انتهازية الانتخابات
د.عصام محمد علي عدوان
أستاذ التاريخ المساعد – جامعة القدس المفتوحة
"من المعروف أن درجة قمع الاحتلال الصهيوني للقوى الفلسطينية تتناسب طردياً مع جذرية وصلابة نضال كل قوة منها، وهذا ما يجعل ظروف العمل أمام التنظيمات الأكثر جذرية في مقاومة الوجود الصهيوني أكثر صعوبة. بل وهذا ما يدفع هذه التنظيمات إلى تكريس معظم كوادرها وأعضائها لممارسة أساليب النضال الأعلى وإلى أن تأخذ أشكالاً من السرية أكثر صرامة. وهي بذلك لا تستطيع أن تسمح لأعضائها في أن يتهاونوا في كشف انتماءاتهم، بل إن ظروف النضال وطبيعة العدو نفسه لا تسمح لهم بذلك، وهذا ما يتيح الفرصة أمام القوى الأقل جذرية لأن تبدو وكأنها تقود الجبهة الوطنية الفلسطينية وأن تسخرها كمركز قوة لها، وأن تدعي لنفسها ما يحققه شعبنا من انتصارات تصنعها البندقية الفلسطينية".
قد يظن القارئ الكريم أن قائل هذه الكلمات إنما هو بعض الفصائل الفلسطينية قليلة الحظ في شعبيتها، حيث تسعى للتعويض عن ضعف جماهيريتها بأنها تحمل البندقية في وجه العدو الصهيوني. أو قد يظن البعض أن حماس قد قالت هذه الكلمات لتبرر – سلفاً – أي مفاجآت قد تتمخض عنها انتخابات المجلس التشريعي "القادمة"، فتبرر قصورها عن تحصيل الأغلبية بأنها ملاحَقة من قِبَل الاحتلال في الضفة الغربية، وقد حصلت الملاحقة بالفعل، ولم تعد تخمينات أو سيناريوهات محتملة، وإنما هي واقع عاشته وتعيشه حركة المقاومة الإسلامية حماس في الضفة الغربية، حيث اعتُقل العشرات من مرشحيها ومن القائمين على حملتها الانتخابية، وعشرات من عناصرها الفاعلة ومؤيديها، إلى الدرجة التي جعلت الكثير من مرشحي حماس يتخفُّون كالمطارَدين كي لا تتلقفهم أيدي الاحتلال قبل أن يخوضوا "المعركة الانتخابية" القادمة.
لكن المفاجأة أن قائل تلكم الكلمات إنما هي حركة فتح، وذلك في العدد الرابع من نشرة "فتح" الداخلية الصادرة بتاريخ 20/2/1980م في الصفحة 24، 25 تحت عنوان: "نحو جبهة وطنية فاعلة"، وكان ذلك رداً منها على بروز التيار اليساري في داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة بشكل بدا معه أكثرية، وبدت معه فتح وكأنها أقلية، رغم قيادتها للكفاح المسلح وللساحة الفلسطينية الخارجية آنذاك، بما يعني أن "الجبهة الوطنية الفلسطينية" التي كان من المزمع إنشاؤها آنذاك، سوف تهيمن عليها قوى اليسار الفلسطيني بدرجة تفوق كثيراً حجم نضالهم الوطني وخصوصاً الكفاح المسلح الذي قادته فتح وتصورت أن الآخرين سيقطفون ثمرته، وهو ما يعني تزويراً للحقائق، وطمساً وغمْطاً لنضال فتح والقوى التي تبنَّت الكفاح المسلح.
والآن: هل تقبل فتح بمنطقها الذي تحدثت به عام 1980م؟ وهل تقِرّ بأن نتائج الانتخابات في الضفة الغربية فيما لو جاءت لغير صالح حماس، أن ذلك عائد لملاحقة الاحتلال لقيادات وعناصر حماس بدرجة أثّرت على حجمها في الانتخابات؟ وهل تعترف فتح بأن هذا القمع الصهيوني لحركة حماس دليل على جذرية حركة حماس وصلابة نضالها؟ بل إن اتخاذ أشكال السرية من قِبَل حماس غير موجه ضد إجراءات الاحتلال فقط، وإنما خشية كشف عناصرها لقوى الأمن الفلسطينية أيضاً، التي تهيمن عليها فتح. ففي الوقت الذي تجري فيه فتح انتخاباتها الداخلية علناً لإفراز مرشحيها للانتخابات التشريعية المقبلة، تختار حماس مرشحيها بشكل سري، وبينما تتاح العضوية في حركة فتح بشكل علني، تضطر حماس لإتباع تقاليد السرية في ضم عناصر جديدة، بما يحد من سلاسة تعاملها مع الشارع الفلسطيني ويحول دون انضمام عناصر تخشى أو ترفض العمل السري، بينما ترغب في الالتحاق بحركة وطنية تعمل في العلن وغير ملاحقة من الاحتلال أو من قوى الأمن الوطني الفلسطينية.
والسؤال الذي يجب أن يقف أمامه الشعب الفلسطيني: هل إن نتائج الانتخابات التشريعية المزمع إجراؤها تعبِّر حقيقة عن الوزن الحقيقي لقوى الشعب الفلسطيني؟ أم أنَّ عوامل كثيرة تتحكم في هذه الانتخابات لتبرز إحدى القوى على حساب غيرها، مستفيدة تلك القوة من نفوذها في السلطة الحاكمة، ومن التوجهات الدولية لصالحها، ومن تغاضي العدو الصهيوني عن أنشطتها وأعضائها لظنه أن مصلحته تقتضي منه ذلك. وما دام الأمر بهذا الشكل، فإن منافسة غير متكافئة تخوضها الفصائل الفلسطينية لإفراز ممثلي الشعب الفلسطيني في الداخل، إنما هي منافسة غير شريفة، وغير نزيهة، وستفرز في كثير من نتائجها شخصيات انتهازية لا رصيد لها في سجل النضال الوطني الفلسطيني الحقيقي، وبهذا الصدد قالت حركة فتح (في مجلة "فلسطيننا"، عدد 36، إبريل 1964، ص5): "إن الانتخابات الحرة قد تكون مستحيلة عن أنها ستنبش الأحقاد والتحزب الأعمى وحتماً ستبعد العناصر الثورية الأصيلة لأنها لا تملك أدوات التأثير المادية وكذلك فهناك محذور آخر هو إكساب الشرعية لممثلين قد يخرجون على المسرح السياسي وينفذون قرارات يرفضها الشعب الفلسطيني قطعاً! ويحتمون بالشرعية، إننا نعلم مسبقاً بأن الصراع السياسي لن يبرز أبداً ممثلي الشعب الحقيقيين بل إنها الثورة المسلحة التي ستبرز هؤلاء".
إن من حق القوى الفلسطينية الفاعلة على الأرض، والتي قدمت التضحيات الجسام وقادت العمل المسلح، أن تتكافأ في فرص تقديم نفسها للجمهور الفلسطيني، وليس من حق فصيل دون غيره أن يُسَخِّر امكانات السلطة، وأن يستعين بقوى خارجية، أو يستخدم نفوذه في أجهزة الأمن المختلفة، وأن يظل ممسكاً بتشريع القوانين التي تلائم ظروفه عبر مجلس تشريعي قد انتهت مدة صلاحياته منذ سنوات، بما يحقق مصالحه الانتخابية ويحقق فوزه على الأطراف الأخرى، فتأتي نتائج الانتخابات بغير الواقع الحقيقي لهذه القوى، بما عبّرت فتح عنه سابقاً بأنه "انتهازية الانتخابات".