نعم سورية تحتاج إلى هامش من الحرية
ومزيد من الديمقراطية
محمد فاروق الإمام
منذ الاستقلال وبواكيره الأولى نعمت سورية بهامش من الحرية أتاح للمواطن السوري حرية الحراك السياسي عبر أحزاب متوزعة بين يمين ويسار (ليبرالية، وعلمانية، وماركسية، وقومية، وإسلامية)، وكان هذا الحراك السياسي المتنوع محطة جذب لباقي الشعوب العربية التي راح مفكروها ووطنيوها يتقاطرون على سورية لينهلوا ويتعلموا ويتثقفوا في مدارسها الفكرية والعلمية.. وغدت دمشق قبلة لكل أحرار العرب من مشرقه إلى مغربه، حتى حازت على لقب (قلب العروبة النابض) بامتياز.
ففي دمشق وجد أحرار الجزائر وتونس والمغرب واليمن وأرتيريا وليبيا وفلسطين والعراق اليد الحانية والصدر الدافئ لشحن ومد ثوراتها المتلاحقة في تلك البلدان بدم الحياة، حتى أن الشباب السوري الوطني المندفع لم يكتف بأن يكون المعلم والمنظر والمهندس والمدرب، بل راح الآلاف منهم ليشاركوا في هذه الثورات من الجزائر حتى العراق وجنوب اليمن وفلسطين باندفاع عفوي وغيور، باذلين الدماء في سبيل فوز تلك البلدان بالاستقلال والحرية.. لينعموا بما تنعم به سورية!!
أمام هذا الوهج الوطني الخلاق والمبدع للشعب السوري تصاعدت وتيرة التدخل الاستعماري – بأشكال مختلفة – بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية التي قادت الانتصار على دول المحور في الحرب العالمية الثانية، وحققت قفزة علمية وصناعية متطورة في سنوات قليلة، جعلت من اقتصادها يعادل اقتصاد العالم مجتمعاً، مكنها من أن تكون الدولة الأقوى في العالم، وبالتالي وجدت نفسها الوريث الوحيد للدول الاستعمارية الكبرى (بريطانيا وفرنسا) التي لم تعد تتحمل تبعات بقائها في البلدان المستعمرة، وقد أنهكتها الحروب وأتت على ثرواتها واقتصادها المنهار، فراحت تدس أنفها في الشؤون الداخلية لسورية التي تعتبرها أهم دولة في الشرق الأوسط من حيث الموقع الذي يتحكم بعقدة الطرق بين آسيا وأوروبا وأفريقيا، وبإطلالتها على البحر المتوسط، ونظرت إليها على أنها بوابة الشرق إلى الغرب وبوابة الغرب إلى الشرق، حيث الكنوز الدفينة والثروات الهائلة التي تحتاجها لديمومة سير عجلتها الصناعية ونجاحات مشاريعها الاقتصادية الهائلة، التي ابتكرتها وتوصلت إليها، وقد أخذت ثروتها النفطية بالتراجع والنضوب وهو يشكل ماء الحياة بالنسبة لها، ولابد من البديل.. والبديل هو في بلدان العرب وبوابته والطريق إليه هو سورية.
فراحت تحيك المؤامرات على هذا القطر المستقر، الذي ينعم بالديمقراطية والحرية ويمتلك اقتصاداً متيناً ومتنامياً ومتطوراً، يكاد يلامس قوة ومكانة الاقتصاد في الدول الغربية وينافسها من حيث الجودة والمتانة والكيفية والكمية.. وهذا الحال التي كانت عليه سورية جعلت الزعيم الماليزي مهاتير محمد يقول – عندما زار سورية في خمسينات القرن الماضي – بعد أن اطلع عن قرب على ما وصلت إليه الصناعة السورية: سوف تصل بلدنا ماليزيا إلى ما وصلت إليه سورية بعد خمسين سنة إنشاء الله!!
وتمكنت الأصابع الأمريكية الغادرة من بعض النفوس الضعيفة وتنفذ أول انقلاب عسكري في سورية عام 1949، أي بعد جلاء المستعمر الفرنسي عن أراضيها بثلاثة أعوام، على يد الجنرال الأرعن (حسني الزعيم) الذي تسلم مقاليد الحكم في البلاد وألغى الأحزاب وصادر الصحف ووسائل الإعلام، وأوقف العمل بالدستور، وساق رموز الوطن إلى السجون والمعتقلات، وأجبر بعضها على النفي والفرار.. وكل هذا تحت إشراف عملاء المخابرات الأمريكية وعين رعايتهم، التي جعلت من سفارتها بدمشق وكراً وملاذاً لهم.. ولتتالى الانقلابات فيما بعد بدفع منها وتأييد!!
وفي المقابل أخذت عجلة التقدم تتراجع في سورية تراجعاً مخيفاً، جعلت أصحاب رؤوس الأموال يفرون بأموالهم لاستثمارها خارج البلاد، وفي أماكن آمنة مستقرة تكفل حمايتها ونموها وأرباحها، في جو من الحرية والديمقراطية افتقدوه في وطنهم سورية.
وفي ظل هذا التسلط والظلم والاستبداد والشمولية والاحتكار والإقصاء والإبعاد والتمييز والانتقاء، راح المواطن السوري يطلب الأمن وينشد السلامة له ولأسرته ولو بالكفاف من العيش وضيقه، بعد أن سُرقت أمواله ومدخراته وثمار جهده وعرقه، بعيداً عن التفكير بالوطن وتقدمه وانتعاشه، والمنافحة عن حياضه، والذود عن أسواره، وهو الملاحق والمتهم والمهدد بالسجن والاعتقال والنفي.. وجيوش رجال أمن هذه الأنظمة الديكتاتورية المستبدة وحراسها تعد عليه خطواته وتحصي عليه أنفاسه وسكناته وتسجل عليه حتى مناجاته وأحلام نومه ويقظاته.
من هنا تغيرت المعادلة في سورية.. فلم تعد سورية تلك الدولة الفتية والنشيطة المتطلعة للتسابق مع دول الغرب، لتنحدر إلى ما دون دول العالم الثالث غير النامية، فكل دول العالم التي استقلت بعدها بسنوات – بما فيها ماليزيا – راحت تشكل هاجساً لدول أوروبا وتنافسها بالابتكار والصناعة وغزو أسواق العالم بمنتجاتها وصناعاتها وبضائعها المتنوعة، ولتصل إلى مستويات عالية في دخل الوطن ومواطنها، في حين أن سورية يعيش ثلث سكانها دون مستوى الفقر أو في حدوده، والجفاف وسوء الإدارة والتنظيم وسوء الأمانة وتفشي الفساد والرشوة، واستئثار 5% من الحيتان التي لا تشبع بكل الثروات والنشاطات التجارية واحتكاراتها، والقضاء على الطبقة المتوسطة التي هي عماد اقتصاد الوطن وحيويته، وإلى البطالة الكبيرة بين فئات الشباب، دفع بعضهم يقدمون – بشكل ملفت للنظر – على الانتحار، ووضع حد لحياتهم، كل هذا جعل سورية تصل إلى ما وصلت إليه، من ركود اقتصادي وتخلف مزمن!!
إذن فسورية – حتى تعود إلى ركوب طريق التقدم والاستقرار والأمان – بحاجة إلى الإصلاح، وبحاجة ماسة وضرورية إلى هامش من الحرية ومزيد من الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، التي عرفتها في بواكير سنين استقلالها الأولى، ليتحمل كل السوريين أمانة تقدم وبناء سورية والتصدي لأعدائها، في وحدة وطنية حقيقية لا يُقصى فيها أحد ولا يُبعد، دون تمييز بين الانتماء الفكري أو الديني أو المذهبي أو العرقي، فهوية الوطن من حق الجميع، حتى إذا ما طالبت سورية الآخرين بقيام وحدة وطنية في بلدانها، تُحترم هذه المطالبة وقد كانت سورية القدوة والمثل !!