هذا شعب حي
هذا شعب حي
والعراق عراق.. فاطمئنوا
علي الصراف
اطمئنوا.
برغم كل الجرائم التي تُرتكب بحق ملايين العراقيين، بكل ما تنطوي عليه من أعمال قصف وقتل وفرق موت وترهيب وفقر وتشريد وتعذيب، فأن شوكة العراقيين لم تنكسر.
أربع سنوات مرت، والأمريكيون يعصفون بهذا البلد عصف ريح عاتية، وينشرون الموت في كل مكان حولهم، ولكنهم خائفون، يرون في كل عراقي تهديدا. ويطلقون النار على أبرياء، على سبيل نشر الذعر، لأنهم هم المذعورون.
شهادات الكثير من الجنود، التي بدأت بالظهور الآن، (شكرا لمجلة "ذي نيشن") لا تكشف عن وحشية ما يفعله الأمريكيون بالعراقيين فحسب، ولكنها تكشف أيضا عن مدى الهستيريا التي بلغتها قوات الاحتلال ومليشياتها في مواجهة مدنيين عزل.
يقول أحد الجنود أن الأوامر التي لديه تقضي بالنظر إلى العراقي على أنه تهديد وبمعاملته وقتله على هذا الأساس، فإذا ظهر أنه مدني أعزل، فأنه يمكن وضع رشاشة في جواره، والقول انه قُتل خلال مواجهة مسلحة، ويمكن اعتقال الشهود وإرسالهم إلى السجون بوصفهم إرهابيين.
وهذه جريمة. إلا أن وجهها الآخر يقول أنها تعبير عن هستيريا جماعية تلاحق الجنود الأمريكيين قبل أن تلاحقهم عمليات المقاومة، وأصل الهستيريا يكمن في رفض العراقيين للاحتلال وسخريتهم من وحشيته واستعداهم لقبول الموت في مواجهته.
وشعب كهذا لا يقهر.
ومقاومته ما تزال ضارية، حتى لكأن الحرب في أولها، وهو يقاتل بكل ما أتيح له القتال به.
وفي حين لا تجد إدارة الشر في البيت الأبيض جنودا متطوعين للذهاب إلى العراق، تقول بعض الشهادات، إن الآلاف من أبناء الأسر العراقية التي فقدت واحدا من أفرادها أو التي هجرت من منازلها، تدفع إلى صفوف المقاومة شبانا قد يبلغون من صغر العمر 14 عاما، أو حتى أقل، الأمر الذي يعني أن كل أولئك الذين كانوا يبلغون من العمر 10 سنوات عندما بدأ الغزو، صاروا اليوم مقاتلين.
وسيكون هناك غيرهم، جيلا بعد جيلا، وسيظل العراقيون يدافعون عن وطنهم وشرفهم وكرامتهم في حرب مكتوب لهم أن يكونوا فيها هم الغالبون. ذلك هو حكم التاريخ الذي حُكم به لكل شعب يقاوم.
فهم عن وطنهم يدافعون،
وعن حقهم في الحياة يقاتلون،
وعلى الجريمة يردون، ومن القتلة يثأرون.
وكلما زادت جرائم الاحتلال، كلما التحق فوج جديد من الشبان إلى صفوف المجاهدين، وسنقول للغزاة: حسنا، تفعلون، هنا حتفكم، وفي جوار كل قبر تحفرون سيكون قبركم، ولئن بالكاد تمكن الرئيس جورج بوش من العثور على 30 ألف جندي إضافي، سرعان ما امتصتهم هستيريا القتل، فان تلك الهستيريا نفسها صنعت لنا مقاتلين جددا يعلم الله إلى كم منظمة جهاد ومقاومة ينتمون.
ومقاومتهم ليست مقاومة سلاح فحسب، إنها مقاومة رفض واحتجاج ووطنية فياضة أيضا.
كل الذين يرون ما يفعله الغزاة بإخوتهم، يتحولون، بطريقة أو أخرى، إلى مقاومين.
كل الأطفال الذين يرون آباءهم يسحبون من منازلهم ولا يعودون أبدا، يتحولون إلى مقاومين.
وكل الذين يُعتقلون ويُعذبون بتهم كاذبة، يتحولون إلى مقاومين.
وكل الذين يُهجرون من منازلهم، يتحولون إلى مقاومين.
وكل الذين خسروا، بسبب الغزو، رخاءهم وتفاصيل حياتهم الصغرى يتحولون إلى مقاومين.
إن لم يكن العراقيون مقاتلين أشداء من قبل، فقد صاروا، فكيف إذا كانوا في الأصل شعب بسالة وشدائد؟ وكيف إذا كانوا شعب مروءة وضمير حي؟
وشعب كهذا لا يقهر.
***
واطمئنوا،
لن يفلح الاحتلال في كسب أي شيء، لا سبيل، بعد كل هذا، إلى أن يستفيد المجرمون من جريمتهم.
لا نفط ولا غاز ولا أي شيء.
قد يستطيع الاحتلال أن يفرض على عملائه أن يصادقوا له على "قانون النفط والغاز" لكي يتيح لنفسه احتلالا اقتصاديا يدوم 50 عاما، ولكن كيف وهناك الملايين ممن يرون فيه جريمة؟ وكيف يوقع قانون كهذا وسط بحر من الدم؟ أي شرعية يكسب؟ وكيف في بلد ليس فيه قانون أصلا؟ وأية قيمة ستكون له فوق غزو كان هو نفسه جريمة؟ وإلى أين سيذهب أولئك الذين سيبصمون عليهم بحوافرهم؟ وكيف في بلد شكل تأميم النفط جزءا من هويته وتاريخه النضالي؟
المرء لا يستطيع أن ينظر تظاهرات العراقيين وانتفاضاتهم وثوراتهم وانقلاباتهم منذ أوائل القرن الماضي، من دون أن يرى خيط السيادة والاستقلال وحفظ حقوق العراقيين في أرضهم الذي أوصلهم إلى تأميم النفط.
والذين يجرؤون على توقيع "قانون النفط والغاز"، إنما يجرؤون على إهانة شعبهم وليس فقط تهديد حقوقهم في ثروات بلدهم، وما لم يكن هؤلاء الدواب حشاشين او أصابهم مس من الجنون، فأنهم لن يجرؤوا.
تا الله ذبح الخراف سيذبحون.
واحدا، واحدا سيساق الناجون منهم إلى المحاكم ليس لأنهم نواب ارتكبوا جريمة بحق مستقبل ومصالح شعبهم، بل لأنهم دواب عاثت في ما لا يحق لها أن تعيث فيه، وستسجل أسماؤهم في سجل عار لن يمحى ما بقي ابن شهيد يقول للظالمين: أين حقي؟
وما من شركة من شركات الاحتلال ستجرؤ على أن ترسل موظفين إلى العراق، سيذبحون، كما ذبح الذين من قبلهم لعلهم يتقون، أو إلى سجن أبو غريب سيرسلون، ومن تقف وراءه دولة "عظمى" فلترسل جيوشها لإطلاق سراحه.
وما من برميل نفط سيسمح العراقيون بشحنه إلى دول الأوغاد الذين ارتكبوا بحقهم كل ما ارتكبوا من جرائم. وسيكون من حقهم أن يطالبوا، قبل أية علاقات تجارية، بمحاكمة مجرمي الحرب أولا.
لن يكافئ العراقيون بالنفط أولئك الذين قتلوا أكثر من مليون إنسان وشردوا أربعة ملايين آخرين، واغتصبوا مئات بل ربما الآلاف من النساء، وعذبوا عشرات الآلاف من الرجال.
وعندما يخسر الاحتلال معركته، فأنه سيخسر كل شيء. هذه هي قواعد "الكاوبوي" أصلا وسنطبقها عليهم: الخاسر يخسر كل شيء، والرابح يربح كل شيء.
ومطاياهم سيُذبحون، وحسنا يفعلون إذا وضعوا حوافرهم على ذلك "القانون"، لأنهم سيوفرون للعراقيين سببا آخر للقول أنهم آخر ما نحتاج من دواب.
***
واطمئنوا،
المجرمون لن يفلتوا من العقاب.
سيظل صعبا ملاحقة جورج بوش وديك تشيني ودونالد رامسفيلد وتوني بلير وكل من لفّ لفّهم، إلا أن حجم الفظائع والأهوال التي ارتكبوها في العراق، هو نفسه سيكون حتفهم الأول.
فظائع بمستوى "الهلوكوست" لن تمر عبثاً أمام مجتمع دولي يحتاج (لخدمة مصالحه) أن يمارس النفاق ليقول أن لديه شيئا من الضمير، وانه لن يستطيع بالتالي حماية المجرمين إلى ما لا نهاية.
وسيحاكمون بوحشيتهم قبل أن يحاكموا أمام القضاء، وسيكون من الصعب على مؤسساتهم نفسها أن تتحمل وزر التواطؤ، أو التستر، مع ما فعلوا.
ما يحاولون اليوم التستر عليه سيُفضح، وبالوقائع والشهود والبيانات والوثائق سيُدعم.
وسيجعل العراقيون من كل عملية قتل وتهجير وتعذيب واغتصاب جزءا من سجل موثق بكل ما يمكن جمعه من معلومات وأسماء لضباط وجنود نشروا شهادات حول ما كانوا يفعلون، وذلك من اجل ألا يفلت واحد من قادتهم من الحساب.
ستكون المجزرة أسطورة، وسيكون لها متحف، وسنترك معالم الجريمة في كل مكان على حالها لتكون شاهدا خالدا، مثل مدينة درزدن وسجن اوشفيتز، على انحطاطهم ووحشيتهم. وسنلاحقهم بها إلى أبد الآبدين.
ولن يستطيعوا الزعم أنهم لم يكونوا على بيّنة مما يفعلون.
يقول اليستر كامبل مدير الاتصالات في حكومة توني بلير في كتاب مذكرات يحمل عنوان "سنوات بلير" أن هذا البلير "كان الوحيد بين كبار أعضاء الحكومة الذي لم تساوره الشكوك حول الحرب ضد العراق عام 2003".
ويقول كامبل الذي سجل جلسة مجلس الوزراء عشية التصويت الحاسم الذي جرى في 18 مارس-آذار 2003 لدعم الحرب "بدا جون بريسكوت، نائب رئيس الوزراء، وجون ريد ووزير آخر وكأنهم مرضى جسدياً".
ووفقا لمقتطفات من المذكرات، فإن ريد، وزير الداخلية البريطاني في ذلك الوقت، حذر مجلس الوزراء من أن عليهم أن "يفهموا أنهم سيحاكمون من قبل العراق الذي سيحل محل عراق صدام".
وأما كلير شورت غير الواثقة من أنها ستستقيل من منصبها كوزيرة للدولة للتنمية الدولية، احتجاجاً على الحرب، فقد قالت لزملائها "سأتعذب قليلاً طوال الليل".
لقد كانوا يعرفون أنهم يرتكبون جريمة ضد القانون الدولي، ولكنهم مضوا بها قدما.
وهم كانوا يعرفون أن قواتهم ترتكب انتهاكات وجرائم حرب، إلا أنهم صمتوا وتستروا عليها وحاولوا تخفيفها بكل الذرائع الغبية التي تعلموها من ثقافة الفاشيست.
فإذا كان قتل مليون ضحية عملا من أعمال "بضعة تفاحات فاسدة في السلة" فمن سيكون بحاجة إلى مجرمي حرب محترفين؟
وإذا كانت كل أعمال القتل والتدمير والتهجير ظلت تمارس على امتداد أربع سنوات، بالوحشية نفسها التي مورست فيها منذ اليوم الأول، "مجرد خطأ" و"عمل غير مقصود" فمن سيكون بحاجة إلى حرب إبادة شاملة؟
وبحر الدم الذي دفعوا عملاءهم إلى الخوض فيه، فسينفجر في وجوههم. ولكن لن يحل سلام، ولا يعود استقرار ما لم يوضع المجرمون في قفص الاتهام. ليدفعوا ثمن الآثام التي ارتكبوها بحق ملايين الأبرياء.
وكلما فعلوا اليوم أكثر، كلما كان العقاب أشد، وكلما كانت قسوة العراقيين أبلغ، وكلما كان الثأر شافيا أكثر.
فإذا كان العراقيون شعبا لا يقهر، فلأن عراقهم عراق في آخر المطاف.
انه خطير بموقعه، وخطير بعبقرية أبنائه، وخطير بتاريخه، وخطير بثرواته، وخطير بثقافته الوطنية، وخطير بصلابته، وخطير بقسوته، وخطير بعدم قابليته للتقسيم، وسيكون من المستحيل للجريمة ضده أن تمحى أو تزول.
وعندما يلتحق بساحات الجهاد من كانوا أطفالا عندما بدأ الغزو، فان الولايات المتحدة لا تفعل سوى أن تحفر قبرها في العراق.
وهذا ما سيكون، فاطمئنوا: الحق حق، والتاريخ تاريخ، لو كان الفرنسيون نجوا في الجزائر، فسينجوا الأمريكيون، وهؤلاء لو كسبوا في فيتنام، فسيكسبون في العراق. ولكنهم في طريق الهزيمة سائرون، وأصداء الهزيمة قد تعلو في الكونغرس، إلا ان أصواتها تعلو في العراق أكثر بكثير... بكثير.