القطة أكلت بنيها
القطة أكلت بنيها
أ.د/
جابر قميحةكنت في الثامنة عشرة من عمري في السنة النهائية من المرحلة الثانوية، حينما قامت الثورة الثورة المصرية سنة 1952على رأسها قائدها محمد نجيب الذي كان موثوقًا به على مستوى الشعب كله، ووقف الشعب وراء الثورة بشيبه وشبانه، ورجاله، ونسائه كان الشعب يأمل في حياة مناقضة للحياة التي كان يحياها في العهود "البائدة".
كان يأمل في "كفاية" حقيقية و"عدل" مطلق بعد عصر الإقطاع الظالم، والفلاح المطحون.
كان يامل في تحرير فلسطين بعد أن سقطت تحت أقدام عصابات "الهاجاناة وشتيرن" وأرجون زفاي ليومي، ومعروف أن إسرائيل قامت على الدم والعدوان، وكان شعبنا يأمل في وحدة عربية حقيقية تقوم على أسس راسخة ومبادئ ناصعة تستمد ماضي الأمة المجيد، وتعالج ما تعانيه الشعوب العربية من التخلف التقني، والاجتماعي، والاقتصادي أخذًا بأحدث الوسائل وانجعها وأكثرها تقدمًا.
كان يأمل في أن يتمتع بحرية حقيقية في التفكير والتعبير ونظام نيابي شورى حقيقي أمين بريء من التزييف والتزوير.
كان يأمل في "سيادة القانون" بعيدًا عن سيادة الرئيس، والحواريين من المنافقين والنفعيين.
فما الذي تحقق من هذه الآمال؟
واعتقد أن صوت "الواقع المر" الذي نعيشه من نصف قرن يعتبر أقوى جواب وأصدق بيان:
فقد أزيح "محمد نجيب" وبعد ضربه ألقى به معتقلاً في "أنشاص" لا رفيق له إلا عشرات من القطط كان يلقى إليها بفتات من بقايا طعامه، كما حوكم أبطال الثورة الحقيقيين من أمثال عبد المنعم عبد الرءوف، وأبي المكارم عبد الحي، وأصبح عبد الناصر هو الدولة والقانون، والحاكم المستبد المطلق الذي لا يقال له "لا" ولا ترد له مشيئة.
وتحولت الثورة البيضاء إلى ثورة دامية حمراء فاعدم العاملان: خميس والبقري ثم ظهرت براءتهما وأعدم عبد القادر عودة، وإبراهيم الطيب، وهنداوي دوير، ويوسف طلعت، ومحمود عبد اللطيف بعد افتعال "مسرحية المنشية" وادعاء محاولة اغتيال عبد الناصر، وأعدم سيد قطب صاحب ظلال القرآن وآخرون بتهمة تشكيل تنظيم إخواني لقلب نظام الحكم ونسف السد العالي!!
وأضاع الزعيم "الملهم" بعبقريته ما تبقى من فلسطين واستطاع بعبقريته أن يحصد لنا هزيمتين قاصمتين سنة 1956م، 1967م.
ونام "الثوريون" علميًا وتكنولوجيًا ثم أفاقوا من نومهم الطويل فإذا بإسرائيل تملك عشرات من القنابل الذرية، ومئات من الرءوس النووية وأصبحت في الصف الأول من الدول المصدرة للتكنولوجيا.
أما الوحدة العربية التي كانت هدفًا من أهداف الثورة فالحديث عنها يبدو مضحكًا بعد أن اكتشف العرب "منهج ثوارنا" في أحداث الانقلابات والفتن وشراء العلماء وانتهى الأمر إلى التطبيع والتنافر المخزي بين الحكومات العربية حتى أصبح بأسهم بينهم شديدًا.
وألغيت الأحزاب المصرية، ولم تعرف مصر بعدها "واقعيًا" إلا الحزب الواحد حزب السلطة هيئة التحرير ثم الاتحاد القومي، ثم الاتحاد الاشتراكي، ثم حزب مصر، ثم الحزب الوطني صاحب الأغلبية المزعومة، وأصبحت حياتنا ومجالسنا النيابية أضحوكة في أنظار العالم.
وغصت السجون المصرية بعشرات الالوف من الأبرياء ومنهم من قتل من التعذيب بلا ذنب جناه وضربت مصر رقمًا قياسيًا في تحمل "قانون طوارئ على مدى عشرين عامًا خنق فيها القانون والدستور وعطلت فيها أحكام القضاء وأصيب الاقتصاد المصري بانهيار شامل بعد أن أممت الدولة كل شيء، وحتى أكشاك الفول والطعمية، وأصبحنا نستورد 75% مما نأكل ونلبس بعد أن كانت مصر تطعم وتمون جيوش العالم في الحروب العالمية الثانية، وبعد أن كانت تقدم "معونات" غذائية لبعض الدول، والإمارات المجاورة وكذلك كانت تقدم مدرسيها وتتحمل في مرتباتهم. ونجحت "الثورة الميمونة" نجاحًا باهرًا في تفريغ الإنسان المصري من الداخل بإغراقه في بحر من المشكلات في الإسكان، والطعام، والملبس، والتعليم، ففقد الشعور بالسلام الاجتماعي، والاستقرار النفسي، وأصبح يشعر بالغربة الروحية الحادة في وطن لا مكان فيه للقانون، ولا مكان فيه إلا لمن أخذ نفسه بمنظومة النفاق، والكذب، والبراعة في السرقة، والاختلاس، و "التظريف" و "التليين" وإنا لله وإنا إليه راجعون.