باريس عروس عواصم العالم.. تحترق
باريس عروس عواصم العالم.. تحترق ؟؟!!..
د . مصطفى عبد
الرحمنأكثر من أسبوعين وأحداث غريبة عصف بضواحي باريس وبقية المدن الفرنسية أسمعت الدنيا بطولها وعرضها صوت الجياع والمحرومين والمهمشين في بلاد الإخاء والحرية والمساواة وحقوق الإنسان.
أكثر من أسبوعين وسيارات تحترق وضواح تشتعل وأحداث شغب تهدأ هنا لتثور هناك.
أكثر من أسبوعين والسياسيون محتارون في كيف بدأت الأحداث والاجتماعيون منهمكون في تحديد أسباب هذه الأحداث والأمنيون عاجزون في وقف تلك الأحداث بينما دفعت الحكومة بكل وجهاء المدن ورجال الدين ومسؤولي الجمعيات المحلية أملاً في إقناع هؤلاء الفتية في وقف أعمال شغبهم وتهدئة ثورات غضبهم.
ولكن ما الذي أشعل الفتيل يا ترى؟
ثلاثة أسباب رئيسية:
أولاً: وفاة مراهقين في مدينة بإحدى ضواحي باريس:
أحدهما من أوصول تونسية والآخر من أصول سنغالية مصعوقين في مولد كهربائي في ظروف غامضة قيل أنهما كانا هاربين من الشرطة التي كانت تتعقب بعضاً من اللصوص في الحي وحتى هذه الساعة لم يصدر تقرير رسمي يؤكد هذه الرواية لكن قيل أن التحقيق لا زال مستمراً ومن يعرف القضاء الفرنسي يعلم أن سرعته تزيد قليلاً على سرعة السلحفاة المصابة بأنفلونزا الطيور.
ثانياً: إلقاء الشرطة لقنبلة دخانية مسيلة للدموع في داخل أحد المساجد:
في نفس المدينة التي بدأت فيها الأحداث وما أعقب ذلك من نفي الشرطة لذلك وعدم الاعتراف ومن ثم عدم الاعتذار رغم أن هذا لو حدث في مكان آخر لأي من دور العبادة لأية دين آخر أو ملة أخرى لرأينا تدافع السياسيين ونواب البرلمان يتسابقون للظهور على شاشات التلفزة لتسجيل استنكاراتهم وبحرارة شديدة ضد هذه (الهمجية) التي تحدث في ضاحية عاصمة النور باريس وليس في إحدى شعب أو أدغال مجاهل أفريقيا.
ثالثاً: كلمات نابية من وزير الداخلية:
وقد نسي أنه هو نفسه ابن لمهاجر هنغاري قد يكون والده عانى ما يعاني منه اليوم هؤلاء الفتيان.. في هذه الكلمات استخدم معاليه ملخصاً مركزاً لقاموس لايسخدمه عادة علاة القوم جمع فيها كلمة (أوباش) إلى كلمة (حثالة) ثم أشار إلى ما يمكن أن تزال به هذه الحثالة من الأوباش بعملية (التنظيف) والعجيب أن هذا السيد الوزير دافع وبشدة في لقاء تلفزيوني منذ عدة أيام عن أقواله المحترمة هذه.
كانت هذه هي الأسباب المباشرة ولكن..
ماهي الأسباب الحقيقية لما جرى ويجري؟
سببين رئيسيين:
أولاً: التهميش:
نعم التهميش..إنك لو دخلت إلى أي من هذه (الكانتونات) المهمشة سواء كانت في ضواحي باريس أو أية ضاحية من ضواحي بقية المدن الفرنسية في الشمال أو في الجنوب في الشرق أم في الغرب لشعرت أنك خرجت لتوك من فرنسا ودخلت في بلد آخر ولكن بفارق واحد أنك لن تصادف شرطياً يطلب منك فيزا الدخول ولا جمركياً يسألك ماذا تحمل من الممنوعات.. أحياء نمطية بائسة فيها العمارات الطوال والشوارع الضيقة بل الأزقة المتراصة يخبرك منظرها بقصة إهمال مزمنة وقد تكون متعمدة تجمع هذه الأحياء كل جنسيات العالم الثالث وترى بداخلها خليطاً عجائبياً من الفقر المدقع الذي يصبغ غالبية ساكني هذه الأحياء مرصعاً ببعض مظاهر الغنى الكاذب المتجلية ببعض سيارات (الميرسيدس) و(البي إم) والتي يقودها شبان في عمر لا يزيد على عدد أصابع اليدين والرجلين مجتمعة.. قطعاً لم يأتوا بأثمانها من حلال إنما من تجارات محرمة تعشش بل تنخر في أبناء هذه الأحياء وذلك على علم ومسمع من الدولة والتي لم تحرك ساكناً ومنذ عقود لاستئصال هذه الظاهرة الرهيبة طالما (على ما يبدو) أنها محصورة في هذه الأحياء.
ثم إنك لو سمعت كيف يتكلم الفرنسيون عن هذه الأحياء حيث يحيطون كلماتهم بإشارات فيها الكثير من الغمز واللمز و لا ينسون أن يسمعوك عبارات الاستهزاء والاحتقار وتستغرب وأنت تسمع لهم أنهم يتصورون أن حالة البؤس التي تعيشها هذه الأحياء لها ارتباط وثيق بعادات وتقاليد بل وبعقيدة هؤلاء المهاجرين!!.
ثانياً التمييز:
أما عن التمييز والعنصرية فحدث ولا حرج..ثلاثة أجيال من العرب والمسلمين تعيش اليوم في فرنسا ونحن على أبواب الجيل الرابع ولا زالت العنصرية هي هي.. ورغم أن نسبتهم واحد إلى عشرة إلا أن تمثيلهم في الحياة العامة من بلديات ونواب ووزراء تكاد لا تعلق في الهواء لخفة وزنها.
المشكلة في فرنسا أنك لا تعرف بسهولة من هو العنصري ومن هو غير العنصري، فرغم أن (جان ماري لوبن) زعيم حزب الجبهة الوطنية العنصري اليميني المتطرف يكسب في كل الانتخابات نسبة لا تزيد عن 15%إلا أنك كلما زدت الاحتكاك بالمجتمع أكثر لا حظت أن هذه النسبة متواضعة أمام الحقيقة.
إن الفرنسيين من أصول مسلمة قدموا أعظم شخصية رياضية في تاريخ فرنسا بل في أوروبا وقد يكون في العالم فمن لا يعرف (زيدان)ذلك اللاعب المهذب والذي هز العالم بقدميه يوم أتى لفرنسا ببطولة العالم لكرة القدم..تلك البطولة التي يجب على الفرنسيين أن ينتظروا قرناً قبل أن يحلموا بها من جديد.
إن الفرنسيين من أصول مسلمة قدموا أيضاً واحدة من أعظم الشخصيات الكوميدية في تاريخ الجمهورية الفرنسية وباعتراف الكثير من المراقبين.. فمن لا يعرف (جمال دوبوز) ذلك الكوميدي الذي يضحك الفرنسيين مجرد ظهوره على خشبات المسرح.. أما إن بدأ يتكلم فيغرق كل من يسمعه في سلسلة من موجات الضحك تستمر لساعات وساعات.
أما من الأطباء فهناك اليوم أكثر من اثني عشر ألف طبيب من أصول عبرية ومسلمة عانوا ما هو أمر من الأمرين حتى أثبتوا وجودهم وأخذوا مكانتهم اللائقة بهم في هذا المجتمع رغم ما طبق ويطبق عليهم من عنصرية حتى اليوم..ومن آثار هذه العنصرية أنك لا تجد أسماء عربية تلمع رغم أنها تحرك الكثير من عجلة الطب في هذا البلد وتتحكم في العديد من مفاصله ومراكزه.
ولو لم تجري معي بعض هذه المواقف العنصرية لما صدقت أنها بهذه الفظاعة والشناعة في بلد ولدت فيه حقوق الإنسان وماتت فيه الفوارق بين الألوان والأعراق كما يدعون.
نائب رئيس قسم عملت معه عشر سنوات ولما أصبح رئيساً للقسم بعد ذهاب رئيسه إلى التقاعد قال في مجالسه الخاصة وبوقاحة أنه سوف لا يبقي طبيباً عربياً في قسمه.. وفعلها فتركت أنا القسم طوعاً بعدما سمعت ما سمعت وذهبت زميلة لنا قسراً واستبدلنا بطبيبتين مبتدئتين كانتا إلى عهد قريب متدربتين عندي.
ذهبت إلى قسم آخر كانوا يبحثون له عن رئيس.. ولما أتيت أعرف بنفسي قالت لي الطبيبة الموجودة أن لك المؤهلات لاستلام القسم وأنها هي زاهدة بهذا المنصب.. ولما باشرت العمل تبين أن زهدها غير حقيقي ولا تقبل كما قالت في الخفاء أمام آخرين أن يكون طبيباً مهاجراً رئيساً لقسم تعمل به.. أمضيت سنة ثم رحلت بعد أن تيقنت أنني لا أقبلها تلميذة عندي لضعف مستواها وقلة خبرتها وسوء خلقها وسلوكها.
ذهبت إلى قسم آخر.. فاشترط علي رئيس القسم أن أشتري منه عيادته حتى يقبل بإعطائي هذه الوظيفة (استشاري) في المستشفى هل تصدقون؟!!أقسم بالله هذا ما حصل لي..ولما قلت له أن لدي عيادتي ومنذ سنوات ولا أستطيع ترك زبائني كما يعلم بهذه البساطة.. رد إن لم تشتري العيادة فليس لك وظيفة في هذا المشفى؟!! وبعد أن درست الموضوع خلصت إلى قرار بشراء عيادته مضحيا بعيادتي التي كانت على تماس باريس المدينة..والذهاب إلى هذه المدينة التي تبعد ثمانين كيلاً عن باريس.. وما الذي حصل يا ترى؟ الذي حصل (صدقوني أو لا تصدقوني) أنه عارض لمدة سنة ونصف أمام إدارة المستشفى حصولي على هذه الوظيفة دون أن يدري أحد أبداً السبب إلى الآن؟!!!.. ثم استفقت على نفسي وانتصرت لكرامتي وذهبت أهدده برفع قضية أمام المجلس الطبي والقضاء خلال ثمان وأربعين ساعة إن لم يوافق الساعة على حصولي على وظيفتي.. وهذا ما حصل وقبل صاغراً.. فما رأيكم؟
هذا ما يحصل مع الأطباء.. فما بالكم بحال صغار الموظفين وطبقات العمال والشغيلة وحاملي الشهادات البسيطة والشهادات المهنية وغيرها.
إننا نحب فرنسا فهي بلدنا الثاني وبلد أولادنا الأول ولا نحب لها إلا الخير شهد الله ولكن نحب أن يعلم المسؤولون في هذا البلد أن الجوع كافر والفقر قاس وأن العدل أساس الأمان وأن كلمة رسول كسرى في عمر بن الخطاب رضي الله عنه صادقة وهي دستور لكل مسؤول على وجه هذه البسيطة إلى أن يرث الله الدنيا ومن عليها حين قال:
حكمت.. فعدلت.. فأمنت.. فنمت