صاحب القرار الحكمة والشجاعة او تحول الى جبان وطائش،كلما اصبحت الحروب عملا جنونيا كارثي النتائج ،تختزل ادنى معايير الاخلاق والقيم ايا كانت.في اعقاب تطور مفهوم الحرب المعاصرة،التي تقوم على اساس المفهوم الشامل للقوة المطلقة العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية.اصبحت الحروب اكثر تعقيدا في اهدافها وغاياتها والنتائج التي تسعى لحسمها باسلوب المواجهة العسكرية.فهي من ناحية حروب تكنولوجية مدمرة وشاملة ،لا تستثني ايا من عناصر الخصم الا تلك التي تخدم القوة المهاجمة كما هو الحال في منابع البترول العربية ،وهي من ناحية ثانية تنطلق على قاعدة تأسيس قوى معادية لنظام البلد المعرض للهجوم،كما هو حال التيارات المتعاونة مع الولايات المتحدة في العراق وغيرها ،ومن ناحية ثالثة تهدف نظرية الحرب الحديثة الى تغيير نمط السلوك والعقائد للشعوب فضلا عن تغيير انظمة الحكم والاعداد لقوى ادارة جديدة ،هي اشبه بمقاول احتلال من ابناء البلد نفسه،والبعد الاكثر خطورة هو حقيقة عدم وجود خصم حقيقي بل العمل على اختراعه ،كما هو الحال في عمليات الحسم العسكري الامريكي في العراق وليبيا والسودان وموريتانيا  ،هذا الواقع الذي يعني بأن الحروب الحديثة تقوم على اساس ترتيب اوضاع تقع في خدمة الاقوى ،ما يعني انها تقوم على اساس ايدولوجية التفوق المطلق،التي تجعل من تلك القوة المهيمنة في مقام المفوض الذي حظي لكفاءته وقوته بتوكيل من الله سبحانه وتعالى لادارة شؤونه على الارض ،"معاذ الله".

ان حقيقة الصدمة الامريكية في المنطقة العربية تحديدا هو فشلها المطلق في تحقيق احد اهم اهدافها الممثلة بتغيير سلوك وعقائد الشعوب العربية،فكلما ظنت بأنها اقتربت  من حسم هذه الغاية في بلد ما ،فوجئت بالجماهير تقلب الواقع المستجد رأساً على عقب، هذه الحقيقة التي تطيل امد حروب امريكا وتدخلاتها في المنطقة،الى مستوى بات يهددها كقوة عظمى ليس في العالم فحسب،بل وفي عقر بيتها الامر الذي يؤكد مدى تنامي مشاعر عداء العالم للولايات المتحدة على المستوى الشعبي ،والضيق الى حد الذعر الذي تبديه العديد من الانظمة الرسمية في العالم.ومع ذلك فهي لا تزال ماضية في تاكيدها على تحقيق شيء من اهدافها ولو بالحد الادنى الذي يؤهلها لحفظ ماء وجهها عالميا.لكن نجاحا واحد في هذا الشأن لا يعني بالضرورة تراجعها عن هذا السلوك ،بل تاكيدا على استمرارها،وفشلها لن يأتي الا لأسباب امريكية موضوعية ،تخص الشعب الامريكي متى انتج خيارات بديلة من شأنها لجم هذا الجنون.ان عقلية رجل الكاوبوي الامريكي لا بد وان تتراجع، فالغرب الامريكي شيء والرمال المتحركة في الشرق الاوسط شيء اخر.كان بامكان الولايات المتحدة تحقيق اهدافها النبيلة كما تدعي لو مارست دور القاضي العادل بدلا من سلوك نهج الجلاد الذي لا يرحم،لأن المنطقة العربية تحديدا هي الاكثر اهلية للتعاطي مع كل ما يتعلق بالاخلاق والقيم،هذه الحقيقة التي كانت من الممكن،ان تجعل من اليهود في منطقتنا جزءاً منها لا اعداء عليها ،انما اختارت امريكا هذا السلوك،فكان للعربي هذا المواقف التي ستتطور الى اشكال لم تعهدها المنطقة ابدا.

الصراع في منطقتنا سيستمر الى امد طويل ،والحديث على ان الفرصة قد حانت لبدء مفاوضات سيساية جادة مع الاسرائيليين ،هي قصة متكررة شهدنا فصولها ونهاياتها في احلام وافلام كثيرة.لقد تراجع العرب مجتمعين عن الكثير وتجاوزنا الكثير، وقد اعطوا في المبادرة العربية ما لم تكن تتصوره اسرائيل نفسها ،ولأنهم تقدموا بهذه المبادرة من واقع عجز وتركيع وفي محاولة يائسة رغم موضوعيتها استنادا لاذعاننا لوسائل الحرب المعلنة علينا بأدواتها واهدافها وتفاعلاتها التي لا تزال قيد التوسع.ان اسرائيل بطبيعة الحال ستقبل ولا تقبل وستلف وتدور وتتجاوز وربما تعيد احياء مبادرة الطريق ،او تاتي باخرى جديدة بثوب مزركش واسم مختلف ،يجمع شذرات اسماء المبادرات كلها ،لكنها ستؤكد على تحقيق انجاز في قلب القدس وستقضم نسبة من اراضي الضفة الغربية بعضها مأهول بالمستوطنات واخرى اراض خالية ،مقابل عرب الجليل واراضيه فيما يعرف بتبادل السكان والارض ،ونحن لا نزال نفكر وندرس ونحاول ان نتفق حتى تشتعل مواجهة اخرى سنكون فيها حلفاء او شركاء،او صم بكم لا يسمعون ولا يفهمون.صحيح اننا لم نهزم ولا نزال نحارب بمقاييس ومضامين مختلفة ،الا ان نتائج الحروب بمنطق لوجستي مجرد تؤكد عجزنا وتركيعهم لنا كامة عربية مترامية الاطراف وهائلة المقدرات ،فهل نطلب استحقاق عجزنا ونتائج اذلالهم لنا في بعدهما السياسي بان نغلق الطريق عليهم ونقطع اوصالها .اوليست المبادرة العربية تقع في تلك الحدود والنتائج؟،ام كان تجاوزنا لهذا الاعتراف الواقعي خشيتنا من ان يسأل أي منا ،ماذا بعد رفض هذه المعادلة؟،وهل نملك خيارات اخرى ام نحاول تسويقها بمحتوى جديد يفرغها المضمون ويحفظ لها مجرد اسم.

المبادرة العربية هي معركة سياسية جديدة ،وفقنا وللمرة الاولى في خوضها شبه موحدين بنسبة عالية ،وهي موقف حكيم وعقلاني لاسباب لم تتجاوز عنوان هذه المقالة،هي ليست نصرا ولا قوة وانما افرازات تاريخ طويل وواقع مؤلم ومستقبل اشد ظلاما من ايامنا هذه،وعلى الجامعة العربية ان تعمل على تفعيلها كمحرك اساسي معبر عن ارادة امة ،لا كوسيط او مروج مشروع حل ،والا تم الالتفاف عليها ،واذا ما ردت هذه المبادرة على اصحابها فلا بد للعروبة من موقف يحفظ ماء وجه قادة الامة ولو بالحد الادنى.

ان التلاعب بالمفردات وتسويق الحجج المنطقية منها والفلسفية،ليست بالضرورة هي الحق في اتجاه واحد،فالقضية تحمل اتجاهات اخرى ومسالك متعددة حبذا لو نتعلمها او نحتذي بها ،هذه البصيرة النافذة المؤمنة ،التي عبرت عنها وزيرة خارجية الفيتكونغ في المفاوضات مع حكومة امريكا ،عندما اجابت عن سؤال لمفاوض امريكي يطلب مقابل سياسي لوقف العلميات العسكرية على فيتنام ،حينما اجابته:من قال انا نطلب منكم وقفها،ليست لدينا مشكلة مع استمرارها ابدا،فان كانت لديكم مشكلة معها فانا جاهزة لمناقشة ما ستدفعونه ثمن قبولنا لوقف الحرب معكم ،لتستمر الحرب حتى تحسم ما بدأته، فأنا لا امثل أمة مهزومة، بل شعبا يقاتل ،لست هنا بهذه الصفة ولا اراكم منتصرون في حربنا.

ان اشكاليتنا تكمن في مدى الخلل الذي اصاب اسس وقواعد فلسفة المواجهة التي تقوم على مبدأ استخدام القوة بمفهومها الشامل، بحيث تحولت عناصر القوة لدينا الى اسباب ضعف،لأن هذه الاسس قد تعرضت الى استهداف طويل الامد،فاحلام الوحدة قد تلاشت وتحولت الى اشكال من التضامن المعبر عن العزاء ،وتنميط تكريس القطرية والتشرذم الطائفي والعرقي.وفي طريق التساقط المستمر ستخرج دول عن العروبة،وطوائف عرقية ومللية ستطلب الانعتاق والتحرر عن الاوطان الأم ،بلاد تحتل واخرى على الطريق .لا نملك نفطنا واي من خيرات بلادنا،نعطش مع وفرة المياه، ويجوع المواطن رهنا لمواقفه.فقد طرقت الحروب كل مناحي حياتنا واصبحنا في وضع انفلاش شامل، لا تحكمه المعايير ولا يردعه النظام.اختلت مقاييس القيم ،وانتهكت عذرية الجماهير البريئة بمدى ما تلوثت من فلسفات .لكل ذلك فنحن اما خيارات محدودة لا خروج عليها ،وان حاولنا كما هي العادة تزيينها بشعارات ومبادئ تسويقية لا اكثر،وهذه الخيارات تقع في حقيقة اقرارنا بالعجز وتسليمنا بمدأ الاذعان وانتهاج اسلوب المناورة السياسي لتخفيف وطأة الهزيمة وشروطها،وبالتالي نتائجها كما هو حال المبادرة العربية وحقيقتها،هذا السلوك الذي كان شأن امم وامبراطوريات ودول خاضت صراعات وحروبا فيما بينها.والخيار الاخر استمرار المقاومة الى ان يصل الطرف المعتدي الى قناعة مفادها عدم قدرته على اذعان الخصم ،بغض النظر عن مسألة الحسم العسكري المعروف بواقع احتلال الارض ،او انهاء رأس النظام السياسي للبلاد المحتلة،الامر الذي يعني تراجع المعتدي ووضعه في موقع من يبحث عن حلول تلبي الحد الادنى من شروطه.ومن غير اجماع على أي من الخيارين فهذا يعني ان تتحول ساحة المواجهة الى واقع خلاف مستمر بين القوى ذات وجهات النظر المختلفة في موضوع التحرير واسلوبه ووسائله،تلك الصيغة التي كانت حالة معظم حركات التحرر ،عندما اختلفت وتصارعت اثناء وقبل مواجهة العدو المركزي وبعد الانعتاق عنه، فهل نستمر في المزايدة او نتحلى بالفطنة وقد وصلنا الى مستوى الحضيض وبدأت رحلتنا في محيطه.

              

    * .عناد السرخي أستاذ التاريخ في جامعة القدس.