الوطنيون الجدد
د. عناد السرخي
لانزال نتخبط الى اليوم في تحليل شأننا الفلسطيني بين من يحمل المسؤولية ومن يحملها لغيره، بين السبب والمسبب، وبين من يؤمن بنظرية المؤامرة ومن ينكرها، واجزنا لانفسنا ان نتجاوز كل المتغيرات والتفاعلات الاقليمية والدولية وظروفنا الخاصة جدا. يحلو للبعض ان ينسجوا الوقائع، ويصوغوا كل الاسباب، ويحبكوا عقدة حكايتنا مع هذا الزمن منذ فجر الانتكاسة الاول. ومع اول خيط من بداية الحكاية راحوا يسلسلون الاحداث، ويتلاعبون بعقولنا الصغيرة والكبيرة سواء بسواء. ولان الجذور التي سيصلون اليها هي من وهن الحقيقة، فلن يلامسوا بذلك الحقيقة او حتى الاقتراب من اهدابها.
ومع هذه الفوضى راح قطاع واسع من الشعب الفلسطيني يغيبون انفسهم عن صيرورة الاحداث وتفاعلاتها، فغدت همومهم مرهونة بظروفهم الخاصة، وهم محقون بما ذهبوا اليه. وقطاع اخر ما انفك يبحث عن وسيلة للخلاص باقل السبل خسارة، فمنهم من رأى في الهجرة بابا مفتوحا ، فباعوا ما يملكون واستقروا في غير هذا البلد، ومنهم من ينتظر الفرصة متى فتحت لهم الابواب واتيحت لهم الظروف، ومع ذلك نرى اخرون وهم كثر يتألمون ويصارعون حتى الرمق الاخير تشبثا بهذه الارض وولاءا لاهلها، ما يعني ان قطاعات الشعب الفلسطيني ليست جميعها في سلة واحدة، الامر الذي يتطلب توازنا دقيقا من قبل ذوي الشأن في علاج شأننا بما يضمن تحقيق نقلة نوعية الى الامام لا التراجع والانتكاس.
الا ان من بين قطاعات الشعب الفلسطيني فئة وهبت نفسها للشياطين، فغدت اعمالهم عربدة ونهبا وسلبا وفتكا بالاعراض والقيم واعتداءا وقتلا. وفئة اخرى لا تقل خطورة عن الاولى راحت تعيث في الناس فسادا، لا يعرفون غير افساد الناس بمنطق ونهج هو اشبه الى العمل المنظم منه الى رغبة في تحقيق مصالحها. القيم لديهم المال والجاه والسلطة والالقاب وشرعنوا كل السبل الى حيث اهدافهم المريضة. الوطن لديهم وعاء والسلطة مصالح والناس إمعات، لا يقيمون وزنا لغير فاسد او مزركش في صفته وشخصه، الى درجة اصبح معها شعبنا يعاني احلك ايامه سواداً عندما اكتشفوا عمق ما ابتلوا به. انهم ببساطة قد شوهوا مفاهيم الناس ولوثوا براءتهم ونقاءهم، فمن يملك المال وان كان ساقطا مفسدا فهو سيد ووجيه، ويقدم على الكفاءات وذوي الاخلاق، ومن يتربع على كرسي وان كان رسما دون محتوى فهو عزيز القوم وكبيرهم ، ومن اخرج من جيبه دولارا صار وطنيا يعبر عن اتجاه ورؤيا.
لقد اصابنا القرف من هول الفساد حيث لا يعقل ان يتقاضى نحو سبعة عشر فردا من اسرة واحدة مرتبات شهرية لسنوات طويلة دون ان يكون لهؤلاء أي وظيفة او كيان عمل، وحيث لا يمكن ان نستوعب التنظيمات، وقد اصبحت ازلاما ومستزلمين، اما هؤلاء ممن يعبرون عن النقاء ونظافة اليد فهم ليسوا الا مغفلين لا حول لهم ولا قوة، بينما تتعربد فئات ساقطة لتشهر اسلحتها الغادرة في مواقف استعراض للقوة والجبروت، بينما تفسح لهم المجال قوات امن الاحتلال ليعيثوا في الارض فسادا، فبأي عهد يتزعم الجواسيس وسماسرة الاراضي جاهات الاصلاح او تقويم دروب الاعوجاج، يقلبون الخير شرا،فيهبون جماعات لمحاربة واسناد الباطل ويشكلون شللا لمناصرته واسناده. بالامس فقط تطاول هؤلاء على مؤسسات السلطة وصروح الوطن الاكاديمية، اعتدوا على الاراضي والممتلكات وتبلطجوا دون رادع حتى لف الخجل والانكسار قوات امن السلطة وهم في غير قوة وحيلة.
لمذا تشقلبت الامور، وانقلبت الموازين وقد كبلت الاسود في سجونها وبات الحر الشريف اسيرا متجرعا الغيظ؟ ومن حوله المندسون يرتعون في ربيع خير العهد الجديد وكل عهد جديد يفتح وباب دولار يشرع، يستدعون الى ولائم الكبار والمستزلمين، والكاظمين الغيظ شرفا توصد في وجوههم اوكار ما يسمى بالمصلحة العامة والدكاكين الخاصة، فلا حق ولا استحقاق، اكتب لنفسك سيرة، لفقها واشهد عليها زمرتك المستبطلة في زمن الوهن تصبح وطنيا ولو كنت جاسوسا، وتغدو من الاشراف وعلية القوم ولو لم يكن في قلبك ولو ذرة ولاء لهذا الوطن. فانت لم تعتقل ولو لساعة، وانت ارادوا فبركتك واكسابك وجها نضاليا مزيفا وانت الفدائي الذي لم يعرف عن الوطن غير مرقده، فاصبحت مسؤولا كبيرا فزوجتك مناضلة وكل اهلك ومقربوك.
نأسف لهذا الخلل في هذا الزمان والمكان، فانت بلبل يغرد خارج السرب. اهتف معنا يحيا الوطن على هذه الحال، حال اللا حال عندما تتدفق ينابيع الدعم وسبل الاسترزاق، فهناك مغفلون يريدون الاستزلام، نستزلمهم معا ونعيش في معية الازلام مستزلمين. يحيا الوطن حيث لا حسيب او رقيب. يحيا الوطن متى كان الوطن مشروعا مربحا، اما المعتقلون والاسرى فهؤلاء هم الضعفاء، فقد اعترفوا باعمال لم يرتكبوها، فبركوها لانفسهم ليصنعوا مجدا، فهم في مجدهم يقبعون ونحن في العز متربعون وعلى الارض عاملون، فهذا زمننا ولكل زمن رجاله، فهل تفيد وتستفيد او تنحى عن الطريق ولله في خلقه شؤون.
كم عملية سطو شهدت يا بلداتي الوادعة بين البين محررة. كم حادث قتل وكم الف الف عملية بلطجة وعربدة. هل يعرف سائقو المركبات شيئا عن قوانين السير؟، وهل مركباتهم مؤهلة ومرخصة؟، هل كل مشاريع التطوير ظلت مطورة، تحولت الى فوضى وساحة زعرنة. هنا شيكاغو ثلاثينيات القرن الماضي هنا بلدات الخربطة، احتلوا المؤسسات، هاجموا مخافر الشرطة والجامعات، كثفوا من عمليات السطو والعربدة، وابدءوا حروبا عشائرية بينكم فلا سائل ولا مساءلة، فمن يفترض بهم حماية الامن بموجب قوانين الاراضي المحتلة يفتحون الابواب لكل مفسدة، ويلاحقون كل من يدعي او من يظن على انه منتم الى امن الوطن واجهزته، وعندما يمر موكب كبير الوطن، فلا عجب ان رأيته يصطف في الطابور الكبير وسائق فورد بيضاء يتحرش بموكبه كما لو اراد ان يقول له لست الا مثلنا بل واقل مرتبه.
في هذا البلد توزع الاهانات يمينا وشمالا وفي جزء منه يظنون على ان ما تقع بيوتهم خلف الجدار هم قوم خونة، يلقون على سياراتهم الحجارة، يسرقونها لانها صفراء اللوحة، ومن وسيط الى اخر يدفع المقدسي اكثر من نصف ثمن سيارته لاعادتها وهي شبه مدمرة. الرحمة الرحمة وشيئا من الخجل والكرامة هو سر المسألة.
لقد اصبح شعبنا يعاني من انماط سلوكية غير عادية، واصبحنا في حاجة ماسة الى التأكيد على التعليم التربوي لمدارسنا وجامعاتنا، فبالعلم نستطيع صناعة طائرة وبجهلنا يسهل تدميرها. نحن لا نقصد بالتعليم التربوي ان يعرف طلابنا الكثير من اسماء المخيمات والقرى الفلسطينية المدمرة، او الوان العلم الفلسطيني، بل كيف ينتهج الفرد سلوكا تربويا حضاريا في المدرسة والجامعة والشارع والمقهى والمستشفى والمتنزه. يجب ان يدرك الطالب بان المعلم يحظى بمكانة الرسول وكبير السن بمثابة أب للجميع. يجب ان يعرف ان المدرسة هي بيته الثاني وجامعته هي صرح مملوك للوطن واهله، وليست مكانا للتجاذبات الحزبية والسياسية وافتعال الطوش، ليدرك الشاب ان الجهاز النقال وسيلة اتصال لا اداة مسخرة وبهدلة، يجب ان نعمل على تعزيز انتماءات المواطن وتجذيرها، هذا السلوك الذي لا يمكن ان يكون نهجا ما لم نكن نحن كبار القوم في مقام المثال الايجابي الذي يحتذى به بدلا من تعزيز نهج الفساد والافساد للاجيال القادمة.
مؤسساتنا الاعلامية مشغولة باثارة الفتنه الفصائلية، وكانما اصبح الشعب وكل الشعب حماس وفتح، لا شغل لهم الا التحريض كل على اخر بالادلة والبراهين والشهادات الحية وغير الحية التي لا تعزز غير نمط العداوة والكراهية والاحقاد المقيتة. نحن لا نريد حربا اهلية ولن يتورط شعبنا الفلسطيني في الضفة الغربية تحديدا في هذه الفتنة، لانه اكثر وعيا من ان يتورط بها، وهذا لا يعني ان اهلنا في غزة مختلفون عنا بل لان مصيبتهم اكبر وظروفهم اكثر تعقيدا.
لنعد الى نهج التسامح، ونكف عن التخوين والتكفير والتآمر، فجميعنا في ذات الشرك وفي مهب ذات الريح والسيل الجارف، فاما ان يكون خيارنا التصالح والوحدة، والا فما هي مشكلتنا مع امارة غزة ودولة السلطة في الضفة، اذا كان هذا الشكل من الخيارات القصرية يجنبنا شر الاقتتال والفتنة، فلنفتح لهم سفارة في بلدنا ونؤسس لنا سفارة في امارتهم، نجري تبادل سكان بين رئتي الوطن الذي كان، يبنون مدينتهم الفاضلة ونبني دولتنا العلمانية الصغيرة ونعيش بسلام، نوثق عهودا ونرسم حدودا وكفى الله المؤمنين شر القتال. انما ما يجري الان هو في الواقع تكريس لنهج الانفصال، ويبدوا ان هذا الواقع قد استطاب للبعض او بالأحرى يقدم اهداف طرف على اخر، مع علمنا ان المستقبل يحمل حلولا لهذه الاشكالية الا ان المستقبل البعيد سيعمق الاحقاد، وسيكون ذلك المستوى الذي سيشعل فتيل المواجهة القادمة بسهولة ويسر.
متى يكف اولو الشأن عن نهج تسفيهنا، ونحن في هذا البلد قد امتهنا التنقيب عن الجذور والفروع ونحن ندرك وندرك ولكنهم لا يدركون بان هذا الشعب الصامت يعرف ويدرك ما يظنون انهم قد اخفوه وزوروه، وقبل ان تحسموا نتائج الانتخابات القادمة لصالحكم فاعلموا ان الناس قد اطاحت بكم سلفا، لان وسطاءكم ومستشاريكم والمعسعسين اخباركم كاذبون، ولان شعبنا متلهف بأن تخسف الانتخابات القادمة كبار المفسدين والمتسلقين والمقنعين والمزركشين بثوب حماة الوطن المستزلمين،فلا صدقت استطلاعات الرأي ولا علم المنجمين.
القوة التنفيذية لا تزال مستمرة في نهجها العدائي ضد ابناء حركة فتح وحماس تتصرف كحكومة شرعية في قطاع غزة ،في حين ابدى الفتحاويون اقصى درجات ضبط النفس، وامتنعوا عن ردات الفعل المنظمة ما عدا تلك الحالات العفوية التي خرجت عن حالة الوعي المميز لكبار قيادات الحركة،التي عملت على احباط أي محاولات لتصدير الفتنة الى الضفة الغربية،الامر الذي لن يكون من اليسير بمكان السيطرة عليه مع تصاعد حدة استفزازات ابناء فتح من قبل حماس في غزة، كما ولا يمكن ضمان كبت خلايا العبث من المندسين في الطرفين.كما ويجب على حركة فتح ان تنبذ من صفوفها قطعان المندسين من الفتحاويين الجدد الذين لا يقيمون وزنا لغير مصالحهم، والذين باتوا يشكلون وجه فتح المستقبل .اما وقد بدأوا يدركون على ان جسر الهوة بين اقطاب فتح ما عاد ممكنا في اعقاب فشل كل محاولات الاصلاح بسبب تجاوزها البحث في جوهر ومحتوى منتسبيها فقد فتح باب الخروج على مصراعيه ،لمن لم تعد فتح تعبر عن نهجه ومحتواه،كما هو حال الفئة التي لم تعد ترى في فتح وعاءا مصلحيا لها،المتهافتون منهم على الاحزاب الجديدة كثر، والكاظمون الغيظ وصلوا الى حافة فقدان الصبر ،وآخرون بدأوا يشكلون تحالفات جديدة تقدوم على مبدأ الاستزلام حيث فتح منظومة فهم ثوري فيها من مساحة الاختلاف بقدر ما فيها من اسس وفاق وتجانس واحتواء ايدولوجي.كانت الحركة العمود الفقري لحركة التحرر الوطني الفلسطيني ولكنها ترزخ اليوم تحت نير الافساد والتسلق،وباتت مستهدفة بعمق لاتجاهات مختلفة ،لأن في قوامها وقوتها ما يؤهلها للنهوض من جديد لو تجاوزت ظاهرة الاسترجال ،التي تغيب طرف وتستحضر آخر وبذلك تقصي وتستجذب كما تنفر وتؤلف.الا ان واقعنا حدود الفوضى والخربطة ،فساحتنا الفلسطينية مكلومة نازفة،بدت فيها الاحداث والوقائع المؤلمة سيدة القرار وصاحبة الحكم على الامور،فلا سبيل لنا الا انطلاقة جديدة تخرجنا من هول ما نحن فيه بوعي وعلم واسناد تربوي حضاري يجيش له كل من يحمل ذرة انتماء لهذا الوطن واهله،والا سوف نغوص في المجهول القادم الذي لا يحمل غير التشرذم والفتنة طالما لا نحمل شعلة انتفاضة الانتماء وسحق الرذائل،فحسبي على امة فقدت بوصلتها، وتاهت في كيظ صحراء حضارة العهد الجديد التي جعلت من الانسان مجرد امعة.
* .عناد السرخي أستاذ التاريخ في جامعة القدس.