كشف حساب
م.نجدت الأصفري
في نصف القرن الماضي تمتع معظم شعوب العالم بالإنجازات الهائلة التي حصلت في جميع مجالات الحياة الاجتماعية والصحية والعلمية والاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية ، وبإلقاء نظرة سريعة على بعض هذه التطورات نشاهد كيف أمكن تأمين الغذاء لجميع البشر الذين ظن الاقتصادي اليهودي مالتوس في نظريته التشاؤمية أمكانية أطعام البشر الذين يتزايدون مقابل محدودية مصادر الغذاء ، فأوجد نظريات لحل المعضلة حصرها بأسلوبين هما قتل كل الأطفال الذين يولدون دون الصحة التامة ، وإشعال الحروب بين البشر في الدول المتجاورة في كل أربع سنوات على أن تكون حصيلة القتلى تتحكم بنقص السكان المطلوب في مقابل الولادات التي حددها بما لا يزيد عن طفلين صحيحين لكل أسرة .
أما الدواء اليوم الذي ينقذ ملايين البشر من أمراض كانت في الماضي تحصد مجتمعات بأكملها أصبحت بفضل التقدم العلمي من الأمور السهلة وفي متناول الجميع ، حتى ما يسمى (الأمراض المستعصية ) كالعمى بالماء البيضاء والسل والأيدز أصبح أو تكاد تصبح كالصداع البسيط يعالج بحبة أسبرين فالأبحاث والمختبرات على قدم وساق في إيجاد الأدوية الناجعة لها إن لم يكن اليوم فهو من المؤكد في الغد القريب .وبالمجمل فقد زاد متوسط عمر الإنسان في معظم أقطار العالم بفضل الرعاية الصحية المتوفرة .
الحياة الاجتماعية بما طرأ عليها من وسائل الرفاهية والراحة للبشر وفرت للأسرة جميع الأجهزة التي تعين ربة المنزل في إنجاز أعمال البيت والأسرة بدون عناء ومشقة يساعدها أجهزة ومعدات كانت المرأة قبلها تعاني بدونها الأمرين .
الاقتصاد مع أن سكان العالم في تزايد مضطرد مع ذلك يزيد عدد الأثرياء في العالم بشكل متصاعد ملفت للنظر ، بينما كان المتوقع أن يزيد عدد الفقراء كلما زاد عدد الأغنياء ، لكن الواقع يدحض ذلك فهذه اليابان وألمانيا اللتين خرجتا من الحرب العالمية الثانية وقد دمرت بلادهم وبدؤوا بناءها من تحت مستوى الصفر أصبحوا ( رغم زيادة عدد سكانهم ) من أغنى شعوب العالم . ولن ننسى أن الصين ذات أكبر تجمع سكاني ( حوالي واحد ونصف مليار نسمة) التي كانت دولة نامية (فقيرة) في مواردها الاقتصادية لإطعامهم ، وإذا بها اليوم ذات أكبر وأقوى نمو اقتصادي تثير دهشة العالم ويحسب لها كل حساب.
كان في بداية القرن الماضي يسمى الغني هو صاحب المليون دولار ، بينما الآن لا يحسب من الأغنياء إلا من هو من أصحاب المليارات ، عدد المليارديرات هذا العام بلغوا 946 شخصا . لم تقتصر الثروة على هؤلاء الأثرياء بل تمتع معظم سكان البشرية بمستوى أفضل ودخل أحسن مما كان في الماضي
التكنولوجيا ، إذا كان هناك مجال يضرب به مثل في التطور الدراماتيكي في هذا المجال الذي جعل العالم قرية صغيرة يراها ويشاهدها كل البشر في كل لحظة على مدار الأربعة والعشرين ساعة في اليوم فهو الهاتف العالمي عبر الكبلات المحورية التي ربطت كل قرية ومدينة ببعضها بسهولة يستطيع أي شخص أن يتصل بأي شخص آخر حيثما كان على سطح الأرض أو في أعلي الجبال أو أعماق المحيطات بيسر كأنما تحدث جليسك بجانبك ، رافق ذلك التلفزيون والمحطات الفضائية التي استغلت الأقمار الاصطناعية فغطت كوكب الأرض والفضاء الخارجي وأصبح المتحدث خلالها كأنك ضيفه في غرفة استقباله. ثم ما لبث الكومبيوتر أن بزغ على الناس فأدهش الجميع تتصل بمن تريد كتابة ومحادثة ونقل صور ومستندات حتى يتوقع الخبراء بانتهاء دور دوائر البريد في العالم لتصبح دوائره كشركات الشحن لنقل الطرود والبضائع فقط .
ثم آخر ما حل في ديارنا هو الهاتف المحمول ، ذاك الذي أكمل الحلقة الرائعة في خدمة البشرية فقد تغلب على صعوبة الاتصال بشخص بعيد عن مكتبه أو منزله ، لكنه اليوم يتصل به حتى ولو كان في حمام السباحة أو مجاهل الغابات ، كما تضمن هذا الجهاز السحري آلة تصوير ومخزن ألعاب للتسلية وآلة حاسبة وجهاز إرسال رسائل لمن تريد من أي مكان على سطح المعمورة ورزنامة شهرية سنوية وآلة تسجيل للمحادثات مع إمكانية ربطه بالكومبيوتر .
هذا التطور الذي يصعب الإحاطة بكل جوانبه الإيجابية يقابله في دول أخرى انعزال شبه تام عن الحضارة والتطور ، فأين سوريا من هذا التطور ؟
فالزراعة والصناعة والتجارة والسياحة والرفاهية والاقتصاد والتسليح والنقل والأبحاث ، مواضيع لا يمكن الحديث عنها بأية صفة إيجابية لأن جميعها مرتبط بالحرية والكرامة للمواطن وهما عملة نادرة مفقودة في ديارنا منذ أن هبط علينا نظام ديكتاتوري أباح كل شيء لنفسه وعائلته وساق الناس كالقطعان إلى السجون والمشانق (آخر الإحصائيات تقدر عدد الذين قتلهم هذا النظام بلغ 149 ألفا) فانحدرت جميع مكونات المجتمع فهو ببساطة احتكر كل مصادر الثروة له ولعائلته ( السوبر ) فهذا البروفسور عارف دليلة عميد كلية الاقتصاد بجامعة حلب سابقا يقضي سجنا رهيبا في زنزانة أشبه بالقبر عقوبة له على محاضرة ألقاها يبين مسروقات العائلة الحاكمة من أموال الشعب المنكوب بما يوازي أربعين مليارا من الدولارات بينما الشعب يتضور جوعا وفقرا ومرضا ( تزايدت نسبة الإصابة بأمراض السرطان بنسبة 38% في محافظة ادلب ( المصدر – سيريا نوبلز ليوم 21 أيار لهذا العام) نسبة العاطلين عن العمل بلغ 62% من القوى العاملة .
السيارة حكر على الزوات من العائلة المالكة ومن يمشي في حذائها ، بينما المواطنون لا يزالون يقفون في حر الصيف اللاهب أو برد الشتاء القارص على مفترق الطرق ينتظر (شاحنة عابرة ) تحمله لزيارة والد مريض أو حضور جنازة عزيز .
الطعام يخلو من أية مواصفات صحية معتبرة ( زيت الزيتون يخلط بالزيوت العملية ويضاف له نكهات وأصبغة كيميائية ضارة بالصحة ) المصدر السابق ليوم 18 الشهر الجاري .
الدراسة لا تزال تحبو بين قصص الزير سالم وراس الغول ومعلقات عنترة العبسي وليس لما في العالم من تكنولوجيا أي وجود أو سمعة .نسبة مستخدمي الكومبيوتر في سوريا هي أقل نسبة في دول العالم العربي ، وإذا كان لدى مواطن جهازا فإن مقص الرقيب يتدخل في حجب ما لا يروق للسادة في السدة العليا .
الحرية والكرامة ( ساقي التطور والتقدم ) مكسوران مقصوصان كجناحين مقصوصين لطير هضيم لا ينفعانه في شيء بل يجعلانه صيدا سهلا لأي وحش عابر.
وأية حرية هذه التي يتشدق بها أذناب النظام ، والسجون تغص بكل من فتح فمه فيما لا يعتبر كفرا في الشرع ولا جرحا في تاج العظمة للرئيس ظل الإله في الأرض . فما هو ذنب ميشيل كيلو ، وأنور البني ، وكمال اللبواني ، ونزار رستناوي ، وعارف دليلة وغيرهم كثير إن أردنا تعدادهم عجزنا لأننا سنعد كافة أفراد الشعب السوري بكافة مكوناته وأعراقه الذي يستحيل أن تجد منه شخصا واحدا لم يتعرض لاعتقال وسجن وتعذيب وسرقة وإهانة وهدر لحريته وكرامته على يد أزلام النظام ، فإن قال قائل بأن رجالات الأمن بأنواعهم العصية على العد والنوع يقومون بهذه الأفعال غيابة عن سمع الرئيس وعلمه ( ونتمنى أن يكون ذلك صحيحا ) ولكن جميع الشواهد تثبت عكس هذه الأماني فليس من المعقول أن لا تصل إليه جميع هذه الشكاوى من كل أفراد الشعب المضطهد ،
فإن كان لا يدري فتلك مصيبة *** وإن كان يدري فالمصيبة أعظم.
لم تقتصر خزايا هذا الحكم بما فعله في سوريا بل مد شبكاته وحبائله لدور الجوار فعاث فيها فسادا ولا يزال يهدد ويتوعد ، ومن أغرب ما سمعته عنه ذلك الشاهد عليه من فمه عندما قال للأمين العام للأمم المتحدة (بان كي مون ) بأنه سيفجر المنطقة من بحر الخزر حتى البحر الأبيض وقد سجلها له الأمين العام وجعلها شهادة حية ضده كما يقال ( من فمك أدينك ) قد يستعجب القاريء عن مصدر القوة التي يستند عليها هذا الرئيس فتدفعه إلى مثل هذه الأفعال والأقوال العنترية وليس سرا أنه يستمد ذلك من المقايضة التي يتعامل بها مع نظام (محمود أحمدي نجاد ) فهذا يطلب منه تنفيذ أوامره في منح الملالي تسهيلات في خلط الأوراق المذهبية وزرع الفتن وهدر الشرف في إباحة المتعة ، وإيصال المحظورات من الأسلحة والذخائر لحزب الله لتدمير لبنان ليصبح رأس الهلال الشيعي المؤمل في المنطقة ، ويعده في المقابل بحمايته من المحكمة ذات الطابع الدولي ،ويعيد سلطانه إلى لبنان ، لكن المثل المصري المعبر في مثل هذه الحالة يمكن الركون إليه ( جتلك يا عبد المعين تعيني لقيتك يا عبد المعين تنعان) .
إن الخلل الذي خلقه هذا النظام في المجتمع السوري والمنطقة سوف يدفع المواطنين تحت ضغط القهر والفقر والمرض والحاجة إلى ما لا يرضاه عاقل أبدا ، لكن للصبر حدود لا تدري متى تنفجر ونتمنى أن لا تصل إلى هذا كي لا نرى ما يجري لدى جيراننا شرقا وغربا من مآسي تقشعر لها أبداننا ونعمل جاهدين على تهدئة المنفعلين كي لا تصل الأمور خارج السيطرة إلينا ، فمن نلوم عندها ؟
نسأل الله أن يجنب أهلنا ووطننا كل سوء ..... آمين