قليلاً من الإنصاف يا حاضرة الفاتيكان

محمد فاروق الإمام

محمد فاروق الإمام

[email protected]

إن تصريحات حاضرة الفاتيكان الأخيرة يشكل تطوراً خطيراً يمكن أن يؤدي إلى نتائج غير محمودة العواقب، سواء بالنسبة إلى الفاتيكان أو إلى الجهود المبذولة على صعد كثيرة من أجل تعميق أسس التعايش والتسامح بين أتباع الديانات السماوية في منطقة الشرق الأوسط التي جعل منها الغرب وأمريكا بؤرة صراع منذ ستين سنة، بزرعه السرطان الصهيوني في أقدس بقعة من أرضه فلسطين.

دافعنا إلى ما نقول هو ما حملته إلينا وكالات الأنباء عن تضمن الورقة التحضيرية بمؤتمر الأساقفة حول الشرق الأوسط الذي سيعقد في حاضرة الفاتيكان في شهر تشرين الأول المقبل، فتوى تفيد بأن مسيحيي البلاد الإسلامية لا يعاملون كمواطنين.

وتعتبر الورقة التي أذاعت مقتطفات منها وكالة (آكي) الإيطالية والتي تدّعي (أن العلاقة بين المسلمين والمسيحيين يجب أن تقوم على أساسين، أولهما أن المسيحيين مواطنون من البلد نفسه يشتركون في اللغة والثقافة وفي الأحزان والأفراح الوطنية، والثاني أنهم مسيحيون في مجتمعهم ولأجله، يشهدون فيه للمسيح والانجيل).. وكأن المسيحيين في بلاد المسلمين والعرب يعيشون دون هذين الأساسين التي جاءت بهما هذه الوثيقة غير المنصفة.

إن ما جاء في هذه الوثيقة هو تحريض بكل المقاييس ويتضمن حقائق مغلوطة، ويروج لفتنة يمكن أن تزيد المنطقة اشتعالاً وحروباً واقتتالاً.

المسيحيون يا حاضرة الفاتيكان يعيشون في بلداننا الإسلامية والعربية في أحسن أحوالهم وينعمون بكل الحب والود والتقدير من مواطنيهم من المسلمين، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بهم وقال: (من آذى ذمياً فقد آذاني) وهل هناك في أدبياتكم مثل هذا التحذير؟!

المسيحيون يا حاضرة الفاتيكان يعاملون في بلدان المسلمين والعرب كمواطنين ويتمتعون بالحقوق السياسية والقانونية نفسها التي يتمتع بها المواطن المسلم والعربي مهما اختلفت عقيدته أو تباينت آراؤه، وتبوأ البعض منهم مناصب كبيرة في الدول والحكومات التي يعيشون فيها.

وفي هذا السياق نسوق إلى حاضرة الفاتيكان شهادة المسيحي العربي السوري الأستاذ فارس الخوري، الذي كان منصفاً، وقد تبوأ أعلى المناصب في سورية ( نقيباً للمحامين، رئيساً لمجلس النواب، ورئيساً للوزراء لثلاث مرات، ومندوباً دائماً لسورية في الأمم المتحدة، وعضواً في مجلس النواب السوري لدورات عديدة).

يقول هذا المسيحي العربي المنصف عن (الإسلام) الذي درسه وتعمق فيه أنه محققاً للعدالة الاجتماعية بين بني البشر. فمن أقواله في الإسلام: (.. يمكن تطبيق الإسلام كنظام دون الحاجة للإعلان عنه أنه إسلام).. (… لا يمكننا محاربة النظريات الهدامة التي تهدد كلاّ من المسيحية والإسلام إلا بالإسلام).. (… لو خيرت بين الإسلام وبين الشيوعية لاخترت الإسلام).. (… هذا هو إيماني. أنا مؤمن بالإسلام وبصلاحه لتنظيم أحوال المجتمع العربي وقوته في الوقوف بوجه كل المبادئ والنظريات الأجنبية مهما بلغ من اعتداد القائمين عليها. لقد قلت ولازلت أقول، لا يمكن مكافحة الشيوعية والاشتراكية مكافحة جدية إلا بالإسلام، والإسلام وحده هو القادر على هدمها ودحرها). ويؤثر عنه كثير ممن عاشره حبه للإسلام وتعلقه به عقيدة وشريعة، وكثيراً ما أسر باعتقاده هذا إلى زائريه ومخلصيه.

إذا كان يا حاضرة الفاتيكان من أحداث حول صدامات بين المسيحيين والمسلين هنا أو هناك، فأسبابه الحروب الأمريكية الظالمة في المنطقة.. ولكن هذه الحوادث معزولة، ولا تعكس سياسة عامة، وغالباً ما تتم بسبب جرائم عادية، أو كرد فعل عليها، مثلما حدث عندما اقتحم مسلمون كنيسة وارتكبوا جريمة قتل داخلها بسبب ما تردد عن اغتصاب فتاة مسلمة من قبل شاب مسيحي، وكان من بين القتلى حارس الكنيسة المسلم.

ففبل العدوان الآثم الذي تشنه الولايات المتحدة وبعض دول الغرب على بلداننا العربية والإسلامية كانت الكنائس مصانة والأقليات المسيحية في هذه البلدان تتمتع بالأمن والرخاء الاقتصادي.

قليلاً من الإنصاف يا حاضرة الفاتيكان، فمن المعيب أن تغيب عنك حقيقة ما ارتكبته القوات الأمريكية في السودان وليبيا والصومال ولبنان، وما ارتكبته وترتكبه في العراق وأفغانستان، فهذه القوات الغازية لبلاد المسلمين والعرب وكلها مسيحية تسببت في قتل أكثر من مليون إنسان عراقي مسلم ومسيحي، أثناء حربيها الأولى (1991) والثانية (2003) وضعف هذا الرقم من ضحايا الحصار بين الحربين. حتى إن الرئيس جورج بوش الابن الذي أعلن الحرب الثانية استخدم تعبير (سنشن عليهم حرباً صليبية).

المسيحيون يا حاضرة الفاتيكان عاشوا في منطقة الشرق الأوسط في وئام واستقرار لقرون، ولم يتعرضوا للأذى إلا في زمن الاحتلالات الأمريكية والإسرائيلية.

ومن المؤسف يا حاضرة الفاتيكان عدم تدخلك عندما تعرض المسيحيون الفلسطينيون لأبشع أنواع المعاملة على أيدي الإسرائيليين، كما أنك لم تتحركي عندما تعرضت كنيسة المهد للحصار ثم للقصف الإسرائيلي قبل خمسة أعوام.

العرب يا حاضرة الفاتيكان هم أصحاب الدعوات لحوار الأديان، وإقامة علاقات طيبة مع أتباع الديانات الأخرى، ولكنهم يكافأون في الوقت نفسه بالحروب والاحتلالات ودعم جرائم الحرب التي يرتكبها الإسرائيليون والأمريكيون على أراضيهم.. فقليلاً من الإنصاف يا حاضرة الفاتيكان!!