اليوم آرامي.. غدا أسكيمو؟!
نبيل عودة
كاتب , ناقد وصحفي فلسطيني – الناصرة
*السؤال المهم ليس إنشاء قومية جديدة من غبار التاريخ. إنما ما هي الحقوق التي ستمنحها السلطة العنصرية لمثل هذه الأقلية، وما هو الدور التخريبي والتآمري المكلفون به؟*
أكبر نجاح لجبرائيل ندّاف انه أطلق ضجيجا، رغم انه سيئ الرائحة ونشاز بين الأصوات، إلا انه راض بما أطلقه. صحيح انه يرتدي ثوب الكهنوت ونحن نحترم الثوب ولا نحترم الشخص.. لذلك نمرّ بين الكلمات بحذر شديد لنحافظ على احترامنا لسلك الكهنوت الأورثوذكسي العربي الوطني في كل تاريخه من ان نخطئ بحقه بسبب تصرّفٍ فرديٍّ شاذّ لابْنٍ عاق. كذلك لا يمكن ان ننسى ان الكهنة العرب من جميع الطوائف المسيحية لعبوا أدوارا وطنية سجلت بحروف من ذهب في تاريخ شعبهم.
المطران غريغوريوس حجّار من طائفة الروم الملكيين الكاثوليك لقّب بمطران العرب لمواقفه الوطنية. من مواقفه المشهودة الشهادة التي قدّمها أمام لجنة التحقيق الملكية البريطانية المعروفة بلجنة بيل في عام 1937 رفض فيها تقسيم فلسطين وأكّد على الأخوّة المسيحية الإسلامية.
الأب الخوري سمعان نصار ابن الطائفة الأورثوذكسية والشخصية الوطنية والدينية المعروفة في الناصرة، كان من قادة الحركة الوطنية الفلسطينية ومن دعاة الوحدة الوطنية بين المسيحيين والمسلمين ومازلت أذكر خطابه الهام في جنازة جمال عبد الناصر التي جرت في الناصرة.
لعب المسيحيون العرب دورا مركزيا في إحياء القومية العربية وإنقاذها من سيطرة العثمانيين، وإحياء الثقافة العربية واللغة العربية بدل الذوبان في التتريك. يكفي ان أشير إلى ان أول مطبعة دخلت الشرق أدخلها الآباء اليسوعيون في لبنان، وهم ليسوا آراميين، بل هم طليانٌ وفرنسيون غيورون على لغة العرب وانتمائهم القومي والثقافي والديني، وان تطوير اللغة العربية الحديثة وتطوير مفرداتها لعب فيها أدباء المهجر المسيحيون الدور الأساسي والحاسم، ولم ينسبوا أنفسهم للآباء اليسوعيين أو للآراميين.. بل أكدوا عروبتهم ولغتهم وثقافتهم ووطنيتهم.. وكان المهجر بالنسبة لهم المنجم الذهبي لإحياء الثقافة واللغة العربية وتطوير مفاهيم الهوية الوطنية العربية.. ولم نشهدهم يذوبون في المجتمعات الغربية التي الأكثر تطورا ورقيا وحرية من مجتمعاتهم.
من "انجازات" جبرائيل نداف، بثوب كاهن، هو تفاهمه الشخصي مع السلطة العنصرية في إسرائيل لتجنيد المسيحيين العرب في حروب إسرائيل القمعية والعدوانية ضد أبناء شعبهم الفلسطيني أولا، وضد سائر أبناء شعوبنا العربية ولحماية الاحتلال والاستيطان ومواصلة سياسات التمييز العنصري ومصادرة الأرض وإبقاء العرب في قاع السلم الاقتصادي - الاجتماعي في إسرائيل.. ودعم سياسة التهرُّب من الاعتراف بوجود أقلية قومية عربية تشكل 20% من مجمل المواطنين، ليس صدفة ان التآمر على اللغة العربية لإلغاء مكانتها بدأ بـ"عصر نداف"، حتى رئيس الحكومة نتنياهو لا يقول كلمة "العرب" عند ذكر المواطنين العرب في الدولة بل مجرد "غير اليهود" فهل سيصير في إسرائيل "يهود وغير يهود وآراميون"؟!.
جبرائيل نداف صار من "نجوم السياسة" في إسرائيل. صوره الضاحكة مع بيبي نتنياهو ومع ساعر وسائر الشلة التي لا تعترف بوجود أقلية قومية عربية تنافس صور ممثلات هوليود في النشر الإعلامي.. فهل ستعترف العنصرية الإسرائيلية بأقلية قومية آرامية لا تتجاوز مائة شخص يقف على رأسها جبرائيل نداف؟
السؤال المهم ليس إنشاء قومية جديدة من غبار التاريخ. إنما ما هي الحقوق التي ستمنحها السلطة العنصرية لمثل هذه الأقلية وما هو الدور التخريبي والتآمري المكلفون به؟
سيقول نداف ان أبناء قوميته الجديدة ملتزمون بالخدمة العسكرية (وهل يلتزم بكل ما نتج وينتج عنها من جرائم حرب ضد شعبه السابق، الشعب العربي الفلسطيني؟) وبذلك يحصل نداف وأبناء قوميته الجديدة على الحقوق الكاملة غير المنقوصة، هذا الوهم تجاوزناه ولم نعد من التفاهة لدرجة انتظار تغيير في السياسات العنصرية دون نضال مكلف.
لنا يا جبرائيل ندّاف الآرامي الجديد، تجربة مؤلمة مع أبناء شعبنا من الطائفة المعروفية، الذين جُندوا للجيش وقدموا أرواحا غالية في خدمة سياسة احتلالية عدوانية لا علاقة لها بطائفتهم، رغم ذلك لم يحظوا بالمساواة لا في الميزانيات ولا مخصصات الأرض، بل صودرت أراضيهم أسوة ببقية المواطنين العرب، وواقع سلطاتهم المحلية أسوأ حتى من واقع السلطات المحلية العربية غير الدرزية، وانا لا أرى بالخدمة العسكرية في هذه الحال إلا عبئاً يحمل في جوهره المزيد من التمييز والمزيد من التآمر على التكامل الوطني والاجتماعي لشعبنا العربي الفلسطيني داخل إسرائيل.
الآراميون كانوا أصحاب حضارة ودافعوا عن وطنهم وكرامتهم ولم يذلّوا أنفسهم لأي قوى من أجل أي مكسب وهمي. ان انتسابك عنوة إلى قوميتهم، وهم غائبون منذ قرون، تحمل الكثير من التلوّن والارتزاق والأذى لأبناء شعبك الذين احترموك وقبلوك كاهنا، بدل نشر المحبة والتفاهم وقبول الآخر المختلف جئت باسم الكهنوت لفرض التفرقة والكراهية بين أطياف مجتمعنا وإعلان البراءة من شعبك. لا مشكلة لدينا بل نرحب بإعلانك انك لست منا ولسنا منك، نحن براء منك منذ حملت لواء التجنيد في جيش الاحتلال، نحن براء منك كنسيا أيضا لأن كنيستنا عربية وطنية قبل ان تكون مسيحية، بل هو مكسب عظيم ان يخرج من صفوفنا كل من لا يلتزم بجذوره وهويته وتاريخه. لو قام احد الآراميين من قبره اليوم لكان أول المتبرئين من نهجك وأفكارك المتصهينة.
هل يعرف نداف شيئا عن تاريخ الآراميين؟ هل يعرف ان أصولهم تعود إلى الجزيرة العربية..؟
لقد كُتب الكثير عن الآراميين وعن الدور الذي قاموا به في الشرق الأوسط على مختلف الصعد: السياسية والاجتماعية والحضارية واللغوية... وعن مدى انتشارهم في مختلف البلدان، لا سيما في أماكن عديدة من الإمبراطورية الآشورية، ثم في البلاد البابلية. أقاموا دويلات عديدة في بلدان كثيرة، لكنهم لم يفلحوا في تكوين إمبراطورية أو دولة قومية موحدة إنما مجموعة ممالك وإمارات يغلب عليها الطابع القبلي.
ان تجمّع هؤلاء الأقوام تمركز في سوريا، حيث اتّخذوا الشام (دمشق) عاصمة لهم، ومنها كانوا ينطلقون إلى محاربة الدول المجاورة، ولا سيما دولتَي إسرائيل ويهوذا العبريتين. فهل ستشد الخطى لمتابعة نهجهم القتالي أيضا؟
لقد شكّل الآراميون في سوريا، في عصرهم الحديدي الممتد من القرن الرابع عشر حتى القرن العاشر قبل الميلاد، أهم عنصر عرقي ولغوي. وانتشروا أيضا في طول بلاد بين النهرين وعرضها. وإذْ انهارت جميع الممالك التي أسّسوها أمام قوة الإمبراطورية الآشورية في نهاية القرن الثامن قبل الميلاد، فإن اللغة الآرامية أصبحت لغة الدولة الرئيسية في الشرقيين الأوسط والأدنى.. وهذا لا علاقة بنشوء قومية آرامية.. إنما بتطور لغة قابلة للتداول..
حتى اليوم تجري أبحاث تاريخية لمعرفة الهوية والانتماء العرقي للآراميين التي قرر جبرائيل نداف الانتماء إليهم. المؤكد في أبحاث كثيرة، إن هذه الشعوب التي أطلق عليها اسم "الساميون" هي في حقيقة الأمر قبائل عربية هاجرت بفعل العوامل الطبيعية من جزيرة العرب بحثاً عن الماء والكلأ، ومنها تفرعت الأقوام الأخرى مثل الآراميين... يؤكد هذا القول ما ذهب إليه الكثير من العلماء الباحثين في أصل الأجناس والسلالات من أن العرب هم أصل العرق السامي، من أرومتهم تفرعت الأقوام الأخرى وتشعّبت قبائلها ولهذا التحليل شواهد تاريخية وعرقية ولغوية. فهل تخرج من الباب لترجع لنا من الشباك؟.. سنصفّق لك إذا انتسبت لقبائل الأسكيمو.. أولئك بالتأكيد ليسوا عربا!!
كانت الآرامية نتاج القبائل العربية التي خرجت من الجزيرة العربية وانتشرت قبل المسيحية ب 12 قرنا في بلاد العراق والشام.
طبعا موضوع الآراميين واسع جدا، والذي لا بد من قوله ان نشوء قومية لم يكن بمجرد إقامة سيطرة قبلية على مناطق وإنشاء ممالك أو إمارات. نشوء القومية التي نعرفها اليوم لم يكن ممكنا في تلك الظروف قبل 35 قرنا والتي سادت التاريخ الآرامي، التسمية أصلا غير معروف مصدرها الصحيح. لماذا لا نعود إلى التسمية الأولى (الأخلامو( التي عرفت بها جماعات البدو الرحل القادمون إلى سوريا والعراق من الجزيرة العربية.. قبل ان يسمَّوا بالآراميين؟
مثلا نقترح بدون سخرية على نداف ان يستبدل القومية الآرامية بالقومية الأخلاموية وهو الأصل المتفق عليه للآراميين، وان يغير وزير الداخلية ساعر قراره من تسجيل القومية الآرامية إلى تسجيل القومية الأخلاموية؟؟
نشوء القوميات والدول القومية يفترض إنشاء دولة قوية واقتصاد قوي وحدود جغرافية ثابتة وبدون ذلك تبقى القومية ظاهرة لا توحد إلا أبناء القبيلة التي لا يتعدى عدد أفرادها 300 – 500 شخص!!
ليس بالصدفة ان نشوء القوميات القوية والدول القومية ذات الحدود الجغرافية الواضحة واللغات القومية هي ظاهرة ارتبطت بتطور الاقتصاد الرأسمالي. أي ظاهرة رافقت نشوء البرجوازية.. كل القوميات السابقة كانت قوميات قبلية غير واضحة المعالم وغير مبلورة نهائيا مهما اتّسع نفوذها واحتلالها لمناطق شاسعة في عالمنا.
نأمل ان تعرف بعض التاريخ الآرامي قبل ان تقرر ان تنسب نفسك لقومية لا احد يدفع عنها الأذى اليوم!!