حرب الوكالة..

والحرب بالوكالة!!

صلاح حميدة

[email protected]

سلّطت العملية التي قام بها الطبيب الأردني همام البلوي ضد ضباط وكالة المخابرات الأمريكية، الضوء مجدداً على نشاطات هذه الوكالة المخابراتية ضد من تعتبرهم أعداء أمريكا، وضد أعداء حلفائها، كما سلط الضوء على جزء من الجبل الجليدي فيما يعرف  بالتعاون والعلاقة بين هذه الوكالة، وبين من يتعاونون، أو من يعملون لديها من أفراد ومؤسسات، و أجهزة استخبارات عالمية، وطبيعة هذه العلاقات، ومداها، مما استدعى من بعض الفضائيات العالمية، أن تستضيف مسؤولين سابقين من الوكالة لتوضيح طبيعة ما جرى، ويجري خلف الستار.

من المعروف أن وكالة المخابرات الأمريكية تشكلت بشكل رسمي بعد الحرب العالمية الثانية - كما تورد الكثير من المصادر- وهي تعلن أنّها تهدف لحماية الأمن القومي الأمريكي، والمصالح الأمريكية حول العالم، وبرزت أهمية هذه الوكالة خلال ما أطلق عليه بالحرب الباردة، بين العالم الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ( حلف الناتو)، وبين العالم الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي.

تميّزت هذه الحقبة بما يطلق عليه (حرب الأدمغة)  بين وكالة المخابرات الامريكية، وبين وكالة المخابرات السوفياتية، وكان يتسابق عملاء وجواسيس هاتين الوكالتين، والوكالات التابعة والمتحالفة معهما، لسرقة المعلومات العسكرية والمخابراتية، والمعلومات والأسرار الاستراتيجية والعلمية، والاستراتيجيات السياسية، وتقدير المواقف وإدارة الأزمات، والحالة الاقتصادية، والتماسك الاجتماعي، وحتى النكت والطرائف، وبث الاشاعات، والتأثير على المعنويات، والحالة والصفات والسمات الشخصية للمستهدفين من هذه الوكالات بالتجنيد أو التأثير أو حتى الاغتيال.

من الطبيعي أن تتخلل هذه النشاطات الكثير من النجاحات والاخفاقات، وتكللت هذه الحرب - وغيرها من العوامل- بنصر للناتو، وانهيار كامل لحلف وارسو. بعد الحرب الباردة، صاغت الوكالة سياسة جديدة تقوم على استمرارية الحرب، والبحث عن عدو، أو أعداء جدد، وكان الهدف الجديد هو الأنظمة السياسية الثورية و الحركات الاسلامية التي تتناقض أهدافها مع المصالح الأمريكية في المنطقة المستهدفة من قبل السياسة الأمريكية والغربية، فبالاضافة للعمل الدؤوب لملاحقة كل مصادر المتاجرة بالسلاح النووي في الاتحاد السوفياتي المفكّك، بدأت الوكالة بالحرب على ما أصبح يعرف بالارهاب، وأصبح العنوان الأبرز لهذه الحرب المطّاطة هو الحرب على ما أصبح يطلق عليه ( تنظيم القاعدة) وطالت الحرب العديد من الحركات الاسلامية في العالم، وبدأت الوكالة حرباً واسعةً من الاختطافات والاغتيالات بلا محاكمة، والسجن والتعذيب وامتهان الكرامة الانسانية والمعتقدات الدينية للمحتجزين في معتقلات سرية عبر العالم، وفي معتقل جوانتانامو، وطالت هذه الحرب المقاتل وغير المقاتل، وبينما عاقبت هذه السياسة من قاتلوا الوكالة ودولتها، جسّدت هذه السياسة ظلم الناس حسب المظهر، وعلى الرأي، وبالشبهة، وقامت بطريقة أخرى بصناعة العنف والارهاب الذي يقتل ويفجّر أي شيء، وبلا تمييز، وبلا أي مسوّغات دينية وعقائدية، فعندما تتضمن أساليب التعذيب الاغتصاب والاهانة الشخصية والدينية، والتجاوز والتعدي على المقدسات والأعراض، والسجن بدون محاكمة لأشخاص لا جرم لهم، أو قاموا بأعمال لا تستحق ما يفعل بهم بسببها، تصل إلى نتيجة واضحة، وهي أنك صنعت أشخاصاً لا يفكّرون إلا بالانتقام والقتل والتفجير، ولا شيء غير ذلك، وما يدلّل على ذلك هو لجوء عدد ممن سجنوا وعذبوا، أو قتل أقرباؤهم للعمل ضد الأمريكان وحلفائهم بأشدّ أنواع العنف فتكاً، والحرص على إيذائهم بأي طريقة، كما أنّ هذه الأساليب في التعذيب والاهانة، فجّرت موجة من التعاطف مع من يقع عليهم هذا الظلم، وبالتالي جنّدت هذه الأساليب المئات، بل الآلاف من المقاتلين الجدد في صفوف من تحاربهم الوكالة وغيرها في كافة أرجاء العالم.

من الواضح أنّ الحرب التي تقوم بها الوكالة على من تعتقد بأنهم أعداء أمريكا، وأعداء مصالحها في العالم، عمل يفوق قدرتها - كما قال أحد قادتها السابقين في مقابلة على الجزيرة الفضائية - وبالتالي شكّل هذا مدخلاً، لما أصبح يعرف بالمقاولة، أو عمل المقاولين، أو ما يطلقه عليهم بعض الباحثين بالمرتزقة، والمرتزقة هؤلاء يؤتى بهم للقيام بالعديد من المهام بالوكالة عن وكالة المخابرات الأمريكية، وتم الاستعانة بهم في الكثير من العمليات التي تقوم بها الوكالة في العالم، وهم ينقسمون إلى عدة أقسام:-

* المقاولون الأفراد:-

وهم في الأغلب ضباط وجنود سابقون في وكالة المخابرات الأمريكية، وفي غيرها من الوكالات المخابراتية حول العالم، يؤتى بهم من قبل  الوكالة عبر عقود مالية مجزية للقيام بعمليات ونشاطات متنوعة بهدف تخفيف الأعباء عن كاهل ضباط الوكالة، الذين يديرون العمل المخابراتي حول وعبر العالم أجمع، في الحرب على ( الارهاب) أو التطرف أو العنف كما يقولون، وأعدادهم وصلت إلى عشرات الآلاف، وبعض هؤلاء عمل في التحقيق والتعذيب والاغتصاب والقتل، في سجن أبو غريب وسجن باغرام وغيرهما، والتي ظهر جزء يسير منها في الصور التي سمح بظهورها للاعلام.

* المقاولون في المؤسسات والشركات الأمنية:-

وهذه الشركات الأمنية تقوم بأعباء كثيرة، ولها مهمّات متعددة، من مرافقة قوافل، وحراسة شخصيات، وعمليات تحقيق، وخطف، واعتقالات، وعمليات اغتيالات وقتل، ومن أشهر تلك الشركات،  شركة (بلاك ووتر) سيّئة الصيت، التي قام أفرادها بقتل الكثير من المدنتيين العراقيين وغير العراقيين من أجل التسلية، أو بدافع الحقد الديني على المسلمين، خاصة وأن الكثير من التقارير تتحدث عن دوافع ( صليبية) وأخرى عنصرية، إضافة للدافع المالي، تشكل معاً، الدافع الرئيس لعمل هؤلاء ضمن الخطة التي تعمل بها وكالة المخابرات الأمريكية.

* أجهزة مخابرات دول مقاولة:-

برزت ظاهرة جديدة فيما يسمى بالحرب على الارهاب تحتاج الكثير من الدراسة والمتابعة، وهي ما يطلق عليها الاستثمار الحكومي والعسكري والمخابراتي  في ما يطلق عليه الارهاب، من قبل أنظمة سياسية ودول عديدة، وخاصة في المنطقتين العربية والاسلامية، وفي دول أوروبا الشرقية، وتجسدت هذه الظاهرة في العديد من النشاطات والعمليات التي تقوم بها المؤسسات الأمنية في هذه الدول لصالح وكالة المخابرات الأمريكية، ووصلت لدرجة أخذ وكالة مقاولة في هذا المجال لصالح الوكالة الأم في واشنطن، على طريقة وكالات الكوكا كولا والماكدونالدز والبيتزا وغيرها، في ظل ثقافة العولمة.

هذه النشاطات ب (الوكالة)  التي أحترفتها هذه الدول وأجهزتها الأمنية والمخابراتية، تمحورت في العديد من الأشكال:-

- السجون السرية:

للتحايل على القانون الأمريكي، فيما يخص شروط الاحتجاز وحقوق المعتقلين، وحظر التعذيب، ولترك الأعمال القذرة للوكلاء، سعت الوكالة لاستحداث سجون سرية وأخرى علنية خارج الأراضي الأمريكية، وهذه السجون معزولة عن الرقابة القضائية والحقوقية، وعن المؤسسات الدولية كالصليب الأحمر، وفي هذه السجون يتم كل الممارسات التي  يراد إخفاؤها عن تلك المؤسسات الحقوقية وعن وسائل الاعلام، وبالتالي ما يتم هناك ليس إلا انتهاك فاضح وجريمة معلنة ومخفية في نفس الوقت، فالذي يسعى لاقامة سجن سري بعيداً عن الرقابة، فهو يسعى تلقائياً لإخفاء ما يجري هناك بحق من يعتقلون ويحقق معهم في تلك السجون، وقد يصل الأمر لموت بعضهم في تلك السجون دون أن يعلم به أحد، وقد لا يعلم ذويه بأنّ إبنهم مسجون  أصلاً، بعد أن اختفى من أحد الشوارع خطفاً.

- مقاولة التحقيق:-

لم تعد قضية الامام المصري في إيطاليا خافية على أحد، حيث قام عملاء وكالة المخابرات الامريكية باختطافه ونقله لدولة عربية، وهناك قامت مخابرات هذا البلد العربي بالتحقيق معه وتعذيبه بأبشع الوسائل، لإجباره على الادلاء بمعلومات تريدها وكالة المخابرات الامريكية، وتبين أن كل القضية لا أساس لها، وهو الآن يقاضي هؤلاء في إيطاليا.

كما أنه لم يعد سراً أن الكثير من الدول العربية بداية من شمال إفريقيا، ومروراً بمصر، وليس انتهاءً ببلاد الشام والخليج، تقوم بمقاولات تحقيق مع معتقلين مخطوفين، تجلبهم وكالة المخابرات الأمريكية لوكلائها في هذه البلدان للتحقيق معهم، عبر وسائلها المعروفة، التي لا تتوافق مع الآدمية والأخلاق والدين.

- مقاولة تجنيد المخبرين:-

تسعى الكثير من وكالات المخابرات في الدول المستهدفة، أو المستثمرة في الحرب على خصوم وأعداء السياسة الأمريكية، للعمل حثيثاً لتجنيد المخبرين للعمل لصالح الأمريكان، وخدمة عملياتهم في العالم أجمع، عبر ظاهرة إرسال المتطوعين لأماكن الصراع، ومن الواضح أن هذه السياسة تحقق نجاحات كبيرة، وهذا يدلل عليه حجم الاغتيالات لتنظيم القاعدة في أفغانستان وباكستان واليمن والصومال، وكذلك ما أصاب المقاومة العراقية من انتكاسة بسبب هذه الاختراقات. وبالرغم من النكسة التي أصابت الوكالة في الضربة التي نفّذها همام البلوي، إلا أنه من الواضح أن هذه السياسة لا زالت مجدية للوكالة والوكلاء، وأن المستهدفين من هذه السياسة لم يستخلصوا العبر من بشكل كاف يرد عنهم هذا الاستهداف.

- مقاولات الحروب العسكرية والمخابراتية في نفس الوقت:-

وهو ما يجد أبلغ صوره في باكستان، وفي غيرها من الدول عربية وغير عربية، فقد صرّح وزير خارجية دولة عربية (بأن الأمريكان لا يفكرون بغزو بلاده، بل يدعمون جيش ومخابرات هذه الدولة، لمحاربة أعداء أمريكا، لأن الامريكان وصلوا الى نتيجة، بأن أفضل طريقة لحرب هؤلاء، هي بدعم أبناء شعبهم ليقاتلوهم) أي أن الوكالة أعطت هؤلاء وغيرهم وكالة الحرب على أعدائها، وتكتفي بدعم هذه الأنظمة مالياً وسياسياً وتدريبياً، وفي نفس الوقت تدير وتشرف على هذا العمل.

- مقاولات تدريب المستجدّين:-

بعض وكلاء الوكالة، وصلوا إلى درجة الاشباع والاحتراف في تخصصهم في العمل لصالحها، فأصبحت الوكالة تمنحهم (شرف) تدريب المستجدّين من أصحاب الوكالات الجدد في ما يعرف ب ( الحرب على الارهاب) فأصبحت بلادهم مركزاً للتدريب لقوات الوكلاء الجدد، وتجد أن هؤلاء يعملون إما تحت عناوين مختلفة، أو بالسر، وعندما يفتضح أمرهم، يفاخرون بعملهم في الحرب على ما يسمونه إرهاب أو ظلامية أو غيرها من المسميات.

- مقاولات التجسس على بلدان ومنظمات ومؤسسات بالوكالة، وللوكالة:-

قد تجد الوكالة أن هذا الجهاز المخابراتي يستطيع جلب أفضل معلومات عن هذه القضية أو الشخصية أو المؤسسة أو المنشأة الحساسة، لقدرته على الوصول وتحقيق الهدف، فيتم إسناد هذه المهمة، أو الاحتياج له، ويقوم هؤلاء الوكلاء بفعل ما تقتضيه شروط وكالة الوكالة، حتى لو كان ذلك يعني الخيانة والعمالة بعينها.

- مقاولات الحرب الاعلامية والاقتصادية:-

لم تقتصر حروب الوكالة، ومنح الوكالات للأجهزة الأمنية ( مخابراتية وعسكرية) أو للسياسيين فقط، بل تعدت ذلك بمنح وكالات لمؤسسات إعلامية وكتّاب أعمدة، ولشركات وشخصيات ومؤسسات إقتصادية في هذه الدول، وهذه المؤسسات والشخصيات تقوم بدور كبير في الحرب بكل الطرق على المؤسسات والشخوص والأفكار التي تناقض وتحارب المصالح الأمريكية في المنطقة، وتعمل على رهن الاقتصاد الوطني في البلاد والمناطق المستهدفة، ولقمة عيش الناس بيد الأمريكان عبر العديد من الوسائل، و تعمل حثيثة لتشوية وعزل من يقفون في وجه السياسة الأمريكية، وخلق رأي عام معادي لهم، وتعمل عبر خطوات مدروسة لغسل دماغ العامة، وتجميل السياسات الأمريكية، وتقبيح وتشويه ما يناقضها، إضافةً إلى بث الشائعات، واختلاق الأكاذيب وغيرها.

- مقاولة خدمة أمن " إسرائيل" :-

تعتبر هذه المقاولة الشغل الشاغل للوكالة ولمن تمنح لهم هذه الوكالة، ولم يعد خافياً على أحد أن مقاولة حماية الدولة العبرية، والسّهر على أمن حدودها ومواطنيها، تعتبر الثابت الرئيس في السياسة الخارجية والأمنية والعسكرية والاقتصادية والاعلامية الأمريكية، وتتجلّى هذه الأيام أنشطة الوكلاء والوكالة بأوضح صورها لخدمة هذا الأمن، والقيام بكل ما تقتضيه المقاولة، بالحرب على أعداء " إسرائيل" وحصارهم وقتلهم والعمل على تشويههم إعلامياً، ومحاربتهم اقتصادياً ومخابراتياً، وتقوية من يقاتلهم، والسعي الحثيث لإبادتهم واستئصالهم بكافة الطرق.

يتضّح مما سبق، أن حرب الوكالة ووكلائها على من تعتبرهم أعداءها، تدار وفق آلية كونية، وبالرغم من أنها ذات طابع أمني عسكري ، إلا أنها تشابه الأسلوب التجاري في طريقة عملها، عبر منحها للوكالات، وما تغدقه الوكالة على المقاولين من أموال وامتيازات وتسهيلات وتدريب وتسليح، يشبه ما عرف قديماً وحديثاً بحروب المرتزقة، وبالرغم من أن المقاولين يحاولون تغليف ارتزاقهم من وكالة الوكالة بعناوين كبيرة، كالحرب على الارهاب والتطرّف والظلامية والمصلحة العامة وجلب الخيرات، ودرء المخاطر والمغامرات، والحديث الدائم عن السيادة الوطنية، والأمن القومي والارتهان الاقليمي وغيرها من التعبيرات، إلا ان هذه التعابير لم تعد تستطيع تغطية وإخفاء حقيقة أدوار هؤلاء المقاولين.