بين اسطنبول والقدس ذكرى وخيال

يرون لندن

إيتمار بن آفي توجه إلى فندق كمينتس . صاحب الفندق ، إليعيزر ليفمن كمينتس ، أشار إلى ضابط تركي كان يجلس في الرواق يحتسي العرق ونظر إليهما بعينيه الخضراوين .

" ضابط مهم جداً " ، همس كمينتس ، هكذا ، قبل نحو مائة سنة ، في القدس ، التقى " الصبي العبري الأول " مؤسس تركيا الحديثة ، مصطفى كمال ، الذي سيسمى لاحقاً " أتاتورك " ، كان في حينه ضابطاً برتبة متوسطة ، وبن آفي كان صحافياً ومفكراً سياسياً جريئاً ، وناشد كمال محادثه أن يشاركه احتساء كأس ، ولاحقاً سيكتب بأن الكحول قصرت عمر " أبو الأتراك " .

في السيرة التي كتبها بن آفي قال : إن كمال تحدث معه " الفرنسية الدقيقة " وأذهله بصراحته . فقد هاجم حكومة " تركيا الفتاة " التي حكمت في حينه بلاده وقال لمحادثه أن في نيته العودة إلى اسطنبول كي يؤثر على ما يجري . وتباهي بكر عائلة آفي في أن أباه أليعيزر بن يهودا ، كان أول المتعثمنين ـ أصحاب الجنسية الأجنبية الذين طواعية أخذوا على أنفسهم الجنسية العثمانية ، وحاول أن يقنع الضابط بأن دولة يهودية مستقلة فقط يمكنها أن تكون صديقة للامبراطورية العثمانية .

بعد بضعة أيام التقيا مرة أخرى ، هذه المرة أضيفت فناجين قهوة عديدة لكؤوس العرق التي احتساها الضابط . وقد حاضر على مسمع بن آفي عن مشكلة شكل الكتابة : " لو كتبت كل شعوب المنطقة بالحرف اللاتيني ، لكان بوسعها أن تتحدث بسهولة أكبر " . ووافقه بن آفي قائلاً : " الحرف اللاتيني هو من نسل الحرف العبري القديم ، وكتبة العبرية ينبغي أن يتبنوه أيضاً " .

" ليتون " الحرف العبري كان أحد الأشواق الرائعة لـ بن آفي . المتحدثون بالعبرية لم يستجيبوا لاقتراحه ، فيما أطاع الأتراك مصطفى كمال .

في ختام الحرب العالمية الأولى حين صعد إلى سدة الحكم في بلاده ، استبدل الحرف العربي بالحرف اللاتيني . وشطبت من اللغة كلمات عربية لتحل محلها كلمات من جذر تركي . كان هذا أحد السياقات التي أنقذت تركيا من تخلفها العنيد .

تذكرت قصة اللقاء في فندق كمينتس في ظل اللقاء في وزارة الخارجية ، التي تقع على مسافة بضعة أمتار من هناك . أسفت لأن تكون اللقاءات بين الأتراك والإسرائيليين لا تجري على مستوى أعلى من المستوى الذي أنزلها إليه داني ايالون . لنا وللأتراك مصالح عديدة ومشتركة ، بل ووجه شبه يوجد بيننا ، وجه الشبه هو في ترددات الهوية . الشعبان يعيشان عملية العثور على ذاتيهما ، هم ونحن نتردد بين الغرب والشرق .

هذا بدأ في نهاية القرن التاسع عشر ، حين اخترع بعض من المثقفين اليهود من أوروبا الأمة العبرية ، وفي نفس الوقت اخترع بعض المثقفين الأتراك أمتهم ، وهذا يجب أن نعرفه بأنه حتى موعد قريب من الحرب العالمية الأولى كانت ترن كلمة " تركي " كتعبير شجب في آذان سكان المدن في البلاد التي تسمى الآن تركيا . " الأتراك كانوا فلاحين ورعاة جهلة ، يعيشون في الجبال النائية ، أما الباقون فقد كانوا " عثمانيين " من مواطني الامبراطورية الهائلة التي امتدت في ذروة امتدادها في الشرق الأوسط إفريقيا الشمالية وثلث الأراضي الأوروبية تقريباً .

عندما جردوا من امبراطوريتهم ركز الأتراك على إعادة بناء قوميتهم الجريحة التي تعود جذورها إلى آسيا الوسطى . وفي ظل ذلك حلوا بالسيف مشكلة الأقليات الكبرى التي كانت تعيش في بلادهم ، فقد نفوا اليونان ؛ قتلوا الأرمن ورفضوا الاعتراف بتميز الأكراد . أما نحن ، الذين تلقينا من الأمم المتحدة قطعة أرض مقصوصة فيها نسبة عالية من العرب ، فقد استغلينا حرب الانبعاث كي ننفي الجماهير ، ولكننا لا نعرف بعد ما نفعل بمن تبقوا .

ومثل الأتراك نحن أيضاً نتردد بين الصلة بالغرب وبين الصلة بالشرق .

شرقهم هو سهول طوران ، صحارى آسيا الوسطى ، مكان أصل الشعوب التركية .

شرقنا هو الهلال الخصيب .

زيارته إلى تركيا بدأها ايهود باراك بزيارة لقبر أتاتورك .التاريخ ، بقدر ما نرغب في التخلص من أثقاله يوجد دوماً في جذور العلاقات بين الشعوب المجاورة .