ماذا ترك عباس لحماس من خيارات

ماذا ترك عباس لحماس من خيارات

د.عصام محمد علي عدوان*

[email protected]

منذ أحداث غزة غير المتوقعة، والمفاجئة للجميع، أقدم الرئيس محمود عباس على اتخاذ سلسلة قرارات وإجراءات ضيّقت الخيارات أمام عودة الحياة الطبيعية في الضفة والقطاع. فقد أقال حكومة الوحدة الوطنية التي ترأسها حماس؛ والتي تم الاتفاق عليها في مكة، وشكّل حكومة طوارئ دون سند قانوني، حيث نصت المادة (110) من القانون الأساسي للسلطة الفلسطينية على جواز الإعلان عن حالة الطوارئ لمدة لا تزيد عن ثلاثين يوماً. لكنها لم تنص على حكومة طوارئ. ثم عطل العمل ببعض مواد القانون الأساسي التي تشل المجلس التشريعي. ثم دعا لعقد اجتماع للمجلس المركزي لمنظمة التحرير؛ ذلك الذي لم يجتمع في أشد الظروف التي مر بها شعبنا خلال الحصار الدولي، وخلال الفلتان الأمني، اجتمع المجلس المركزي ومنح نفسه صلاحيات المجلس التشريعي، وهو ما سيعتبر توطئة أمام إقرار حكومة يريدها عباس بعد انقضاء الثلاثين يوماً من حالة الطوارئ، حيث ستُعرض تلك الحكومة على المجلس المركزي عوضاً عن التشريعي. ورفض أبو مازن أي حوار مع حماس قبل عودة الأمور في القطاع إلى الوضع السابق ، ثم أعلن عن عدم اعترافه بجوازات السفر الصادرة من القطاع، كما أمر بإلغاء تصاريح كل المنظمات الأهلية لضمان عدم تسريب الأموال لحماس وأنصارها. ثم وصف أبو مازن حماس بالانقلابية والخيانية، وألا حوار معها، في الوقت الذي يسعى فيه للالتقاء بقادة العدو، فيبتسم لهم ويصافحهم ويدعو لتفهُّم مطالبهم، ويدعوهم لاجتياح غزة. فماذا أبقى عباس أمام حماس في قطاع غزة من خيارات!!!!

إن إغلاق باب الحوار في الوقت الذي يدعو فيه رئيس وزراء حكومة الوحدة الوطنية للحوار، يقفل الباب أمام سبل معالجة الأمور بالطرق السلمية التي يرجوها شعبنا، ويدفع باتجاه خطوات دراماتيكية قد لا تسر عباس في نهاية الأمر، فهل يريد عباس من حماس أن تعلن نفض يدها من نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة، ومن إمكانية عودتها إلى الحكومة؟! أم يظن أن حماس يمكنها القبول بحكومة الطوارئ، أو أي حكومة تليها بدون اتفاق مع حماس؟! أم يريد الانفصال في الضفة الغربية، ويحقق فيها انجازاته التي لم يحققها في القطاع كي لا تُحسب إنجازاً في عهد حماس؟! فهل يريد بالتالي من حماس أن تسير في ركب الانفصال، فتنشأ المقارنة في نظر الشعب الفلسطيني بين حكومة يديرها أبو مازن على طريقته، وبين حكومة تديرها حماس، معتقداً أن العالم سيقدم له كل الدعم على براغماتيته، بينما يستمر الحصار على قطاع غزة بسبب تشدد حماس؟!!

لقد غدت الخيارات أمام حماس محدودة؛ فهي لن تقبل بحكومة طوارئ مخالفة للقانون. ولن تستمر إلى الأبد في عرض الحوار مع عباس للوصول إلى مخرج من الحالة الراهنة. وهو لا يُفسح مجالاً أمامها لدخول منظمة التحرير، ولن يرضى تشكيل حكومة تكنوقراط تهيمن خلالها حماس على قطاع غزة وتبسط سلطة المقاومة فوق كل السلطات. ولن تقبل حماس بإدارة مصرية أو عودة الاحتلال الصهيوني إلى قطاع غزة، تماماً كما لن ترضى مصر والعدو الصهيوني بعودة سيطرتهما على القطاع بعدما رأوا بأمّ أعينهم قوة حماس والمقاومة، ومدى التفاف الشعب حولها في القطاع.

إن الخيار الوحيد الذي تركه عباس أمام حماس في قطاع غزة أن تنفصل في كيان خاص بها. فهل ترفض حماس هذا الخيار أم تعيد صياغته بطريقة تكفل وحدة الوطن ووحدة الأهداف الوطنية ووحدة الشعب الفلسطيني حيثما وُجد؟!! والاستعراض التاريخي يحمل دلالات هامة في هذا السياق، على النحو التالي:

1-  سبق أن كان قطاع غزة حاضنةً لأول حكومة فلسطينية على مستوى فلسطين (حكومة عموم فلسطين) وعملياً تنطلق من غزة.

2-  رفضت الأردن حكومة عموم فلسطين وفصلت الضفة الغربية عنها وأعلنت ضمها، فغدت فلسطين ثلاث مناطق سياسية وجغرافية: الضفة، والقطاع، والأرض المحتلة عام 1948م.

3-  وضع احتلال إسرائيل للضفة والقطاع عام 1967م الإقليمين في سلة واحدة، وتعامل العالم معهما على أساس أنهما شيء واحد اسمه: المناطق المحتلة. وتجذّر هذا الربط بينهما من خلال قرار مجلس الأمن 242 الذي يعني أيضاً الاعتراف بإسرائيل على بقية فلسطين.

4-    رفض الفلسطينيون بداية فكرة الدولة في الضفة والقطاع بعد 1967م ووصفوها بالدولة المسخ.

5-  تبنت فتح ومنظمة التحرير فكرة الدولة في الإقليمين تدريجياً، توطئة للتعاطي مع قرار 242 وإقراراً بفشل مشروع التحرير، وبالتالي حرصت على الربط بينهما ربطاً حديدياً.

6-  رغم الربط الحديدي بينهما قبلت المنظمة إقامة سلطتها بداية في غزة وأريحا أولاً، على أمل أن تنتهي إلى دولة مستقلة فيهما.

7-    تخلت إسرائيل عن التزامها بإقامة دولة فيهما بعد خمس سنوات من أوسلو، ولم تقم الدولة.

8-  رغم فشل مشروع السلام وفشل سلطة أوسلو في بلوغ الدولة، إلا أن قادة من فتح والمنظمة استمروا في توفير الأمن لإسرائيل بطريقة عبثية خيانية.

9-  انسحبت إسرائيل من داخل قطاع غزة نتيجة انتفاضة الأقصى، بينما بقيت الضفة الغربية خاضعة لها. ولم تتمكن السلطة الفلسطينية من الربط بينهما برياً أو جوياً فترسَّخ الفصل بينهما.

10-        أدت عملية حماس ضد مواقع الأجهزة الأمنية في القطاع إلى انفصال عملي بين الإقليمين، ونشوء حكومتين، واحدة مُقالة في غزة، وأخرى للطوارئ في الضفة. ولم يعد رئيس السلطة قادراً على التوجه إلى غزة، كما لم يعد المجلس التشريعي قادراً على الانعقاد.

11-        أصبح قطاع غزة شاغراً من أي كيان سياسي رسمي، وخالياً من وجود الاحتلال في داخله أو على معبره مع مصر، وتسيطر عليه حماس التي لا تعترف بإسرائيل ولا باتفاقيات أوسلو، ولا بقرار 242. بينما بقيت في الضفة سلطة أوسلو خاضعة تحت الاحتلال الإسرائيلي ومعترفة به.

إن بمقدور حماس العمل على تشكيل قيادة وطنية موحدة باسم: "إدارة المناطق الفلسطينية المحررة"، تتألف من كل الفصائل الفلسطينية الفاعلة في هذه المناطق، تعلن رفضها لأي مشروع لتقسيم الوطن الفلسطيني، وتتخذ من القطاع قاعدة لتحرير فلسطين، وتحشد كل الإمكانيات باتجاه العمل على تحرير فلسطين. ثم تمد صلاحياتها إلى الضفة الغربية وكل جزء من فلسطين تتمكن من تحريره في المستقبل القريب. معلنة عن إلغاء كل الاتفاقيات السابقة مع إسرائيل وخصوصاً اتفاق أوسلو الخياني، مع ما يترتب على ذلك. ومن المعلوم أن هذه الإدارة سيكون بيدها أوراق ضغط عديدة تجاه إسرائيل، لتكف عنها يدها لأشهر أو سنوات، وتجاه مصر التي سيكون لها الأهمية القصوى لقيام إدارة قادرة على الحياة. وتعيد الإدارة الجديدة ترتيب الجهاز الحكومي على أسس وطنية وموضوعية نزيهة تراعي تقليص الأعداد لتقليص النفقات، مع إبقاء الكفاءات من العاملين سابقاً، وتنحية المفسدين والضعفاء. وتباشر بقطع الخطوط مع العدو من خلال: تغيير أرقام الهويات وإصدار بطاقات هوية جديدة، وإصدار عملة فلسطينية (أو مصرية عند الضرورة وبالاتفاق مع مصر). وتنفِّذ خطة اقتصادية تؤدي في محصلتها إلى الاكتفاء الذاتي، تستثمر خلالها مدينة صناعية في رفح المصرية يُتفق على إنشائها، واستثمار أراضي المغتصبات المحررة في المجالات الزراعية. واستغلال أمثل للبحر، فضلاً عن تشجيع الصناعات الصغيرة، والبرمجيات، فضلاً عن توفير منح عربية وإسلامية لتمويل مشاريع تنموية.

سيشكِّل هذا الخيار فرصة مواتية، ولأول مرة في تاريخ الشعب الفلسطيني، لأن يتولى الشعب الفلسطيني بمطلق إرادته اتخاذ خطوات جادة للنهوض من مستنقع الاتكالية والعيْش على أوهام السلام وحالة الفساد الأخلاقي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي المبني على أساس تلك الأوهام، ومن ثمَّ بناء إنسان فلسطيني مجاهد ومؤمن بحقه وقضيته وعامل في سبيل ذلك بشكل إيجابي وفعّال.

 كما أن هذه الإدارة ليست بحاجة لاعتراف العالم بها؛ إذ أنها ليست دولة، وهي لا تريد الانضمام إلى الأمم المتحدة، ولا أن يكون لها سفراء وقناصل، وعلَمٌ خاص بها، وليس لها دستور، بل هي مجرد إدارة لتسيير المناطق الفلسطينية المحررة، وهذا يجعلها خارج إطار سيطرة العالم إذ هي غير معنية ولا ملتزمة بالأمم المتحدة ولا بالقرارات التي صدرت وتصدر عنها.

إن إيجابيات هذا المشروع كثيرة، وفرص التغلب على العقبات التي يمكن أن تعترضه، كبيرة. وعندها سيجد أبو مازن أنه دفع بسلطته؛ سلطة أوسلو إلى الجحيم.

              

*أستاذ القضية الفلسطينية – جامعة القدس المفتوحة