فوضى وغياب التخطيط في الساحة الفلسطينية

د. عناد السرخي*

[email protected]

غياب التخطيط يعني ان يفقد النظام قدرته على التطور وبالتالي فشله،هذا الغياب الذي نعايشه بابسط الامور،في بناء مدرسة او مستشفى،او في شق طريق والى السياسات العامة ما يعني اننا تائهون بالمطلق،نسير باتجاه المستقبل بعيون لا ترى او بالاحرى يزحف الينا المستقبل كما لو كان اعصارا يهدد نظامنا وحياتنا في زمن نعجز فيه عن المواجهة الايجابية،فالطريق التي عبدنا في وقت سابق نعيد تدميرها مرة وعشر والمدرسة بعد عام من بنائها تعجز عن استيعاب طلاب محيطها البيئي.اما في مجال السياسة فنحن رغم تداولنا لها وحديثنا فيها نتشدق لا اكثر.اننا اشبه بفأر تدفعه الغريزة الى حيث الطعم وبذلك يدخل المصيدة عن طيب خاطر مرة تلو الاخرى والى الابد.والى ان نقر باننا كذلك في لحظة ما في المستقبل القريب او البعيد،الذي يكون قد انقضى فعلا في زمن ما نكون قد اكتشفنا فيه على ان اصلاح مالطا لن يأتي الا بعد خرابها بالكامل.والى من كان مسؤولا عن هذا الخراب لا بد وان نسأله بتواضع،هل دخلت حماس العملية الديمقراطية على اساس احترامها لميثاق منظمة التحرير وبالتالي السلطة،ام افترضنا ذلك؟ في الحقيقة لقد دخلت حماس على اساس برنامج مختلف هو اشبه بمشروع انقلاب وهو كذلك.اما كان يفترض التوقيع سلفا على تعهد قانوني واضح وملزم شأننا شأن العالم كله.

ان الديمقراطية هي عملية سياسية راقية وسلوك تربوي شامل ونحن اقرب الى من حفظ القاعدة عن ظهر قلب وتعثر في تطبيقها منذ اللحظة الاولى،فديمقراطية حماس تعني انقلابا على فتح،وبنفس المنهج تنقلب فتح على حماس وغيرها وهكذا دواليك،ما يؤكد على ان الديمقراطية لدينا ليست منهجا مؤسسا بل شبحا لاتجاه قادم قد يطيح بأبسط ما قمنا ببنائه،وهذا ما يفسر رفض العالم للنتائج الحقيقية للانتخابات العربية،لأن الديمقراطية تعني لدينا انقلابا جديدا وتفسر من قبل الغرب على انها كذلك،حيث تعبر نتائجها دائما عن تحول جذري للسياسات الحزبية،اذ تسعى الجماهير الى التغيير الحقيقي الى ما هو افضل،في حين تهدف الاحزاب و القوى الجديدة الصاعدة الى الانقلاب والاطاحة بالنظام القديم وعليه ستكون النتيجة خيبة امل وفوضى جديدة حيث لا تسعى الجماهير الى دكتاتوريات جديدة باسم الديمقراطية،كما ولسنا بحاجة الى عملية كهذه تهدف الى عقاب النظام السابق،انما الانتقال الى وضع افضل.

ان الحالة الفلسطينية ليست غاية في التعقيد اذا كان الهدف بناء نظام مؤسساتي شامل،يقوم على اساس فصل السلطات واحترام حقوق الافراد وضمانها،ويمكن في نفس الوقت ان نستوعب حقيقة وجود نظام شامل برأسين في واقعنا الممثل بمنظمة التحرير والسلطة الوطنية الى حين اقامة الدولة واجهزتها لتكون الذراع التنفيذي الجديد.ولكن من غير المقبول اعدام منظمة التحرير قبل قيام الدولة،بل العمل على حقيقة صناعة تنظيم نخبوي فلسطيني مؤسس بالكامل على روح منظمة التحرير ليكون الموجه الاعلى والضامن الاساسي لحماية العملية الديمقراطية وقيادة الشعب الفلسطيني ،وذلك ليس من قبيل التاكيد على الاستئثار بالقيادة لتقاسم المكاسب والمحاصصة وانما لتاسيس اطار نخبوي يقوم على ادارة الشأن الفلسطيني بروح التخطيط والبحث العلمي القادر على توجيه وادارة السلطة الجديدة.ان هذا التنظيم الذي يفترض بناؤه والتأسيس له يجب ان يكون بعيدا عن تداول السلطة والروح الفصائلية والفئوية،انما طاقم واسع من الخبراء وذوي العقائد الراسخة التي لا ترى الا مصلحة الوطن والشعب ولا تنطلق الا من اجلها. وهي بالتأكيد قيادة يجب ان تكون بعيدة عن الاعلام وتقلد المناصب بل خلية تعمل في مراكز الابحاث والتخطيط وتوجه السياسات العامة والخاصة.لكن معضلتنا التي تقع في هذا الشأن تحديدا هي التأسيس لقناعات فردية وشعبية بخصوص تعريف مفهوم النخبة والقيادة ،حيث لا يزال ينظر الى من تقلد منصبا ما في أي مستوى كان على انه قيادي،وبالتالي يصبح هذا محور استقطاب ودائرة مصالح،ما يعني تكالبا قويا للوصول الى المراكز القيادية وبالتالي كثرة التعيينات السياسية والمناصب الوجائهية التي تطيح الى حد بعيد بثقة الناس بهؤلاء لاننا نعرف المنصب على انه قوة ومصلحة وتشريف لصاحبه.

ان ورطتنا متعددة الاطراف والاسباب بسبب غياب التخطيط الشامل بأبسط ابجدياته،ما يعني انه وحتى الان لا يوجد لدينا سياسة ممنهجة لأي شيء كان،انما ننتقل من رد فعل الى أخر.وبهدف التأسيس لواقع جديد على اسس البحث العلمي التجريبي في التخطيط والادارة لا بد وان ننطلق من الثوابت الى المتغيرات ومن رأس النظام الهرمي الى قاعدته،ما يعني ان نبدأ بتعريف وصياغة اهداف منظمة التحرير وتطويرها لتشمل كافة الوان الطيف الفلسطيني ليس على قاعدة الوزن والكثافة،بمعنى ان تمثل القوى بحجم ما تحصد من مقاعد في المجلس التشريعي،لأننا وان فعلنا سنطيح بهذه المؤسسة التي يفترض ان تكون على رأس القيادة، والتي يجب ان تؤسس على قاعدة ثابتة من الفهم الوطني،لأن من سيتربع على أي مقعد فيها بغض النظر عن انتمائه او تعاطفه الحزبي يجب ان يكون على مستوى حمل الامانة الوطنية التي تسقط معها الولاءات الاخرى أياً كانت .لو كان ذلك شأننا لدخلت حماس الانتخابات على قاعدة واضحة ولكان وجودها في منظمة التحرير اتجاها مرغوبا وانجازا لا يقدر بثمن،بدلا من نهج الانقلاب والانقلاب المضاد عوضا عن الاقصاء والاطاحة والتخوين وكل هذا الظلم.اننا اشبه بريشة تقذفها الرياح القوية الى المجهول وما الدعوة الى انتخابات سريعة في اجواء كهذه الا مقدمة لفلتان جديد وطوائف من الخوارج والمنشقين لنعود الى المربع الاول الذي ربما لن نجده في المستقبل.

لا بد وان نتجاوز اتفاق اوسلو وما تلاه من اتفاقات وتجاوزات بما في ذلك شطب بنود من ميثاق منظمة التحرير وحتى الانتخابات التشريعية الاولى التي تعتبر  الحد الفاصل بين ما هو ثوري وما هو مؤسساتي وقانوني على اساس وجود مجلس تشريعي منتخب وبعد دخول المواطن الفلسطيني اللعبة السياسية كشريك محرك وصانع ،هذه المرحلة الفاصلة التي لا يمكن ان نخوض غمارها دونما تخطيط ووعي قائم على اسس قانونية وثوابت وطنية راسخة ورؤية سياسية متفق عليها عند السواد الاعظم من الشعب الفلسطيني وقواه الوطنية،وبغير ذلك ستستمر حالة الفلتان الفصائلي،فمرة نوجه سلاحنا الى انفسنا لنصنع في الارض فسادا وتارة نعلن المقاومة كل على ليلاه لنغير مسار الاحداث والاتجاهات،نخطف و نحرق و ندمر ونتشدق وندلي ببيانات تصعيدية فيها ندين نخون ونبرء.

اننا نعيش واقع فتنة والفتنة بمدلولها اللغوي والاصطلاحي تعني قدرتها على ارهاب العقول وافتتان الناس،فمن ادلى بدلوه فيها لأي هدف كان انما تلوث واصابته النجاسة،فهي الحقيقة التاريخية والطبيعية الثابتة التي لم تتغير.انها حالة عبثية من الافعال والاقوال وهي ضد التخطيط واسسه ومناهجه.نحن لسنا من السذاجة لنسلم على ان كل ما حصل قد حدث هكذا عبثا،لأن دراسة ما حدث تفضي بنا الى حقيقة مطلقة تؤكد وجود اكثر من مخطط فيها.فلا حماس بفعلتها قد ذهبت الى هكذا واقع لمجرد اجراء او خيار لا بد منه لمواجهة ما تسميه بالتيار الخياني،ولا انسحاب فتح وقوى السلطة الامنية بهذا الشكل بالامر الذي يقبل على علاته.ان حماس ليست بتلك القوة التي تؤهلها لتحقيق هكذا انتصار ولا فتح بذلك الضعف والهوان لتمنى بتلك الهزيمة،اذا كان ما نتحدث عنه قضية لوجستية مجردة، وان التحليل المنطقي لما قد يحصل في المستقبل على ضوء ما حدث ويحدث يؤكد على اننا في الاتجاه غير السليم.

              

* .عناد السرخي أستاذ التاريخ في جامعة القدس.