بثينة شعبان..
الاعتراف "بالفشل" فضيلة
لؤي عبد الباقي
[email protected]
باحث زائر في مركز الدول والمجتمعات الإسلامية، جامعة أستراليا الغربية
في
كلمة ألقتها خلال اجتماع لفرع حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم
في
دمشق، وتناقلتها الصحف والمواقع الإخبارية
(انظر
أخبار الشرق يوم الأربعاء 30 كانون الأول/ ديسمبر 2009)، حذرت
المستشارة السياسية والإعلامية في رئاسة الجمهورية السورية بثينة شعبان من خطورة
تعاظم
المد الديني "المتعصب" في سوريا، معتبرة هذا الخطر "تحد كبير..." يجب على البعثيين
التصدي له ومعالجته. فهذا المد، حسب تعبير السيدة شعبان "هو نتيجة فشلنا
وليس نتيجة نشاط
الآخرين". لا شك أن خلف هذا الكشف عن هذه "الظاهرة"، التي بات البعثيون يشعرون
بخطرها على هيمنتهم على السلطة والمجتمع، ما يستحق الوقوف عليه لتحليله وفهم
أبعاده.
بداية أود أن أسجل اتفاقي مع السيدة شعبان في أن "هناك مد ديني" في سوريا، وهذا ليس
اكتشافا غريبا في بلد غالبيته الساحقة مسلمة، بل وأن هناك "تعصب" ضمن بعض التيارات.
ولكن بما أن السيدة شعبان لم تحدد مفهوم أو معايير التعصب التي تحتكم على أساسها،
كان لزاما علي هنا أن أبين مفهومي "للتعصب" والذي أفضل تسميته بالتشدد أو التطرف،
لأنني لا أحصره بالمعنى الديني (أو المتحيز ضد الدين) كما تفعل السيدة شعبان. قد
يكون، بالنسبة لشعبان، ارتداء الحجاب، والحفاظ على الصلاة، وإطلاق اللحية، من أهم
مظاهر التعصب الديني التي ينبغي الحذر منها! أما مفهوم التشدد الذي أحتكم إليه في
تقييم المواقف النظرية والممارسات العملية لأي تيار ديني أو سياسي، فهو يقوم مبدئيا
على إلغاء حق الآخر في التعبير عن رأيه، ورفض التعايش معه، وبالتالي محاولة إقصائه
وحرمانه من حقوقه الفردية أو الدينية أو السياسية. ويبلغ التشدد درجة التطرف عندما
يؤدي إلى ممارسة القمع العنيف والاستئصال المنظم للآخر. وفق هذا المعيار الواضح،
والذي لا أعتقد أن القارئ المنصف سيجد غضاضة منه أو تحفظا عليه، سأقوم بتحليل
وتقييم تصريحات المسؤولة البعثية بثينة شعبان في هذا المقال.
المسألة الثانية التي أتفق فيها مع السيدة شعبان هي أن التطرف الموجود في سوريا
يعود بالدرجة الأولى إلى فشل البعثيين في إدارة السلطة التي يسيطرون عليها، وفي
قيادة المجتمع الذي يهيمنون عليه. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه، وعلينا الإجابة عليه
بموضوعية وحياد، هو التالي: هل من الممكن الحكم على آراء شخص أو تيار ما في غياب
حرية الرأي والتعبير، وفي ظل تفشي القمع والخوف؟ هل من الممكن تقييم مدى تشدد أو
اعتدال التيار الإسلامي الذي يخضع لسيف الاستئصال عبر القانون 49، الذي يحكم
بالإعدام على كل من يثبت انتماؤه إلى جماعة الإخوان المسلمين، ويطبق على كل إسلامي
يعلن معارضته للنظام؟!
التيار الإسلامي في سوريا يتكون من أطياف عديدة واسعة الانتشار في المجتمع؛ أي أنه
موجود فعليا في الواقع الاجتماعي، ولكنه
مغيب وممنوع من المشاركة في الشأن العام. وهو محروم من التعبير عن نفسه، ومن
تنظيم صفوفه ونشاطه.. فالقوانين والسياسات والنظم العامة تملى وتفرض عليه من فئة
ليس فيها من يمثله، ولا يسمح له بالتعبير عن مدى قبوله أو رفضه لهذه السياسات! فكل
من يحاول ممارسة حقه الدستوري في المشاركة السياسية، والتعبير عن رأيه المعارض،
يواجه بالقمع الوحشي، ويغيب في السجون، أو يطارد في المنافي.. التيار الإسلامي شأنه
في ذلك شأن التيارات الوطنية
السياسية الأخرى ولكن بنسبة أعلى وأشد وأعنف.
إذا
كان مفهوم الاعتدال هو احترام الرأي الآخر، وقبول التعايش
معه، ومشاركته في الحياة العامة، فلا يمكن أن نحكم على أي تيار إسلامي، سواء كان
سلفي أو صوفي..مذهبي أو لامذهبي، في سوريا بأنه متشدد أو متعصب، إلا بعد أن تتاح له
الفرصة في المشاركة في الحياة العامة، والتعبير عن نفسه بكل حرية، لنرى كيف يترجم
أقواله إلى أفعال. في الواقع الحالي جميع الأطراف المخالفة لنهج سلطة البعث ترزح
تحت سيف القمع والاستئصال سواء بسواء.. والحق يجب يقال، فهناك شيء من العدالة في
توزيع الظلم والقمع على الشعب!
الطرف الوحيد الذي يستطيع أن يترجم أقواله إلى أفعال، ويفرض أجندته على أرض الواقع،
هو حزب البعث الحاكم، الذي تمثلت أجندته عمليا في قمع الآخر، ومصادرة حقوقه، وإتاحة
الفرصة لانتشار الفساد، وهدر المال العام، والمحسوبيات. فكانت النتيجة، التي اعترفت
بها مستشارة رئاسة الجمهورية بثينة شعبان اعترافا منقوصا، هي فشل سياسة البعثيين في
كافة المجالات، الفكرية والاقتصادية والسياسية. ولا بد أن نظهر عذرنا للبعثيين
الذين لا ولم يشاركوا في هذه الممارسات السلطوية القمعية بشكل مباشر، فنقول لهم
عذرنا أنكم، حين تماهى البعث مع السلطة، لم تستنكروا ذلك، ولم تنحازوا إلى العدل،
إلا ما رحم ربي من بعض الاستثناءات الفردية، كموقف الخبير الاقتصادي الدكتور عارف
دليلة الذي دفع ثمن موقفه عشرة أعوام من الاعتقال الجائر! ففي ظل تماهي البعث مع
السلطة، لا يمكن الفصل بين القمع والظلم، من ناحية، وبين الفكر الذي يبرر هذه
الممارسات ويباركها، من ناحية أخرى.
عندما تعتبر السيدة بثينة المد الديني نتيجة لفشل
البعثيين، وتؤكد أن أمام البعثيين تحد فكري لمواجهة هذا المد، فإنها تصر على وضع
السلطة،
التي ينفرد فيها حزب البعث، في مواجهة المجتمع المتدين. فانتصار وانتشار "التعصب"،
الذي ترجمته السيدة شعبان بفشل البعثيين، يطرح تساؤلات كثيرة حول حقيقة دور
البعثيين في الدولة والمجتمع، وحول فشلهم في هذا الدور! إذا كان البعث قد فشل في
أداء أي دور إيجابي، على المستوى
الفكري والسياسي والاقتصادي، فما هو البديل؟
هل
نغامر بمستقبل سوريا ونستمر
بتجربة فاشلة لعقود أخرى من الزمن؟ هل الدولة والمجتمع والشعب حقل
تجارب، كلما فشلت التجربة نصر على تكرارها بنفس المنهجية الفاشلة؟!
لا
نريد أن نطرح إجابات على هذه التساؤلات نيابة عن البعثيين، بل إن المطلوب منهم الآن
أن يقدموا كشف حساب أمام الشعب، كشف حساب متأخر جدا.. ليدرك الجميع، بمن فيهم
البعثيون السذج الذين تحكم البلاد باسمهم وفي غيبوبتهم، حجم هذا الفشل الذريع الذي
اعترفت به شعبان. كشف حساب يساعد على تقديم تصور حقيقي حول الاتجاه الذي يسير فيه
هذا النظام بالبلاد والعباد، فإلى أين يريد البعثيون أن ينتهي المطاف بهذه الدولة
وهذا المجتمع؟