الشجرة الشهيدة

صالح أحمد البوريني

الشجرة الشهيدة

صالح أحمد البوريني/عمان

عضو رابطة الأدب الإسلامي

[email protected]

نشرت صحيفة الدستور في عددها الصادر يوم الإثنين 28/11/2005م خبرا عن حملة أمنية في قطاع غزة استعدادا للانتخابات التشريعية ، وقد جاء الخبر مشفوعا بصورة لامرأة فلسطينية من قرية ( سالم ) وقد امتزجت في عناق حار مع جذع زيتونة من مائتي شجرة من أشجار الزيتون التي أعدمتها قوات الاحتلال الإسرائيلي في قرية سالم .

بدا وجه المرأة ( السالمية ) التي انفجرت بالبكاء غنيا بتعبيرات الحزن واللوعة ، وكأنها تودع ولدها الشهيد إلى قبره ، التف ذراعاها على جذع الشجرة ؛ المتكون أصلا من فرعين ضخمين متعانقين ؛ كأنهما يدان ترتفعان إلى السماء ؛ تشتكيان إلى الله تعالى ظلم الاحتلال ، وقسوة الإذلال ، وصولة البطش والتنكيل الصهيوني ؛ حتى بالشجر الذي يهب الأرض ظلها وخضرتها ، ويهب الإنسان قوام حياته وقوت عيشه ، ولعلهما لو نطقا في دعائهما لاشتكيا إلى الله تعالى صمت العرب والمسلمين ، وسكوت العالم كله على هذا الظلم والامتهان ؛ لحرمة الأرض وكرامة الإنسان .

 أي بشاعة تلك التي تظهر فيها آلة البطش الصهيوني المحتل ؛ وهي تقتل الحياة على أرض الحياة !! وتفتك بالخضرة وتطيح بالشجر والزهر والثمر ، وتقتل معها أمل القلوب ، وبريق العيون ، وتعب الأيدي وكد الأجساد التي جهدت عمرها ونزفت عرقها وهي تخدم هذه الأشجار المباركة ، ورافقتها في رحلة الحياة ، ترعاها صباح مساء ، وتحنو عليها حنو الأم على صغارها ، وتعتني بها كما تعتني بنسلها الذي تعده لمستقبل الحياة !!

 ما ذنب تلك الشجرة المباركة ، التي تمد الحياة بنور زيتها ، وبريق حباتها التي تزين بها جيد الوفاء والتضحية ، وأمل المستقبل المشرق !؟ ما ذنب فروعها التي كانت تميل مع نسمات الصباح ، وتتراقص على أنغام البلابل والطيور !؟  وما ذنب أغصانها التي باتت أشلاء ممزقة على الثرى !! وبقايا جسد شجرة شهيدة ؛ قد بعثرتها غطرسة الحقد المجنون ، وموجة الحقد العارم على الحياة !؟ تدفعها يد الشر والعدوان وآلة البطش والتدمير ؟!

 والماجدة (السالمية ) ؛ ذراعاها تلتفان على ساقي شجرتها المبتورة الشهيدة .. وخدها يلتصق بخد الزيتونة الباكية الحزينة .. وقد انطلق صوتها بالبكاء واصطبغ وجهها بلون الحزن العميق .. صورة تعبر عن أقسى مشاعر الفقد ولوعة الفراق ، وحول  جذع الشجرة المباركة أشلاء الأغصان والفروع هامدة جامدة .. وفي أفق الصورة آلة القمع يقبع فيها جندي إسرائيلي يستمتع بمشاهدة المنظر .

لماذا تجرفون المزارع ؟ وتقطعون أشجار الزيتون والتين ؟؟ هل من دليل أوضح من هذا على أنكم تعادون الحياة ؟؟  وتعشقون القتل والدمار .. !!

الزيتونة شهيدة .. كمـا هي الطفلة ( إيمان ) الرضيعـة شهيـدة ..وكما هو الطفل ( محمد الدرة ) في حضن أبيه شهيد .. وبنت سالم تعانق جذوع الزيتون والتين .. أقرأ في عمق الحزن ولوعة الفراق شدة الشوق إلى الشهادة .. وعمق الحب للحياة .. والإصرار على أن  ينتصر أحباب الحياة .. وعشاق الشمس وبناة الحضارة وصناع الخير .. وأنتم سوف تمرون كما مر غيركم .. لا بقاء لكم فيها .. ويظل عشق الأرض والزيتون ، وحب الحياة باقيا ؛ يسقي شجرة الحياة في عروق هذا الشعب العظيم شعب الحب والحياة والشهادة والتضحية .

الحياة تلد الحياة  ، والشمس ترسل النور إلى الكون ولا تطلب أجرا ولا عوضا .. ويد البطش الأثيمة تمتد لتقطع عروق شجرة الزيتون والتين .. الشجرتين المباركتين .. بينما تعتني اليد الآثمة بزراعة شجرة الغرقد  .. لأنها الشجرة التي يحبها اليهود .. ويكرهون تيننا وزيتوننا .. والله تعالى أقسـم بالتيـن والزيتون ، النبي صلى الله عليه وسلم أوصى خيرا بالشجرة ونهى عن قطعها أينما كانت .. وبذلـك أوصى دعاته المبشرين بالإسلام ، وقادته الذين حملوا الرحمة إلى شعوب العالم  .. وأخبر أن الشجر والحجر في أكناف بيت المقدس ، كله ينطق في آخر الزمان ويشهد على عدوان اليهود .. بل ويكره وجود اليهود المعتدين ويدل على رجسهم وخيبتهم ويشير إليهم .. كل الشجر يشهد عليهم إلا الغرقد .. وهو شجر أقرب إلى طبيعتهم  ، فهو كثير الشوك غير مثمر .. إنهم يقتلون الأشجار المباركة المثمرة كما يقتلون الإنسان.. ويعتنون بالشجر ذي الشوك ليكون سياجا حولهم .. أليس هذا منسجما  مع طبيعتهم الشوكية ودخيلتهم العدوانية الشريرة !!

ولكننا نقول لهم : إن يد البطش الأثيمة مهما امتدت لتقطع عروق الشجر المبارك ؛ فإنها لن تستطيع أن تقطع عروق الحب والتعلق بالأرض ، ولن تقدر على قطع حبال عشق التين والزيتون .. وليمتزج زيت الزيتون بدماء الشهداء .. ولتغتسل حبات الزيتون بدموع أم سالم وأخت سالم وابنة سالم وبنات فلسطين كلهن .. فلن تكف الأيدي الطاهرة عن زراعة الحياة في أرض الحياة ..  ولتنطفئ شعلة الحقد .. ولتكن يا زيت الزيتون وقودا يمد شمس الحياة بالنور .

بوركت أيتها الماجدة الفلسطينية التي عانقت شجرة الزيتون الشهيدة ؛ فقد رسمت بهذا العناق أجمل صورة للحب ، وأعظم تمثال لعشق الحياة والإصرار على الشهادة .. سلاما على شجرة الزيتون .. سلاما على التين والعنب والبرتقال والليمون .. سلاما على أرواح الشهداء .. سلاما على فلسطين الجريحة .. كل فلسطين الماجدة المتدفقة بالحياة .. سلاما على الأيدي التي تهب الحياة خضرتها ونضرتها وتكسو وجه الأرض ببهاء التين والزيتون .. وسحقا لأعداء الشمس والحياة .. ولا نامت أعين الجبناء .